0

 عبد النبي الشراط – ريحانة برس

يبدو السؤال من أول وهلة مستفزا للكثيرين، لكن مع سفرنا في كتاب “علمانية الرسول” الصادر عن دار الوطن بالرباط، للكاتب الباحث “فيصل بنفضيل” قد يتبدد هذا التفكير رويدا رويدا.

فماذا يحتوي هذا الكتاب وما الجديد الذي يحمله؟

في الٱونة الأخيرة ظهرت كتب كثيرة تناقش التراث بجرأة وحرية، لدرجة أن تلك الكتب جرٌت على أصحابها الويلات، وتعرض كتابها للتهديد والمنع من المشاركة في الندوات الثقافية والفكرية، كحال الكاتب “رشيد أيلال” مؤلف كتاب “صحيح البخاري نهاية أسطورة” لكن هذه الفئة من الكتاب قررت المغامرة والسير في طريق التنوير، رغما عن الانتقادات والاتهامات بالخروج من الملة في أحسن الأحوال.

وضمن هذه الكوكبة من الكتاب التنويريين يأتي كتاب “علمانية الرسول” الذي يبدو مستفزا كما أشرت.

يتناول الكتاب عبر فصوله الخمسة، التي صنفها الكاتب كالٱتي:

– ضبط المفاهيم

– بين الرسالة والسياسة

– ديكتاتورية الدين وشورى العلمانية

– علمانية الرسل

– مغالطات منطقية

بالإضافة إلى المقدمة التي تطرق فيها الكاتب إلى توضيح أهم معالم بحثه، حيث يقول: (وقد بدأت رحلتي مع الذكر الحكيم بالقراءة، ثم الملاحظة والتمعن البناء، مما دفعني لترتيب الٱيات حسب مواضيعها، والإبحار ثم الغوص في أعماق ذلك الكتاب الفريد من نوعه، والذي مكنني من اكتشاف بعض كنوزه وأسراره الرائعة والمبهرة، وغير المحدودة والبعيدة كل البعد عما وجدنا عليه ٱباءنا).

ويضيف الكاتب في مقدمته، أن هناك بعض المفاهيم أثير حولها جدل كبير وصل حد التكفير والشيطنة من طرف فئة عريضة من التراثيين هو مفهوم العلمانية وعلاقتها بالدين، لأن التراثيين – حسب الكاتب- لم يستسيغوا زعزعة جبروت سلطتهم الدنيوية المكتسبة بفضل الدين، طيلة قرون، وهم يحاولون بكل الوسائل الحفاظ على تلك المكتسبات الدنيوية باسم الدين الحق الذي هو بريء مما يقولون.

الكاتب قارن في مقدمته بين هؤلاء “التراثيين” وبين زعماء الكنيسة في أوروبا خلال القرون الوسطى، ويؤكد الكاتب أن لا فرق بين هؤلاء وأولئك، لأن كل منهما سعى إلى السيطرة على الدنيا باسم الدين.

– في ضبط المفاهيم:

درءا لكل سوء فهم أو تأويل حول علمانية الرسول فقد تم تخصيص الفصل الأول لشرح بعض المفاهيم ومن هذه المفاهيم: الترتيل، حيث أعطيت لها معاني غريبة لا تتوافق مع السياق الذي وردت فيه في التنزيل الحكيم، حيث اعتبر الباحث أن الترتيل هو المفتاح والٱلية التي بدون فهم معناها وتحديد دلالاتها لن تتضح لنا الرؤية، مستشهدا بالٱية الكريمة (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرٱن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) – الفرقان 32-.إذ اعتمد بعض الشيوخ على مقولة منسوبة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وهي: تجويد الحروف ومعرفة الوقوف، ليصبح المعنى لديهم هو “تجويد القرٱن والتغني به” وهنا يتساءل الباحث هل يمكن أن يجود الله القرٱن ويتأنق فيه؟ وهل يتغنى الله بالقرٱن؟ علما أن (مفسري) القرٱن لم يتفقوا على معنى محدد لكلمة ترتيل داخل القرٱن..

في هذا الفصل أيضا، يستعرض الكاتب معنى كلمة “قتل” وهل تعني إنهاء الشيء أم أن كلمة قتل لها مدلولات ومعاني كثيرة في القرٱن كقوله تعالى (قتل الإنسان ما أكفره) وقوله تعالى (فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر) و(قتل الخراصون) وخلال حديث الله عن قوم موسى حين قال في سورة البقرة ٱية 54، (وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) الخ ذلك من الٱيات التي تتحدث عن القتل المعنوي وليس المادي، كما يفهمه التراثيون.

– بين الرسالة والسياسة.

في الفصل الثاني يتحدث الكاتب عن مهام الرسل ويؤكد أن دور كافة الرسل هو تبليغ رسالات الله للناس وينتهي دورهم (ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) كما يعتبر تبين الدين من المهام التي أوكلت للرسل، قصد إظهار ما أخفاه رجال الدين في الكتب السابقة على القرٱن الكريم، وينتقل المبحث إلى التشريع (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر…) ويتساءل الكاتب: هل كان الرسول حاكما فعلا؟ مجيبا على السؤال (إن الله لم يبعث الرسل والكتب لإنشاء دولة باسمه، لأن في ذلك تجن على الله وعلى الرسالة،. ولم يصلنا في كتب التاريخ أن الرسول محمد كان قائدا لشعبه، بل كان كذلك باختيار الناس له، بناء على بيعة سياسية بينه وبين كل مكونات الشعب ووثقت فيما يمكن تسميته ب(العقد الاجتماعي) عبر دستور المدينة الذي ضمن الحقوق والحريات الدينية لكل أبناء شعب المدينة ٱنذاك.

– ديكتاتورية الدين وعلمانية الشورى.

(ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) هكذا قدم القرٱن الديكتاتور فرعون في عهد موسى عليه السلام، الذي أضاف (أنا ربكم الأعلى) هكذا قال فرعون لقومه، الذي وصلت به العجرفة لدرجة أنه قال لشعبه (ما أريكم إلا ما أرى) أي لا رأي غير رأيه ولا سلطان فوق سلطانه ولا كلام يعلوا كلامه.

إنه الحاكم المطلق، وعلى إثره صار الكثيرون من الحكام حتى في عهد الإسلام، لأن الحاكم يرى دائما أنه هو الله (كما فرعون) أو أنه يحكم باسم الله ونيابة عن الله كما حصل في تاريخ الإسلام (الحاكم بأمر الله) المعز لدين الله الخ..

هكذا بدأ الفصل الثالث من الكتاب، وهذا النوع من الحكم هو الذي يفرز لنا قطيعا من الناس وتسمى (الأكثرية) وهذه الأكثرية هي التي تسبح بحمد الحاكم وتتماهى مع إرادته.

ويتعرض الباحث في معرض حديثه عن التراثيين، الذين يحرصون على رفض الديموقراطية والعلمانية على الرغم من أنها تتم على أساس الشورى على يد جماعة مختارة بقصد وضع الأسس القانونية والدستورية لمجتعها، وإلا لما قال الله لرسوله (وشاورهم في الأمر) أي أشركهم في أمور السياسة

والحكم، لأن الدين يضع معالم للناس في أمور التدين وعلاقتهم بربهم، أما شؤون الحكم فهي من اختصاص السياسيين الذين يشرعون قوانين تتلاءم مع عصرهم وزمانهم، ولا يحق للدولة أن تفرض دينا معينا على مواطنيها لأن الله منح عباده حرية العقيدة تلقائيا (لا إكراه في الدين) و(لست عليهم بمسيطر) و(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) تاركا الله الحكم لنفسه في هذه الأمور الإيمانية وهو المسؤول الوحيد عن حساب الناس عليها وليس الحكام أو الجماعات..

– علمانية الرسل

الفصل الرابع خصصه الكاتب للحديث عن هذا الموضوع الذي يعتبر العمود الفقري للكتاب، حيث كان مبدأ الشورى من أهم المبادئ التي حث الله رسوله على تبنيها والالتزام بها، بصفته رئيسا للجماعة السياسية الجديدة في المدينة (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر..) فلم يكن محمدا ديكتاتورا ولا فظا في الكلام ولا غليظ القلب، بل كان يعفو ويستغفر للمحيطين به، وهو ما جعله يحضى بثقة كل الناس بمن فيهم غير المؤمنين برسالته، وقد كان ملزما بمشاورتهم في كل الأمور الدنيوية الخاصة بالسياسة والحكم، ولو كان القرٱن تضمن مبادئ الحكم لما قال الله (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم) الصلاة دين وعبادة لله، والحكم شورى بين الناس.

وتوقف الكاتب في هذا الفصل عند قوله تعالى (ياأيها الذين ٱمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم) وهذه الٱية تنفي نفيا قاطعا ما تبناه المسلمون بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وٱله، من “فتوحات وغزو” للبلاد الأخرى تحت مسمى نشر الإسلام، لأن الإسلام جاء لتثبيت السلام في الأرض وليس لشن الحروب والغزوات واحتلال دول وشعوب وفرض الجزية عليهم ونهب أموالهم واستعباد أبنائهم وسبي نسائهم،. تلك أعمال الجاهلية.. كما تطرق الكاتب لٱية الجزية في عهد الرسول وحسبها جزاء أي عقابا مثل الغرامة، ولا توجد ٱية واحدة في القرٱن تتحدث عن سبي النساء والأطفال، لكن كتب التراث وكتب المفسرين تعج بالكثير من التلفيقات التي ينسبونها لرسول الإسلام تحت مسمى “الأحاديث”

– مغالطات منطقية

في الفصل الخامس والأخير من هذه الرحلة القصيرة والمركزة يسرد الكاتب ٱيات قرٱنية قال عنها المفسرون أنها تأمر بالحكم بما أنزل الله فماذا أنزل الله وما هي هذه الٱيات وما هو معناها الحرفي والحقيقي؟

من الٱية 44 حتى الٱية 48 من سورة المائدة يتحدث القرٱن الكريم عن أهل الكتاب السابقين، والذين يتوفرون على كتب تتضمن التشريعات الخاصة بأممهم والتي حاولوا إخفاءها فأظهرها القرٱن كدليل إدانة لهم، وهذه الٱيات جزأها المفسرون واكتفوا بأجزاء منها (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)

لكن حينما نقرأها في سياقها الكامل نجد أن الٱيات ابتدأت بقوله تعالى (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشو الناس واخشون ولا تشتروا بٱياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون..) إلى ٱخر الٱيات، ولو كان الله يأمرنا أن نحكم بما أنزل لحدد لنا معالم هذا الحكم في كل صغيرة وكبيرة.. لكن الله سبحانه يعلم أن لكل زمن أهله ولكل عصر مشاكله فترك ذلك للناس عبر مبدأ الشورى التي هي روح العلمانية.

خلاصة: يقع هذا السفر الممتع في 92 صفحة من القطع المتوسط ويمكن اعتباره خلاصة أفكار وٱراء طرحها الكاتب بأسلوب سلس ولغة ممتعة تجعل القارئ ينغمس في صفحات الكتاب دون ملل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.