فتاوى الفتنة: من ابن تيمية إلى رابطة المغرب العربي

0

عبد الله الجباري – ريحانة برس

في الفقه أقوال مختلفة، منها ما استقر عليه العمل في مجتمع ما، وترجح لدى أهله أهل الحل والعقد، ومنها ما استقر العمل عليه في مجتمع آخر. ومن الصعب جدا الإفتاء بخلاف القول المعمول به خصوصا في مجال المعاملات، وهذا ما يعبَّر عنه بوحدة العمل القضائي.

فالقول الذي استقر عليه العمل في البيع او الإجارة أو الكراء أو الزواج أو الطلاق يجب الالتزام به في مجال الفتوى، ولا يجوز الإفتاء بغيره لئلا يقع الاضطراب المجتمعي.

والقول بخلاف هذا هو مدعاة لخلق الفتن في المجتمع، وهي فتن نعرف أولها ولا نعرف آخرها.

ومن أمثلة ذلك فتوى أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله في طلاق الثلاث. وهو الطلاق الواحد الذي يكون بلفظ الثلاث، وقد استقر العمل الفقهي القانوني في عصر ابن تيمية أنه بائن بينونة كبرى، وكان لابن تيمية رأي آخر، وهو أنه طلقة واحدة ليست بائنة.

هنا نميز بين مقامين:

المقام الأول: مقام البحث العلمي والاجتهاد.

من حق ابن تيمية أن يجتهد وأن يؤلف في المسألة رسالة أو مصنفا، ومن حقه أن يناقش علماء عصره في الموضوع ويبسط أدلته وينقض أدلتهم ويناظرهم.

المقام الثاني: مقام الفتوى.

ليس لابن تيمية أن يفتي خلافا لما استقر عليه الفقه في عصره، لأن فتواه لأصحاب النازلة بما يخالف ما جرى عليه العمل ستسبب الفوضى الخطيرة.

وبيان ذلك كالآتي:

رجل طلق زوجته بالثلاث، وصارت (بناء على ما استقر عليه العمل الفقهي) حراما عليه لا تحل له إلا بعد زواجها من شخص آخر.

وزوجان آخران من نفس العائلة وفي نفس الحي وفي نفس المدينة وقع بينهما نفس الطلاق بنفس الصيغة، فيذهبان عند ابن تيمية فيفتيهما بجواز الإرجاع وأن الطلاق غير بائن، فيرجع الزوج زوجته بكل يسر وسهولة.

هنا تقع المشكلة: العائلة كلها تنظر إلى الرجل أنه يعيش في حرام مع زوجته، والجيران ينظرون إلى الأبناء بعد الإرجاع أنهم أبناء غير شرعيين، وأهل الحي يلمزون الجميع.

تصور أننا في هذه الحالة، فإننا في فتنة خطيرة، والمسألة ليست فتوى في قضية شخصية ذات صلة بالعبادات مثل الصلاة بالقبض أو السدل، بل القضية أخطر وتمس الأعراض.

لهذا الاعتبار ولغيره قال العلماء عن ابن تيمية: علمه أكبر من عقله.

أي نعم، كان الرجل عالما، ولم يكن رزينا ذا تؤدة، فكان يوقع الفتنة، وحين حوكم من قبل القضاة والعلماء، لم يحاكموه ترسيخا للاستبداد والظلم كما يحلو لأتباعه أن يسوقوا ذلك، بل كانوا يحاكمونه لأنه يخرج عن القانون ويفتي بخلافه فيوقع الفتنة في المجتمع،

مثال تقريبي: لو أن قاضيا في عصرنا أصدر أحكاما قضائية مخالفة للنصوص القانونية الصريحة، فإن من حق الهيآت القضائية أن تعرضه على التأديب، وهذا لا يعتبر تحجيرا عليه أو استبدادا، بل هو مندرج ضمن حسن تدبير المرفق.

وهذا ما وقع بالضبط لابن تيمية رحمه الله.

ومن أمثلة ذلك أيضا أن ابن تيمية كان يخلق الفتنة بتحريم زيارة القبر النبوي المعظم وتبديع أصحابه، ولو ألف في ذلك كتابا وكفى لنوقش، أما أن يفتي به وينشر ذلك بين أتباعه وتتغير نظرتهم تجاه أقاربهم وجيرانهم الذين توجهوا للزيارة النبوية ويعتبرونهم مبتدعة مع ما يترتب عن ذلك من الازدراء والهجر والمقاطعة، هنا نتبين وجاهة العلماء الذين حاكموه، ونتبين وجاهة ما قيل في شأنه: علمه أكبر من عقله.

ومن أمثلة ذلك أقواله المصرحة أو الموهمة للتشبيه، وهي من آفاته، وقد أحدثت فتنة في المجتمع، ولم تكن فتنة فروعية، بل كانت فتنة عقدية قسمت المجتمع الدمشقي إلى قسمين أحدهما يكفر ويبدع الآخر، لذلك كانت وجاهة المحاكمة.

تنبيه: بعض أتباع ابن تيمية يروجون لسجنه ويربطونه بنضاليته، وهذا غير صحيح، فإن سيرة ابن تيمية واضحة لم يسبق له أن كان مناضلا ضد حاكم، بل كان الحكام يتدخلون لإخراجه من السجن الذي يُدخله إليه العلماء.

ومن الأمثلة على إيقاع الفتنة المجتمعية بسبب الفتوى، ما صدر مؤخرا عن جمعية تأسست في تركيا ونالت ترخيصها بسويسرا واسمها: رابطة علماء المغرب العربي، وهي رابطة لا نعرف بالضبط أعضاءها وأسماء قيادييها، وقد أصدرت فتوى تقرر بكل يسر وسهولة دون تلعثم أو تثبت أن الزواج الذي تباشره النساء أثناء تنصيبهن للشهادة (مهنة العدالة) هو زواج باطل.

هكذا بكل يسر وسهولة يعمدون إلى إبطال زواج دام مدة من الزمان.

وغني عن البيان أن النساء العدلات باشرن الإشهاد والتوثيق في الزواج منذ سنوات بالمغرب، وأن هذه الفتوى ستنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، وستخلق انزعاجا وفتنة في الأوساط المجتمعية، فالذين تزوجوا بالإشهاد الأنثوي يتساءلون عن مدى شرعية علاقتهم الزوجية، وعن مدى شرعية أبنائهم.

والناس من عائلاتهم وجيرانهم يتساءلون خفية وعلنا عن علاقة هؤلاء المتزوجين، وأن علاقتهم الآن بعد صدور هذه الفتوى ليست سوى علاقة بين أخدان، وهذا يهمس من هنا والآخر يلمز من هناك، أما إذا وُجد ضمن أقارب أو جيران هؤلاء المتزوجين بعضُ المتشددين المتطرفين الذين لا يؤمنون إلا بقول وفتوى هؤلاء الشيوخ الفتانين، فالأمر سيتعدى ذلك إلى القطيعة، خصوصا أنهم ممن يؤمن بسنية الهجر حسب زعمهم، وقد يتجاوز الأمر إلى التحريض للنهي عن المنكر، وقد عرفت بلادنا قبل سنوات، وما بالأمس من قدم، إقدام بعض المتشددين والمتطرفين الذين كان يقودهم محمد عبد الوهاب رفيقي وغيره من شيوخ التطرف إلى ممارسة العنف بدعوى التعزير والنهي عن المنكر. فمن يضمن لنا عدم هياج العامة على هؤلاء المتزوجين بناء على هذه الفتوى.

ملاحظة: قرأنا الفتوى وبينا أنها بعيدة عن العلم وغير مؤسسة على قول معتبر أو دليل، وإذا قال العلماء عن ابن تيمية: علمه أكبر من عقله، فهؤلاء الفتانون لا علم لهم ولا عقل. لذا وجب الأخذ على أيديهم، وأي تبعات مجتمعية وقعت لا قدر الله في هذا الباب فإنهم يتحملون المسؤولية المعنوية عليها، لأنهم هم من أعطاها الغطاء الشرعي.

لذا، يجب على رابطة “علماء” المغرب العربي أن تصدر على وجه السرعة بيانا تتراجع فيه عن فتوى الفتنة والضلال، وأن تعتذر عنها، وأن تبين لأتباعها من العوام والسذج والسطحيين والحَرْفيين أنها براء مما قد يقع. كما أنه يحق للمتضررين سواء من الأزواج الذين باشرت النساء عملية الإشهاد على زواجهم أو من السيدات العدلات أو من نقابة العدول أو من المؤسسات الوصية على القطاع أن ترفع دعوى قضائية على هؤلاء الفتانين الذين يزعزعون الثقة في أقدس عقد وأقدس رابطة مجتمعية، ضمانا لاستمرار الثقة فيها دون أن يخدشها مراهق بدعوى العلم أو الفتوى، ودون أن يُلمز الأزواج وأبناؤهم بما لا يليق من العبارات والنظرات.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.