0

ريحانة برس- حمزة شينبو 

يقتضي منا الاهتمام بعلم الأعراض ضرورة فحص مختلف الخصائص العيادية المكونة لكل اضطراب نفسي وتفكيك الأعراض الكبرى وفهمها بشكل أعمق، وبما أننا نحن بصدد بسط تيمة التوحد فإن فهم الظاهرة والتمكن منها يقتضي أولا الرجوع إلى الطبيب النفسي “ليو كانر” ومن ثمة الوقوف عند الحدود التي رسمها لكل عرض من تلك الأعراض…

وهذه المحاولة في نظرنا ستقف سدا منيعا أمام النزعة الاختزالية التي باتت تطبع مجال التوحد، وفي نفس الوقت هي محاولة لتجاوز معارف الحس المشترك، ومن ثمة رد الاعتبار للمؤسس لأنه عادة ما يتم القفز عليه بدعوى أنه جعل التوحد من مسؤولية الأم، وهذا هو الشائع عند عموم الباحثين، وهذا غير صحيح.

في سنة 1943 قدم “ليو كانر” أول وصف مفصل لحالة التوحد، أطلق عليها ”الاضطرابات التوحدية للتواصل العاطفي Les troubles Autistiques du contact affectif “، عمل العالم على وصف 11 طفلا، وفي تقريره الأول قدم وصفا مفصلا وغنيا عن كل طفل. ولاحظ أن العرض الأساسي لهؤلاء الأطفال هو عزلتهم الشديدة وتوحدهم مع أنفسهم، ومن خلال تتبع ذلك الوصف نقف عن جملة من الأعراض جعلها “كانر” أساسية وهي على الشكل التالي:

• تأخر أو فشل في اكتساب مهارات الكلام
• في حالة حدوث النمو اللغوي لديهم يكون ذا طبيعة غير تواصلية
• القيام ببعض الأنشطة المتكررة وذات الطابع الشعائري
• مقاومة التغيير في البيئة المحيطة به والإصرار على بثاء الأشياء من حوله كما هي دون تغيير
• ذاكرة جيدة ولكن من دون فهم لمحتوى الأمور المستعادة
• الافتقار إلى التخيل أو القدرة على اللعب التخيلي
نشير إلى أنه على الرغم من مرور سنوات عديدة على تشخيص التوحد ورغم الجدل بشأن المعايير السلوكية لتشخيصه ورغم تطور معايير التشخيص يبقى الاتفاق على أعراض التوحد الرئيسية دليلا على مهارة “كانر”.

والاختلاف بطبيعة الحال حول معايير التشخيص يدور في نظرنا حول الأهمية النسبية لكل عرض من تلك الأعراض.

1. الصعوبات في السلوك الاجتماعي والارتباط: لكي يوضح “كانر” عرض الصعوبات في السلوك الاجتماعي والارتباط مع الآخرين قدم وصفا للطفل “دونالد ص 2” و “ريتشارد، ص 12” و “ايلين، ص 32” الوصف الإكلينيكي لهاته الحالات توقف عند ملاحظات سريرية تفيد الرضى والاقتناع بالوحدة، عدم ظهور أي انفعال، عدم إبداء الفرح لرؤية الوالدين، الانسحاب والعيش داخل قوقعته الخاصة، عدم إظهار ردة فعل أو نشاط أو تغير في وضع الجسم متوقعا أن تحمله والدته، عدم التجاوب مع الأطفال أو التحدث معهم أو التقرب منهم…الخلاصة التي توصل إليها “كانر” من خلال منهج الملاحظة أن السمة المميزة للتوحد عن غيره من الاضطرابات هو العجز الشديد عن التواصل الاجتماعي والترابط مع الآخرين، و يتمظهر أيضا هذا العرض في مختلف شكاوى الوالدين، إذ غالبا ما يعبر الآباء عن كون الطفل لم يكن يرفع يديه متوقعا حمله، لم ينظر أيهم، يرفض الاقتراب منه، يبكي عندما يبلل نفسه أو شعر بالجوع، قد ينغمس في موجة بكاء طويلة ولا تحتمل ولكنه لا يفعل ذلك لجذب انتباه والديه. لا يرغب في أن يحتضنه أحد أو يقبله أحد، يتجنب أي صورة من صور التواصل الاجتماعي، لا يشعر بالحزن لغياب أحدهما ولا يفرح لعودتهما، إذا افترق الطفل عنهما لا يبحث عنهما ولا يعود إليهما، لا يلجأ إلى والديه عند الشعور بالخوف، يشعران بأنه لا يحبهما، يتعامل معهما كأشياء…
هذه الشكاوى وغيرها تفيد أن التوحدي لا يتواصل مع الآخرين بالنظر عينا لعين، أحيانا يتجنبون مثل هذا التواصل، وأحيانا يبدون وكأنهم ينظرون من خلال شخص ثالث، ناذرا ما يندمج أولئك الأطفال في الألعاب الجماعية (التفاعلية)، كما يفشل في تكوين مهارات التواصل مع الآخرين أو على الأقل يتأخر في ذلك، ونحن نعلم أن الانتباه المتبادل مطلب مهم وخطوة أولى لتواصل أكثر تعقيدا وللتفاعل الاجتماعي، وبالتالي فالافتقار لهذه المهارة يعتبر عرضا أساسيا للتوحد، كما نجد من بين الخصائص أن الطفل لا يبدي أي تعاطف أو تفهم لمشاعر الآخرين.
كما نجد في إطار العرض الذي نحن بصدده دائما عدم تجاوب الطفل مع الأقران، الإهمال والتجنب، وإذا أبدى الطفل اهتماما في اللعب مع الأقران فإن المشاركة الفعلية تكون بالمشاهدة فقط، أما إذا بادر باللعب فسيكون بطريقة غير مناسبة (مقاطعة اللعب، التلفظ بألفاظ غريبة)، قد يهمل الطفل الألعاب، أو يستخدمها في أغراض مختلفة تماما عن الهدف الذي صنعت من أجله، وأحيانا يهتمون بجزء أو قطعة واحدة من اللعبة فقط…

وبما أننا بصدد التفاعل مع الأقران فإن ما يحول دون تمكن الطفل من هذه المهارة هو عدم قدرته على التخيل أو اللعب التمثيلي، فلعبه الذي قد يبدو خياليا هو فقط عبارة عن مقاطع ثابثة يعيدها بتغيير بسيط أو من دون أي تغيير على الإطلاق. لم يتوقف “كانر” عند حدود المعنى السلبي للتفاعل بل اقترح أنه حتى في حالة ما ظهر لنا بأن الطفل يلعب بشكل عادي (مثال: نعطي طفلا توحديا لعبة عبارة عن سيارة ومجسمات لأفراد ومنزل، فيقوم الطفل بإحضار السيارة للمنزل ويضع فيها مجسمين لأفراد، ثم يقود السيارة لمنزل آخر وينزل المجسمين) فإن هذا لا يعني امتلاكه للتخيل أو اللعب التمثيلي، حيث نجده مكررا ذلك بالترتيب نفسه وبدقة شديدة ومرات عديدة. أو أن الطفل يحب الرسم ولكنه يرسم االصورة نفسها بتكرار أيضا. وفي هذا الصدد يذهب “كانر” أبعد فيقد مثالا لتوحدي سنه 22 سنة مهندس له القدرة على الحديث ولفترة طويلة عن الجسور والمصاعد، ولا تفلح جهود مستمعيه في تغيير موضوع الحديث، حيث يواصل حديثه إلى أن يطلب منه التوقف بوضوح وطوال فترة حديثة لم يحاول السؤال عن اهتمامات أو أنشطة مستمعيه ولم يقدر حاجاتهم، مما يفيد حسب “كانر” أن هذا الشخص يفتقد لنظرية الذهن التي سنعرض لها لاحقا.

2. صعوبات التواصل: مما لا شك فيه أن الصعوبات في التواصل أيضا تشكل عرضا مهما لابد من شرحه وفهمه، ولكي يتم هذا الأمر قام العالم “ليو كانر” بوصف حالة (دونالد، ص 4 و حالة بول، ص 150)، تتميز هاتين الحالتين بكون الأطفال يبدون وكأنهم ببغاء، يعيدون الكلمات التي سمعوها سابقا، يستخدمون الضمائر الشخصية بطريقة عكسية أو غير سليمة، إذا أراد الطفل من والدته أن تخلع له حذاءه يقول: اخلعي حذاءك، وإذا أراد الاستحمام يقول “هل تريد الاستحمام؟” الكلمات بالنسبة إليه ذات معنى محدد، جامد وغير مرن، يبدون وكأنه لا يستطيع التعميم أو التعبير عن شيئين متشابهين بمعنى أو مفهوم واحد، قد ترجع بعض الجمل و التعابير التي يستخدمها إلى خبرات سابقة مرت عليه. كما نجد بعض الأطفال عادة ما يكررون جملا مثلا ” لا تقذف الكلب من الشرفة” وهي جملة مثلا كانت قد قالتها أم “بول” بخصوص لعبة على شكل كلب.

من خلال وصف الحالتين خلص “كانر” إلى كون فشل الطفل أو تأخره في اكتساب اللغة عرض أساسي، وان اكتسب التوحدي اللغة فإن استخدامه لها لا يخدم التواصل مع الآخرين، تختلف لغتهم وبشكل نوعي عن لغة الأطفال العاديين أو المصابين باضطرابات لغوية أخرى،بالإضافة إلى عدم القدرة على الكلام يفتقر الأطفال التوحديون إلى أساليب التواصل غير اللغوي أحيانا، كما نجد الطفل لا يهز رأسه ليقول “لا” أو يطأطئها ليقول “نعم”، ناذرا ما يشير بيده ليقول وداعا أو يعطي قبلة في الهواء للآخرين أو يستخدم تعبيرات تفيد التواصل الاجتماعي، عدم استخدام الإشارة لجذب الانتباه (إذا أراد شيئا فلن يشير ليدل والدته عليه، بل سيمسك بيدها ويقودها ليضع يدها على ذلك الشيء أو المكان الذي يريده) وهو ما يسمى الإشارة الدلالية.

أيضا لا يستخدم الإشارة إلى الأشياء في البيئة من حولهم لنقل خبراتهم إلى الآخرين، ما يسمى الإشارة الاعلانية، كما يستبعد أن يقوم الطفل بإيماءلت معينة ليوصل فكرة ما (لن يتظاهر بسكب العصير في كأس في محاولة للتعبير عن رغبته في الحصول على بعض العصير)، البعض يكتسب القدرة على الكلام مبكرا (كلمات قليلة، مقاطع بسيطة) ولكنه يفقدها في نحو 18 إلى 30 شهرا.

أما من يستطيع الكلام من الأطفال التوحديين فإن: لغتهم تكون مضطربة بشكل واضح، تتميز بالمصاداة وتعني إعادة وتكرار الكلمات والجمل التي سبق أن سمعها من الآخرين من دون إدراك معناها، وعادة ما تأخذ المصاداة أكثر من شكل: مباشرة، يكرر الطفل مباشرة وبعد لحظات ما سمع من الآخرين (مثال: أين معطفك يا كريم؟ كانت استجابته “أين معطفك يا كريم؟ مباشرة. والنوع الثاني هي المتأخرة وفيها يعيد الطفل ما كان قد سمعه قبل دقائق أو ساعات أو أيام أو حتى سنوات. ولأن هناك فرقا زمنيا بين السمع و الإعادة تأتي الكلمات غير مناسبة من حيث المعنى بل تبدو غريبة أحيانا في بعض الأحيان يمكن التعرف على بعض الكلمات الأصلية التي يقلدها الطفل ويكررها (حالة الإعلانات التجارية التلفزية، تعليمات سمعها من المدرس، أوامر وجهت إليه من قبل والديه).

أشار “كانر” إلى كون المصاداة المباشرة هي نتيجة عدم فهم الطفل للمثير اللغوي الموجه له، والمتأخرة نتيجة لزيادة احتمال حدوث هذا النوع في حالة الانفعال الشديد. وأقر “كانر” أنه من المحتمل أن ما نلاحظه في طريقة استخدام للضمائر مرتبط بالمصاداة، حيث تستخدم الضمائر بصورة عكسية، فالتوحدي يشير إلى نفسه ب “أنت” أو باسمه بدلا من أن يقول “أنا”. قد تكون المصاداة تعبيرا من الطفل عن رغبته في الحصول على شيء ما. كأن يقول “هل تريد الذهاب إلى الخارج؟ أو “هل تريد قطة بسكويت؟” وذلك ليعبر عن أن تلك هي رغبته. فهذه عبارة عن مصاداة لجمل أو مقاطع سبق له سماعها في المواقف التي حصل فيها على ما يريد.

إحدى صور اضطرابات اللغة لدى التوحد: استخدام لغة وألفاظ غريبة مستخدمة للتعبير عن أشياء معروفة ومحددة، كما نجد أيضا لدى التوحدي خلل العروضية ونجد فيه اضطراب نبرة الصوت، حيث تكون إما مندفعة أو على وثيرة واحدة (أخطاء في القواعد، كلام سريع، بطيء، قد يشددون على مقطع محدد من الكلمة بصورة غير ملائمة) إن هذه الأخطاء العروضية تجعل لغة التوحديين حتى من يتمتع منهم بمهارات لغوية جيدة نسبيا صعبة الفهم.

هذه الدراسة القيمة لصعوبات التواصل التي قام بها “ليو كانر” مهمة وقد عززها بجوانب أخرى في نظره لاضطراب التواصل لدى هذه الفئة، أكد أنه غالبا ما يعاني المتوحد ضعفا شديدا في فهم اللغة، لأنها تستخدم لديهم للاستثارة الذاتية وليس بهدف التواصل مع الآخرين. هكذا فهو يعيد أصواتا وكلمات وعبارات محددة ليس بهدف التواصل ولكن للوصول إلى الاستثارة التي يمنحهم إياها التكرار. كما أن لغتهم محدودة بالزمن الحاضر فقط: فهم يعانون صعوبات واضحة في التعبير عن الماضي أو المستقبل أو عن أحداث مفترضة أو متوقعة. إن لغتهم حرفية تماما (تفتقر إلى التشبيه، الاستعارة، الفكاهة) ونلاحظ ذلك من خلال مثال: إذا قيل للطفل التوحدي “إن السماء تمطر كلابا وقططا” فسوف يندفع إلى الخارج ليرى القطط والكلاب التي تتساقط من السماء. وقد تصل درجة الحرفية الشديدة.

أما فيما يخص لغة التوحديين الذين يعانون حالة خفيفة ويمتلكون قدرات لغوية جيدة نسبيا تفتقر إلى العاطفة أو الخيال أو استخدام المفاهيم المجردة، وأي محاولة للحصول على جملة تعبر عن انفعالاتهم ستقابل باجابة لا معنى لها. مثل “لقد كانت جيدة” أو “لقد كانت سيئة” أو التعبير المفضل لديهم “لا أعرف”
3. السلوك النمطي والمتكرر والمحدد: إن الجزء الأكبر من محادثته عبارة عن أسئلة مكررة بصورة قهرية لا إرادية، ويشير “كانر” في وصفه ل”دونالد” بالصفحة 7 على أنه لا يتعب أبد من تكرار العبارات التالية: كم يوما في الأسبوع؟ كم سنة في القرن؟ كم ساعة في اليوم؟ كم ساعة في نصف اليوم؟ كم ساعة في القرن؟ كم قرنا في نصف الألفية؟ وأحيانا يسأل: كم ساعة في الدقيقة؟ كم يوما في الساعة؟

كما يورد “كانر” أن من الهوايات الجديدة لــ “دونالد” الاهتمام بالأعداد القديمة لمجلة التايم، فقد وجد نسخة من العدد الأول من شهر مارس 1923، تم حاول أن يصمم قائمة بتواريخ صدور كل عدد من ذلك التاريخ، واستطاع أن يتابع الأعداد حتى شهر أبريل 1934. لقد تمكن من معرفة الإصدارات في كل مجلد وأشياء أخرى لا قيمة لها في المجلد. واستمر “كانر” في محاولة منه لوصف معالم هذا العرض بسرد الطفل “هربرت” في الصفحة 20 موضحا أنه رفض وبإصرار أن يتناول أي سائل إلا في أكواب زجاجية. وفي إحدى المرات وعندما كان في المستشفى أمضى ثلاثة أيام دون تناول أي سوائل لأنها كانت تقدم له في أكواب معدنية. إنه يصاب بالضيق عند أي تغير في البيئة التي تعودها، ويصاب بالتوتر ويبكي بشدة عندما يلاحظ التغيير.

من خلال الوصفين السابقين استنتج “كانر” أن سلوك الأطفال التوحديين يتميز بالاندفاع والشعائرية والتكرار والقهرية والنمطية، وقد يشمل ذلك السلوك حركات دقيقة وحركات غير دقيقة، أو سلوكا شعائريا شديد التعقيد. هذه الأنماط السلوكية عادة ما تكون متمركزة حول ذات الطفل وناذرا ما تخدم أي وظيفة. نجد لدى الطفل حركات رئيسية يؤديها وهي غالبا التأرجح بصورى متكررة، هز الرأس أو ضربه بالحائط والتصفيق باليدين والدوران. أما الحركات الدقيقة فهي تحريك واهتزاز الأصابع، والتحديق في اليدين ووضعهما أمام العينين، وشد الشعر، واللعب في اللعاب، والتكشير و الاحولال. وفي تنفيذ هذه الحركات عادة ما يستخدم الطفل بعض المواد غير الحية كأن ينقر عللى شيء ما، يبرم جزءا من خيط، يقلب صفحات الكتاب، يحرك شيئا ما أمام وجهه، يدير عجلة سيارة، التلفظ بأصوات أو مقاطع كلمات لا معنى لها، تكرار جمل وكلمات من ابتكاره، تكرار مقاطع من أغان.

عادة ما يشار إلى تلك السلوكيات ب ” المثيرات الذاتية” للدلالة على أن وظيفتها هي إثارة الحواس. أو “السلوكات النمطية” وذلك إشارة إلى طبيعتها التي تتسم بالتكرار والنمطية. يتميز الطفل التوحدي بمشكلات سلوك الاستثارة الذاتية، وتتمظهر من خلال قضاء جزء كبير من الوقت في ممارسة تلك الأنشطة، مثلا قد نجد البعض يقضي معظم وقت الصحو في ذلك السلوك من دون أي نشاط آخر، وهذه الاستثارة الذاتية التي يقوم بها الطفل تتعارض مع أو تعوق تجاربه مع البيئة الخارجية ومع قدرته على التعلم.
هناك أنماط سلوكية قهرية وشعائرية أخرى مثل: وضع أشياء على شكل طابور بشكل متكرر، إتباع خطوط السيراميك في الأرضيات أو خطوط ورق الجدران، قد يقوم بتركيب المكعبات بشكل متطابق وبتكرار ترتيب السيارات الصغيرة في صفوف وبدقة شديدة بدلا من أن يلعب بها. وأحيانا أخرى يصنفها وفق اللون أو يرتبها في اتجاه واحد. كما أن أي تغيير في ذلك الترتيب بالزيادة أو النقص لتلك السيارات أو إعادة ترتيبها يواجه بثورة أو نوبة غضب من قبل الطفل الذي يعيد ترتيبها بإحكام من دون أي تغيير. ومن الأعراض أيضا الإصرار على اصطحاب شيء جماد معه وباستمرار (صخرة صغيرة، عصا، قطعة قماش، لعبة محددة).

إن الأطفال يقاومون التغيير في البيئة من حولهم وهو ما وصفه كانر بــ “الرغبة الملحة للإبقاء على الأشياء كما هي” لذلك عادة ما يلاحظ التوحدي التغير في الأثاث بسرعة كبيرة جدا، ويحاولون إعادته كما كان، وإذا عجز الطفل عن ذلك فسيغضب كثيرا حتى تصحح الأمور ويعود ترتيب الأثاث كما هو، كما نجد لديهم القدرة على ملاحظة التفاصيل الدقيقة جدا كأن يلاحظ أنه تم تحريك تمثال صغير من مكانه، نلاحظ أيضا في إطار هذا العرض الانغماس في حركات أو أنشطة شعائرية: مثلما يحدث عندما يحفظ الطفل معلومات ليست لها أهمية أو قيمة في حياته ويكررها فترة طويلة. إن قدرة هؤلاء الأفراد على حفظ و إعادة كثير من المعلومات على الرغم من عدم أهميتها تثير الدهشة، والأهمية تتمثل بالنسبة لنا في عملية حفظ المعلومات والإبقاء عليها لا المعلومات بحد ذاتها.

نجد أن الأفعال القهرية والشعائرية قد تنطوي على أداء أنماط سلوكية محددة ومن دون تغيير، فمثلا قد نجد الإصرار على مشاهدة برنامج تلفزيوني محدد يوميا وفي الوقت نفسه، أو الضرب بالأصابع على زجاج الباب ثلاث مرات قبل المرور من خلاله، أو استخدام أدوات الطعام نفسها دائما دون تغير، فمن الملاحظ أن لهم شعائرهم وطريقتهم الخاصة في تناول الطعام: قد يأكلون صنفا أو صنفين من الطعام فقط، أو طعام له لون معين وواحد. هناك صورة أخرى للسلوك القهري تبدو واضحة لدى من يمتلكون قدرات لغوية متطورة وهي: تكرار الأسئلة مع الإصرار على الحصول على إجابة محددة من المجيب أو بطريقة معينة وإلا سيشعر بالتوتر والغضب.
4. عرض الاستجابات الشاذة للبيئة الطبيعية: في الصفحة 14 سيقوم “كانر” بوصف الطفل “بول” بكونه غالبا عندما يوجه إليه الحديث فإنه يستمر فيما يفعله وكأنه يسمع شيئا مما قيل، ومع ذلك فإن الفرد منا لا يشعر بأن الطفل يتعمد العصيان أو العناد، ولكنه يبدو منسجما وكأن الكلمات التي قيلت لم تصل إليه. كما وجد “كانر” أثناء وصفه ل “ريتشارد” في الصفحة 12 أن إحدى المشاكل المحيرة وغير المشجعة هي الصعوبة الكبيرة التي يواجهها الفرد منا في محاولة لجذب انتباهه.

نخلص من خلال الوصفين أن الأطفال التوحديون عادة ما يظهرون عجزا عن الاستجابة للبيئة الحسية من حولهم. أو الاستجابة بصورة غير طبيعية، عادة ما يشك الآباء في أن الطفل لديه عجز حسي مثل العمى أو الصمم. وكذا الغرابة في اهتماماتهم الحسية (الرغبة في وضع أيديهم على أقمشة معينة، لعق أشياء محددة، شم الآخرين)، قد تكون استجابة الأطفال التوحديين عالية أو ضعيفة لمثيرات مثل اللمس، الألم، الحرارة، نجد بعضهم شديد الحساسية للتواصل الجسدي أو اللمس، ويصابون بالتوتر إذا لمسهم الغير، وهي الظاهرة التي تسمى “الدفاع ضد اللمس”
5. عرض الاضطرابات الانفعالية: سيصف “كانر” في الصفحة 24 الطفل “ألفريد” بأن لديه مخاوف كثيرة، وغالبا ما تكون مرتبطة بالأصوات الميكانيكية: طاحونة اللحم، المكنسة الكهربائية، السيارات في الشوارع، القطارات،…وفي الصفحة 22 وجده يغضب ويتهيج عندما يوضع الخبز في الفرن لتحميصه، فهو يخاف عليه من الاحتراق أو الأذى. يشعر بالأسى عندما تغيب الشمس، وبالغضب لأن القمر لا يظهر دائما في السماء. كما وصف في الصفحة 20 “هربرت” بأنه كان شديد الخوف من المياه الجارية، ومن الغاز المشتعل وأشياء كثيرة أخرى…

استنتج “كانر” أنه غالبا ما يعبر التوحديون عن انفعالات غريبة، استجاباتهم الانفعالية إما أن تكون شديدة جدا أو ضعيفة جدا. أو لا يكون انفعال على الإطلاق. كما ينتقل بعضهم بسرعة من حالة الحزن الشديد إلى الضحك الهستيري الذي لا يمكن تهدئته، ويسجل لديهم المخاوف غير المنطقية وغير المسببة والتي يبدو أنها مرتبطة برغبة الطفل الملحة في عدم التغيير وإبقاء الأشياء على حالها.وعادة ما يصابون بالرعب لأسباب أو أحداث أو أشياء تبدو طبيعية بالنسبة للآخرين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.