0

من الجيد بداية هذا المقال بالكيفيتين التي تقام على أساسهما جل البحوث في علم الاجتماع أولهما هي الطريقة الكمية، التي تقوم بمماحكة العلوم الطبيعية والاعتماد على معطيات كمية عددية ، تفسر و تشرح ويصبو الباحث من خلالها كشف التوجه العام في مجتمع تلك الدراسة .مهملتا بهذا النظر لتفصيلات والاختلافات الصغرى والدقيقة في الظواهر الاجتماعية بين جماعة وأخرى. بينما نجد طريقة البحث الكيفية لا تبحث عن التوجه العام و تعميم النتائج ، وإنما تركز على فهم و تأويل الظواهر الاجتماعية من خلال التركيز على تفاصيل التفاصيل الدقيقة و الحفاظ على خصوصية الظواهر في كل مجتمع مع نسبية التعميم .

يعتمد الباحثون في البحوث التي تتم بطرق كيفية على العديد من الأدوات المختلفة لجمع المعطيات الميدانية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر المقابلة الجماعية و المقابلة الفردية و هناك المجموعة البؤرية ، وبالإضافة إلى أنواع المقابلة ، هناك الملاحظة المباشرة والملاحظة بالمشاركة ، وتتبع سير الحياة والاعتماد كذالك في بعض الأبحاث على الذاكرة الحية لبعض الأفراد من أجل استجلاء بعض اللحظات في تاريخ الظواهر التي لم يتم توثيقها في الأوراق من قبل، إضافة إلى الوصف المكثف ، والمسح الاثنوغرافي، بدأنا نجد في السنوات القليلة الماضية حضورا بارزا وقويا لأداة السمعي البصري كوسيلة بحث ناجعة في البحوث الكيفية . ويستند باحثون عدة في أبحاثهم إلى توظيف الصور وشرائط الفيديو في أوراقهم التحليلية مع هذا يبقى انتماء هذه الأداة كأداة منهجية للدراسات الوقائع الاجتماعية في البحوث الكيفية أمر مزمع عليه ، وغير حاسم داخل الأوساط الأكاديمية.

قد يبدو للبعض أن أداة السمعي البصري من الأدوات الجديدة في البحوث السوسيولوجية وفي العلوم الاجتماعية بشكل عام ، شأنها في ذلك شأن أدوات البحث الميدانية المعاصرة مثل ، اثنوغرافية العوالم الافتراضية(Netnography) والمقابلات و الاستمارات الالكترونية التي بدورها تنجز في عالم النت بشكل( أليغوري ) ، مما أدى لنقاش محموم بين الباحثين في هذه العلوم الاجتماعية، حيث يرى مجموعة من الباحثين أن القفز لإنجاز أبحاث علمية محكمة من وراء الحواسب لا يؤدي إلى تأويل الحقيقة. بقدر ما يجعلنا نطرح أسئلة ميتودولوجية حول المعرفة المحصلة عليها من مثل : هل كان المستجوب جديا في إبداء رأيه حول الظاهرة ؟ و كيف نقيس مصداقية المتكلم في هذا البحث ؟ هل سيقول ما قاله إن كان أمام الباحث مباشرة ؟ مشيرين أن العديد من تلك الاستمارة تكون موجه أساسا لطلاب و باحثين في تلك التخصصات .

ينتقد أصحاب هذه الأطروحة الأدوات التي ذكرناها أنفا ويعتبرونها فقط حائط فشل يستعمله الباحثون من أجل تبرير كسلهم في القيام ببحوث ميدانية في الواقع المعاش ، والتواري خلف مكاتبهم (العاجية) . ويحاججون لهذا بالاشارة إلى مجموعة من الباحثين الذين أصبحوا يقومون بالاتكاء على مقاطع الفيديو والصور الموجود في شبكة الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي ، والإكتفاء بتحليل محتواها كمادة أساسية في البحث ، الأمر الذي يعتبر لديهم نوع من الظلف البحثي ويؤكدون أن هذه الطرق هي مجرد محاباة لمهنة الصحفي ، الذي يختص في توثيق الظواهر من خلال الصورة والشريط.

بيد أن المتخصصين في سوسيولوجيا السمعي البصري يعتبرون استعمال هذه التقنيات في بحوثهم هي أكبر من المحاباة والتماهي مع المنهج الصُحفي الذي إن كان يتقاسم مع السوسيولوجي نفس الأداة ، إلا أن طريقة البحث كما يعرف أهل التخصص تختلف بشكل كلي فإن كان الصحفي يتملج الظواهر الفورية وينأى عنها في الآن نفسه، ويتكلم في الغالب عن الواضح والجلي بمنطق الأحكام الفورية ، مستجيبا في هذا لمنطق السوق وما يفرضه الرأي العام من طلب للأحداث الموازية للتغيرات المجتمع السريع.

فالسوسيولوجي أو الأنثروبولوجية رغم استخدام الكاميرا في كتابة النص أو جمع المادة الميدانية ، هو بعبارة ستورس ، يحاول كتابة تاريخ الحاضر ، ما يجعله ملزما عند دراسة الظواهر المعاصرة من الكشف عن مشروعيتها في الماضي وتتبع النسق الذي جعلها تبرز في الحاضر من أجل انتاج خطاب علمي ، وفق مراحل وشروط ميثودلوجيا وإبستيمية خالصة ، محاولا جمع الوقائع المتناثرة التي تؤكّد ندرتها في عالم الصُحفي للفوارق الزمنية المستغرقة في كل تخصص.

كما ينبري فريق داخل حقل العلوم الاجتماعية إلى اعتبار الكتابة والبحث عبر السمعي البصري هو نوع من التملص والمواربة عن البحث الجدي ، حيث يرى العديد من الباحثين أن الجهد المبذول في كتابة النصوص والأطروحات هو أكبر من ما نجده في الكتابة عبر الشريط أو الصورة . إلا أنه عندما نتحدث عن البعد التواصلي في عملية انتاج المعرفة الاجتماعية ومدى قابلية التجاوب معها من خلال الأفراد الغير المتخصصين، يبدو أن السمعي البصري كتقنية للبحث هي بمثابة وسيط جديد قادر على اقتسام الدراسات والتجارب البحثية بشكل أكبر مع الأفراد، والسماح لهم بفهم تلك المشاكل المختلطة في حياتهم اليومية.

ويروى أن خوض البحوث الاجتماعية عبر توظيف السمعي البصري ، قد يكون بادرة انطلاق لتعميم المعرفة الاجتماعية في المجتمعات ، خصوصا إذا اتفقنا أن عالم اليوم هو بلا شك عالم الصورة بامتياز ، والإنسان المعاصر أصبح يتفاعل مع المرئي أكثر من تفاعله مع المقروء ، وحتى تتمركز المقاربة السوسيولوجية بقوة في المجتمع الراهن يرى المتخصصون في هذا التقليد أنه عوض أن تبحث السوسيولوجيا عن الخطاب المفاهيم الثابت والمشذب والمضبوط بالمصطلحات العلمية، التي لا يمكن للعامة من القراء فهمها ، على العلوم الاجتماعية أن تبحث عن الخطاب الموائم الذي يملك لغة يفهمها الجميع، وأن تؤَّشكل الخطاب المناسب لعصرنا القادر على إخراج المعرفة الاجتماعية من الأوساط الأكاديمية إلى حياة الناس اليومية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.