مقال الرأي لا يلزم الا صاحبه ولا يعكس الخط التحريري للموقع

0

 

محمد سعيد – ريحانة برس

نحتاج اليوم لدولة مدنية لا دينية ولا سلطوية، نحتاج اليوم لدولة الحقوق والحريات لا دولة ترهيب وقمع الحريات، فهذه الدولة المدنية التي نحتاجها هي الوضع الطبيعي الذي يحافظ على المنظومة القيمية الراهنة والملحة، كالحرية والحق والعدل وكرامة الانسان واحترام خصوصياته، فالمنظومة التراثية التي أسست بها السلطة السياسية لمشروعيتها تعيش ازدواجية ثقافية اليوم، واحدة واقعية والثانية متوهمة، وذلك لسبب بسيط، هو أننا نعش في تاريخ مغلوط سواء على مستوى الدولة أو مؤسساتها.

فبدءا من الدولة يعتقد المسلمون أنها كانت منذ البداية ذات طابع ديني، وهذا خطأ، أولاً، لأن الإسلام لم يقصد أبداً أن ينشئ دولة، حيث لما توفي نبي الاسلام ترك أمر الناس للناس، فلن نجد بالقرآن ولا الأحاديث المنسوبة لنبي الاسلام نصاً يتحدث عن شكل الحكم، أوعن مفهوم الدولة أو شكلها…، صحيح أن هناك منطلقات وقيما كونية، وهي مازالت كذلك، لأن الاحتكام فيها يكون إلى قيمة العقل، كالعدل والحرية والكرامة، ولكن في نهاية المطاف تصريفها عمليا يختلف من زمن إلى زمن، ومن عصر إلى أخر، ويمكن أن نلمس الصراع بين المسحة الدينية للدولة والمسحة المدنية عند المسلمين منذ وفاة نبي الاسلام، حيث بدل أن يتصرف الناس في دفنه تركوه مسجى ثلاثة أيام، انصرفوا خلالها إلى النقاش حول من يتولى السلطة، وهذه في حد ذاتها كارثة، لأن من إكرام الميت دفنه كما يقول الإسلام، و بالأحرى أن يتعلق الأمر بشخص نبي الاسلام، فالصراع إذن، ومنذ البداية هو صراع حول السلطة في نهاية المطاف، فالانصراف عن طقس جنائزي أقرب إلى الدين إلى صراع عن السلطة كان كبيرا جدا ومتعدد الأقطاب، فهو صراع بين الأنصار من السكان المحليين ليثرب (المدينة) التي هاجر إليها نبي الإسلام وبين المهاجرين.

فهناك جزئية تاريخية لا ينتبه لها الباحثون في التاريخ الاسلامي ويهملها الكثيرون، وهي أن الصحابي “سعد بن عبادة” لم يبايع أحدا، فهو لم يبايع “أبى بكر” ولا حتى “عمر”، وأعلنها صراحة ب”أنه أولا منهما بالخلافة”، وظل على ذلك حتى مات، و”علي بن ابي طالب” كذلك لم يبايعهما أيضاً، وانصرف لجنازة نبي الاسلام، ومن تم دار النقاش في سقيفة بني ساعدة وراء ظهر “علي بن ابي طالب” (هذه الحادثة يرجع لها دائما المفكر الراحل “محمد عابد الجابري” في حديثه عن تأسيس الدولة)، فتم ما تم، وانطلق الصراع بداية بين الأنصار والمهاجرين حول السلطة، ثم لما انهزم الأنصار وصار الامر إلى قريش، اختلفوا أيضاً – هل السلطان للهاشميين أم للقرشيين؟ فبقيت المسألة خلافية حول من هو الأحق بالخلافة، إلى أن حسم الأمر في نهاية المطاف لصالح البيت الأموي، وبقي الصراع إلى اليوم بين الهاشميين والامويين في شكل صراع بين السنة والشيعة.

إن رجوعنا للتاريخ الإسلامي ليس من باب الحكي أو الترف الفكري، بل الغرض من الرجوع له، هو توظيفه لفهم الحاضر، فالحاضر أب للمستقبل، والذي لا يفهم -ماذا حصل في الماضي؟ يستحيل عليه أن يفهم ما يحصل الأن، ولا يمكنه تبعا لذلك التخطيط للمستقبل، إذ تكون هناك إعاقة للوصول للحقيقة، بحيث كل ما يوثق لحدث معين لا يوثق للحقيقة إلا من الزاوية التي يختارها، وتاريخ دولة المسلمين مثله مثل أي تاريخ، كل كتبه من زاويته، الشيعة كتبوه من زاويتهم، والمعتزلة كتبوه من زاويتهم، والخوارج، وهلم جرا، ولكن دور الباحث في هذا الصدد أن يوازن بين كل ما قيل، إذ المشكل بالنسبة لتاريخ المسلمين أنه تاريخ رسمي، ولا يمثل الحقيقة، فالدولة الرسمية والحاكم والسلطة تكتب هذا التاريخ وفق وجهة نظرها، ووفق ما تريد أن يخلد، وهذا موجود في كل مراحل التاريخ، ولك أن تأخذ أي حاكم تربع على السلطة، وتنظر إلى الطريقة التي أرخ بها لعصره، وستجده في الغالب ينطلق أصلاً من محاولة الانتقاص من الفترة التي كانت قبله وإبراز سلبياتها ومساوئها، في حين يشيد بما حققه في فترة حكمه ويضخمه، فهذا سلوك مطرد عبر التاريخ، حيث في بعض الأحيان يصبح التاريخ سرياليا وغير واقعي، فنجد مثلاً نقشا بالجزيرة العربية قبل الإسلام، يقول أحدهم فيه: “أنا ملك كل العرب، هزمت ودمرت عشرين مدينة، وغنمت 30 ألف جمل”، وهذا الملك غير معروف أصلاً، فهو غالباً شيخ قبيلة، يمكن أن يكون قد غنم بعض الجمال، ولكن هكذا يكتب المنتصر التاريخ.

إن التاريخ دائما يكتبه المنتصرون.

 فلماذا نذهب بعيدا؟ فما وقع في الحرب العالمية الثانية، وما نعرفه عنها هو ما كتبه الحلفاء المنتصرون، ولو قدر للنازية أن تنتصر فرضا مع اليابانيين -هل سيكون التاريخ المتداول حينها هو هذا التاريخ الذي بين أيدينا اليوم؟

 لو انتصر المهزومون لرأيت “تشرشل” و “دوغول” وقد قدما للناس كمجرمي حرب، و لرأيت الأخرين أبطالاً، نفس الشيء في الانقلابات، الانقلابي إذا فشلت محاولته يصبح مجرما، أما إذا انتصر فهو بطل…، فمقاربة صناعة التاريخ فيها ما فيها، وهذا ما نعانيه في تاريخ المسلمين، والذي أشدد على أنه ليس تاريخا إسلاميا، كما أنه لا وجود لدولة إسلامية، فالفقه الذي هو فقه مسلمين ينسب كل شيء للإسلام من أجل إضفاء نوع من القداسة عليه، فأصبح مضمون التواريخ الرسمية مقدسا كما لو أن دولة الخلافة كما ابتكرها “أبو بكر” و”عمر”، وكما وضع أسسها الأمويون والعباسيون أو العثمانيون و الفاطميون هي بالفعل دولة إسلامية.

 فهل هي كذلك؟

 الجواب، لا، بل هي دولة مسلمين اجتهدوا فاختاروا شكلاً من أشكال الحكم.

ففي فترة حكم واحدة كالفترة المسماة “خلافة راشدة”، مثلاً، تجد أن أنظمة الحكم وطريقة الوصول إلى الحكم مختلفة، ف”أبو بكر” وصل إلى الحكم بطريقة معينة، بغض النظر -هل تم له الأمر بمعايير ديمقراطية أو بغيرها؟ و”عمر بن الخطاب” تقلد الحكم بالتعيين، أي بدون فعل ديمقراطي من طرف المسلمين، فقد أوصى له “أبى بكر”، فنحن أمام أسلوب ثان في تولية الحكم، ولما قتل “عمر بن الخطاب” ترك لجنة تتكون من ستة أفراد أمرهم أن يختاروا واحدا من بينهم، ومن عارض فليقطعوا رأسه، فاختاروا “عثمان بن عفان” في شكل ثالث لتولية الحكم والوصول إليه، ولما قتل “عثمان بن عفان”، بويع “علي بن أبي طالب” بشكل مختلف، إذ بويع بالمساجد وفي الأماكن العامة، وهكذا، فنحن أمام أربعة خلفاء راشدين كل واحد منهم وصل إلى الحكم بطريقة مختلفة، ولذلك فليس هناك شكل للحكم أو طريقة إسلامية للحكم، ولا دولة إسلامية أصلاً، ولا وجود لشيء اسمه نظام حكم إسلامي.

لقد كان هناك فقيه أزهري بعد سقوط الدولة العثمانية (1924) في عشرينات القرن الماضي، هو “علي عبد الرزاق”، وكان الإنجليز يحاولون أن يلعبوا على نقطة الخلافة الاسلامية، إذا يعرفون الفكرة التي استقرت عند المسلمين، وهي: “أن المسلم لا يمكنه أن يبقى بدون بيعة لخليفة المسلمين، المفروض أن يكون واحدا”، وهذا ما اتفق عليه المسلمون، ولذلك بعد سقوط الدولة العثمانية لم يعد هناك خليفة بالعالم الاسلامي، فتدخل الانجليز في محاولة للتلاعب بالأسرة الحاكمة في مصر، وهي بالمناسبة كانت تابعة لهم و تأتمر بأمرهم، فحاولوا أن ينصبوا الملك المصري خليفة على المسلمين، فانتبه “علي عبد الرزاق” إلى المكيدة وسارع إلى تأليف كتابه الموسوم ب”الإسلام وأصول الحكم”، الذي انتهى فيه إلى أن الإسلام ليست فيه دولة، وإلى أن الخلافة ليست فريضة، وهكذا قطع عليهم الطريق، وهذا ما نسميه بالمثقف الواعي و العضوي الذي يغير في الواقع، وفي ذلك يقول الباحث “الحسين رحو الجراري”: “ليس هناك دولة إسلامية عبر التاريخ الاسلامي” 1، إذن ليست هناك دولة إسلامية بل هناك دولة للمسلمين، فهم ابتكروا حسب ظروفهم والأزمنة التي عايشوها أنظمة للحكم تتكيف مع الوقائع الجديدة بشكل أو بأخر، ولمن يختلف مع هذا الطرح نتوجه إليه بهذا السؤال البسيط: إذا اعتبرنا أن كل ما وقع طيلة أربعة عشر قرنا ونيف هو تاريخ اسلامي – فهل يمكن أن ننسب إلى الإسلام ما قام به أبو العباس السفاح؟ وهل هو جزء من تاريخ الإسلام أم هو تاريخ للمسلمين؟ وقس على ذلك ما فعله “الحجاج بن يوسف الثقفي” وغيره كثير.

إننا هنا لا ننطلق من موقف أيديولوجي، فحينما نتحدث عن دولة اسلامية، فإننا نضفي عليها نوعا غيبيا من القداسة، فنصبح أمام مخاطبين رعايا تكثر معهم الخطوط الحمراء، وليسوا مواطنين لهم حقوق متساوية، وحينما نقول بدولة المسلمين فإننا ننزلها من السماء إلى الأرض، إن الكلام في الدولة الدينية، أو دولة إمارة المؤمنين هو كلام في السياسة والسلطة، وله دلالا ت مخالفة لدلالته اللغوية ما دام الغرض منه هو تحقيق هدف سياسي، ففي المجال السياسي ليس هناك مقدس ولا مبادئ بالشكل المتعارف عليها، فمبادئ السياسة لها مقومات وخطوط حمراء خاصة بها.

فالفقهاء اعتبروا أن تاريخ المسلمين تاريخ ملائكة وليس تاريخ بشر، في حين أن تاريخ المسلمين ككل التواريخ – هو تاريخ دم واستبداد ديني باسم القداسة، فليس في الاسلام حكم راشد كما يدعي الفقهاء، لننظر إلى خلافة “عثمان بن عفان” مثلاً، فهل كان حكما راشداً؟

ففي عصره ظهر الإقطاع وظهرت أو قل ترسخت المحسوبية، حيث قرب عشيرته من الأمويين، وقرب إليه حتى المغضوب عليهم من طرف نبي الاسلام ك”عبدالله بن أبي السرح” أخو “عثمان” من الرضاعة، الذي أهدر نبي الإسلام دمه فهرب واختفى حتى ولاه “عثمان” ولاية مصر مكان “عمر بن العاص بن وائل”، وإذا أردت الحديث عن فترة خلافة “أبى بكر”، فهي الأخرى وقع فيها ما وقع، فقصة “خالد بن الوليد” وماذا فعل مع “مالك بن النويرة” لازالت ماثلة بالتاريخ الدموي للإسلام، مع العلم أن “مالك بن النويرة” مسلم، قتله “ابن الوليد” ذبحا كالشاة من الوريد إلى الوريد واستحل زوجته بدون استبراء، حيث دخل بها في نفس الليلة بعد أن شوى رأس زوجها.

الهامش:

1 – جريدة الأيام الأسبوعية/ العدد 732 (10 – 16 يونيو2016)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.