د. محمد بشاري : حرية الجسد أبعد من الأنا حرية الجسد ملكية أم جريمة؟

0

د. محمد بشاريrihanapress

لم تعد مقولة “تنتهي حريتي عندما تبدأ حرية الآخر” كافيةً لرسم حدود الحريات، وبخاصة في ظل الاختلاف الكبير في الجدليات المحيطة بماهية الحريات عامةً، وحرية الفرد بشكل خاص.

إذ يعيش الإنسان اليوم واقعاً مليئاً بعبارات “التعبئة النفسية” لذاته، بحيث يولي رغباته ومصالحه وميولاته قبل أي شيء آخر، بحجة أنها لا تؤذي أحداً ولا تمس خصوصية الغير، الأمر الذي يبقينا متفرجين “باستهجان” على كافة التصرفات الغريبة دون تحديد موقف حازم منها، أو القدرة على اتخاذ القرار الصائب إزائها، مما يؤدي لتكوين صورة مشوهة للثقافة المجتمعية التي ستصبح إرث فيما يلي، إضافة لمغالطات كبيرة في المحتوى المعرفي الخاص بالحق الإنساني، ملتبساً الموقع الصحيح لكل من حريته ومسؤوليته و واجبه، وليس أولى من أن يكون الداعي للعناية بهذا الموضوع، تلك الارتباطية المصيرية المشتركة للإنسان التي لا يمكن تعبئتها بالاستثناءات.

أثرت العديد من العوامل في تشكيل صورة الحريات لدى الأفراد، إذ وبتفاوت الوزن القيمي وصياغته، وبتباين الحضور للنص الديني والتشريعي، بقيت هناك انعطافات حادة يتيمة الإنارة، مما سبب اصطداماً قوياً بين الإنسان وفهم حرياته، فانقسم الوعي الإنساني حول الحرية لفريق غير ملم بها، وفريق آخر تعدى مرحلة الفهم تلك بالقفز عليها، من خلال “مبالغات سلوكية” مطوعاً إياها كأحد التفرعات الطبيعية والتي تعبر عن حريته، في صورة مهملة لوجود المجتمع، إذ تكمن “الإشكالية الكبرى للحرية من خلال ارتباطاتها بسابقاتها، وهي صراعها الدائم ما بين بعديها الفردي والاجتماعي، فإذا كان الفرد هو محور الحرية الأساسي، فإنه لا يستطيع العيش إلا في مجتمع، والحرية الفردية لا تكون كذلك إلا في إطار الجماعة” كما يقول أحد الكتاب.

وبالتالي فإن تعدي مساحة الحرية المنظمة، هو إفساد لذات الحرية، وتهميش لثوابت الوجود الإنساني المتعلقة بمساحة قيمية وأخلاقية، فعندما تؤول التوجهات الرامية للتحرر المطلق بحجة اعتباره “ذاتي”، فهي تتملص أيضاً من القيد الأخلاقي الناظم للعلاقات الإنسانية فتصبح الشتيمة والاستهزاء أمر فردي وتعبير عن الرأي، وبالتالي فذلك اعتراف بالقفز عن القيد القانوني الساعي لتنظيم الحريات وحمايتها، وتغذية “غير صحية” للأنا البشرية التي باتت تشق طريقها في معظم محافل التنمية البشرية “الغير مؤهلة” والتي تختص بغرس فكرة الاستقلال عن الكل وعدم حاجة الإنسان “عاطفياً”، وواقعياً لوجود الآخر مما يبث بصورة قاسية تأسيس “حالة همجية”، واغتراب الإنسان عن ذاته باستخدام مصطلحات أخرى لا تمثلها، فالانتحار وتشويه الجسد، والمثلية الجنسية، والإجهاض، هي كلها انحرافات فكرية كرستها سلوكيات منبثقة من “الأنا” الهشة الاتصال بمعنى الحق والحرية على وجه الحقيقة .

وإذا كانت تلك البرحة الفردانية تغذى من خلال التوجهات المنحرفة عن الفطرة السوية، فإن حرية الجسد بنداء الواقع الذي نعايشه هي بداية حقبة مظلمة، فالحرية لا تتجزأ، والحرية أيضاً لا تتعدى ضوابطها. وبالاتجاه للمجتمع المدني وأعمدته الرئيسة، فهل القيام بالواجبات والمسؤوليات المدنية في المجتمع تكفي لرفع “الوصاية” والرقابة عني والتحرر من كافة القيود الأخرى ؟ وحتى تكون الإجابة منصفة فيجب تحديد ماهية تلك الحقوق والحريات وعلاقتها بالقيد الأخلاقي والمسؤولية الإنسانية، فعند الحديث عن حرية المرأة في تصرفها بجسدها، الذي يعني قدرتها بقراراها الشخصي إجهاض جنين تحمله به، فهذا يعني تعدٍ على حق إنسان آخر وإزهاق لروحه “اعتداء على حق الحياة”، وبالتالي لا يمكن تخليص “حرية الاجهاض” من كافة القيود التي وضعت لتنظيمه، سيما فيما يترتب عليه من حكم شرعي، وبعد صحي ونفسي وأخلاقي اجتماعي، وبالتالي فالملكية الجسدية هي ملكية نسبية لا يمكن إطلاقها.

 إن تعميم حالة “الطوباوية الحرياتية” هي ليست فكرة بل “عثرة” وهدر للطاقة الإنسانية الحري بها الالتفات لتحدياتها الكبرى، سيما أن الإنسان عبر التاريخ وفي مختلف الحضارات والتموقعات لم يعش تلك الحالة المتصورة مما أسميه ب”الانفلات باسم الحرية”، وبالتالي فإن الإنسان الحر هو الواعي بحقوقه وواجباته المسؤولة والمحددة في إطار تشريعي ناظم، والقادر على الشعور بانعكاس سلوكه مع ذاته على المجتمع بأكمله، فالحرية لا تعني سحق الهوية الفردية، في غمار الجمعية، ولا تعبر عنها “اختطاف الأنا ” ومظاهرها!

د. محمد بشاري

أمين عام المجلس العالم

ي للمجتمعات المسلمة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.