0

محمد سعيد  – ريحانة برس

أصل الأصول في إحساسنا بالمأساة وتعلقنا بالرجاء، إذ ننخرط في العالم، أن للعالم ولانخراطنا فيه قيمَةً لا نستطيع التخلص من ثقلها مهما حاولنا، فالكائن الإنساني كائن مهموم بنفسه لا معنى للزمن المجرد في حياته، فلا يرى الماضي إلا انتصاراً أو فقداناً (فقدان ابي كان مأساويا بالنسبة لي)، ولا يرى المستقبل إلا قلقاً أو رجاءُ.

 

لذلك فكلما حاولنا التفكر في طبيعة اللحظة الآنية (أي الحاضر)، كلما تبَيَّنا من استحالة تصور زمن مجرد، وكلما اتَّضح لنا أن الحاضر إما أن يكون استرجاعاً قد يكون احتفاليا لإنجازات الماضي وخساراته، وإما أن يكون توقعاً لانتصارات المستقبل وانهزاماته، لذلك فإن من مهام المفكر أن يصوغ سؤال القيمة بشكل جيد، وأن يسعى إلى الإجابة عليه بشكل جيد كذلك، ويمكن صياغة هذا السؤال في نظري كما يلي:

 

 لماذا لا يستطيع الكائن الإنساني أن يتأوَّل انخراطه في العالم حدثاً خالصا؟ لماذا لا تكون الأحداث في حياتنا مجرد أحداث، بل تكون أفراحاً أو فواجعَ، أشياءَ مهمَّةً أو تافهة، مثيرة أو مملة؟ لماذا لا يكون ثبات العالم مجرَّد استمرار خطي للعالم، بل هو نوع من الغثيان نسعى إلى الانتصار عليه بوهج الأعياد والأعراس؟ لماذا لا يكون القتل مجرد نازلة، بل جريمة؟ لماذا لا يكون الزواج مجرد اتحاد لحيوان منوي ببويضة، بل قلقاً ندعي أننا نزفه ونحتفل به؟ لماذا لا تكون هذه النقط الوجودية المكثفة التي نسميها أشخاصا مجرد توترات في محيطنا، بل أصدقاء أو أقرباء أو أعداء؟ لماذا لا يكون النص الذي تقرأه الآن مجرَّد وثيقة لا تحيل سوى على نفسها، بل توثيقا لوعي قلق؟

 

إن لانخراطنا في العالم قيمة، وحٌكِمَ علينا أن تبقى هذه القيمة منغرسة في تربة كينونتنا، أسمي هذا الطابع القهري لإحساسنا بالقيمة وعدم قدرتنا على اختزالها ب”ثقل القيمة”، تعتبر القيمة في أكثر معانيها تجليا لحواسنا، فهي هروب من العدم إلى امتلاء الوجود، فالرغبة مثلاً في الحياة، هي سعي للحفاظ على الوجود، والخوف في نهاية التحليل هو توجس من فقدان شيء ما، لذلك فإننا نقلق من فقدان ما نملك وما نحب، نخاف من فقدان أسناننا وفحولتنا وعقلنا (الهَبَل لغة فقدان النفيس الغالي)، ونفر من الفراغ والأماكن المستوحشة، ويرعبنا ألا تكون لنا هوية عائلية تشعرنا بأننا ننتمي إلى “الحضن”.

 

إن القيمة تعبير عاطفي عن رغبتنا في ألاّ يغزو العدم ذلك البستان الكبير الجميل الممتلئ الذي وضعنا الله فيه بدءاً (جنة عدن)، إلا أن تعريف القيمة بدلالة الهروب من العدم إلى امتلاء الوجود يُغفِلُ مسألة مهمة، وهي أن هناك أشكالاً مختلفة من العدم، فهناك العدم الذي يناقض الوجود (كأن نقول بأن طائر الفينق غير موجود)، وهناك العدم الذي يأخذ شكل الفقدان أو الاختفاء (كأن نقول: كنت أمتلك بيتا ولكني فقدته)، النوع الثالث من العدم هو أكثر أشكال العدم تأصلا في وجودنا الإنساني، لذلك فهو أكثر هذه الأشكال إرعابا لنا وأكثرها تحفيزا لنا للبحث عن القيمة، فما هو النوع الثالث من العدم؟

 

الوجود الإنساني ليس مجرد وجود بل هو “كينونة”، فنحن لا نوجد فقط بل نكون ما حولنا، فالجسد مثلاً، هو خلاصة ما تمثَّلته “كينونتنا” من أغذية وضوء وسكريات وغير ذلك…، والمعرفة هي خلاصة ما تمثله “كينونتنا” ذهنيا مما لا نكونه، إلا أن “الكينونة”، إذ تكون العالم المحيط بها، تواجهها مشاكل أنطلوجية من بينها المشكلة التالية:

 

 عندما أكون العالم فأنا أكون نفسي وغيري في نفس الوقت، مما لا يستقيم منطقيا، أعيش هذه المشكلة عندما أكون مضطرا للعب أدوار كثيرة ومتنوعة في حياتي، دور المحامي في المحكمة، والقديس في الدير، والعاشق الساعي إلى مسرات الحب، والصديق المتودد إلى أصدقائه، والوحش الكاسر مع أعدائه، والعالم الحكيم المتزن، والسفيه الأحمق الجهول ..،

عندما أكون مضطرا للعب كل هذه الأدوار وبنفس الدرجة من الإتقان والتأثير، فإن كينونتي ستلجأ إلى حل مثالي وهو أنها ستكون “لا شيء”، لذلك أستطيع أن أكون “أي شيء”، فالأَيُّ مفهوم سلبي بمعنى أنه لا يحدِّد ملامح الشيء الذي يمكن أن تكونه “الكينونة”، فعندما أشير إلى أصبعي مثلاً، وأصفه بأنه “أصبعي”، فإن استعمالي لياء المتكلم في هذا الوصف تختلف عن استعمالي لنفس الأداة في قولي هذا “قلمي”، فالأصبع بمعنىً مَّا هو مني، أم القلم فليس كذلك بنفس المعنى، فما هي هذه الأنا التي يكون هذا الأصبع هو أصبعها؟

 

 لقد استطاعت “الكينونة” (أي الوجود الإنساني الذي يكون نفسه وغيره في نفس الوقت) أن تحل المشكلة الأنطلوجية التي واجهتها بأشكال مختلفة، من بينها أنها “استثمرت” العدم استثمارا جيدا، فالصفر الرياضي هو العدد الذي يكون مساويا لنفسه مهما ضاعفته، وهو بذلك أشبه ما يكون باللانهاية، لأن اللانهاية تكون أيضا نفسها مهما ضاعفتها، فإذا كانت “الكينونة” عدما خالصا فيمكن مبدئيا أن تكون نفسها وغيرها في نفس الوقت، يمكنني أن أكون عيني ويدي وكل الخلايا الأخرى التي ستظهر مستقبلاً في جسدي، يمكنني أن أكون كل ما تمثلته و ما سأتمثله من معارف، وفي نفس الوقت يمكنني أن أختبر كل هذه الأمور بصفتها مجرد “صفاتٍ” أملكها، مجرد “صفات” لذاتٍ هي “أنا”، لذلك فعندما أحرك يدي فحركتها ليست مجرد حدث يحدث أمامي، بل إنه أنا الذي يحرك يده، وعندما أفكر فإن تفكيري ليس مجرد واقعة ذهنية بل واقعة تحيل بوقوعها على المفكر الذي هو أنا، فأرعب ما يمكن أن يحدث أن أفقد إحساسي بهذه الأنا وهي تحرك اليد أو تفكر، تخيل مثلاً أني أصبحت أختبر حركة يدي حدثا مستقلاً عني، وتفكيري واقعا ذهنيا منفصلا ًعني، شبيها بشاشة حاسوب يعالج المعلومات وينجز المهام باستقلال أنطلوجي عني، إن فقدان الإحساس بالذات ليس مجرد حالة خيالية غير قابلة للتحقق، بل هي الأساس الوجودي لكل حالات الاغتراب عن ذواتنا التي نحس بها كلما اكتشفنا بأن ما نحن عليه، ليس هو ما سعينا إليه وما لا نزال نسعى إليه، فبماذا يحس شاب في الثلاثينيات من عمره عندما يكتشف بأن وضعيته الاجتماعية والاقتصادية والخلقية ليست هي ما يريده لنفسه؟ وبماذا تحس امرأة تقدم بها السن لتكتشف بأن زواجها الفاشل ليس هو ما كانت تحلم به، وبأن عمرها قد ضاع، وبأن أحلامها قد تبخرت؟ وبماذا يحس المتدين في قرارة نفسه عندما يكتشف بأن حياته الخفية المظلمة تختلف كثيراً عمَّا يعظ الناس به وما يعتقد واهما أنه يعمل به؟ وبماذا يحس السياسي المدافع عن قيم المساواة والعدل عندما يكتشف بأن مثاليته الظاهرية تخفي وراءها ميولات عدوانية تسلطية؟ وبماذا يحس إنسان استمتع لسنوات طوال بدفيء أسرته ليكتشف يوما بأن أبويه ليسا هما أبواه الحقيقيان؟

 

 لدرء خطر اكتشاف هذه العدمية المتجذرة في “كينونتنا”، فإن وجودنا الإنساني دائم البحث عن طرق واستراتيجيات نتنكر بها لهذه العدمية، من هذه الطرق والاستراتيجيات تخليد ما كُنَّاه بالاحتفال والتعييد، ومنها وسم الهوية بالتأكيد على كل ما يميزني عن الأغيار، ومنها الإبداع في التواصل والتعبير عن الذات، ومنها إرغام الأغيار على “الاعتراف بي”، إلخ، أسمي الإحساس بالعدمية التي قد نكتشفها عندما ندرك بأننا لسنا ما نعتقد أننا إياه ب”العُريِ”، وبذلك فإن القيمة هي سعيي المستمر إلى إقناع نفسي بأني لست “عاريا”، أي بأن العدم المتأصل في كينونتي ليس عدما، لذلك فإن القيمة “ثقيلة”، إنها باب من أبواب الرجاء يتبدى لنا منه ما وراء هذا الإسقاط الوجودي الذي نسميه “أنا”.

 

خلاصة: حسب تجربتي الشخصية فأصل القيمة الحقيقية روحانية، والأمر الذي يجعلنا صادقين في هذا الادعاء هو عدم التعلق بالماديات والتنافس على كسبها وإقصاء الآخر من أجلها.

نعم القيمة روحانية، فقيمتي الشخصية تكتمن في مسيحيتي ولا شيء أخر غيرها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.