ما ٱلَّـذي يَجعلُ كتابَ «ٱلْـعَـمَـل ٱلدِّينيّ وتجديد ٱلْعقل»  أَخْـطرَ كِـتابٍ فلسفيٍّ أَلَّـفه “طه عبد الرحمن” قبل أكثر من ثَــلَـاثة عُـقُودٍ؟

0

عبد الجليل الكور – ريحانة برس

الدكتور عبد الجليل الكور
الدكتور عبد الجليل الكور

1- لِـأَنه – في حُـدُود ٱطِّـلَـاعي وإلى أَنْ يَـأْتيَ ٱلدَّليلُ بخِـلَـافه– أَوّلُ كتابٍ يُـؤلَّـف في ٱلْـعَـربيّة بطريقةٍ نقديَّـةٍ وٱستدلَـاليَّـةٍ بعيدًا عن إِشْـراقات ٱلتّأمُّـل ٱلْـعامّ (وتحديدًا كما عند “مُـحمّد إقبال” في كتابه ٱلرَّائِـد وٱلتَّـوْجيهيّ جدًّا «تجديد [أو، بـﭑلْـأَحْـرى، “إعادة بِـناء”] ٱلْـفِـكْـر ٱلدِّينيّ في ٱلْـإِسْـلَـام» [1934]) لتَـناوُل أحد أَهَـمّ مَـباحث «فلسفة ٱلدِّين» أو «ٱلْـفَـلْسفة ٱلدِّينيّة» ٱلْـمُعاصرة؛ إنه، كما يَـظْهَـر من مُحْـتواه وكَـيْـفيّة عَـرْضه، ليس مَـوْعِـظةً أو خُطْـبةً، ولَـا هو بتصنيفٍ في «عُـلُـوم ٱلْـقُـرْآن» أو في «عِـلْم ٱلسِّـيرة» أو في «عِـلْـم ٱلْـحديث» أو في «عِـلْـم ٱلْـفِـقْـه» أو في «عِـلْـم أُصُول ٱلْـفِـقْه» أو في «عِـلْـم ٱلتَّـفسير» أو في «عِـلْـم ٱلْـكَـلَـام/أُصُـول ٱلدِّين/عِـلْـم ٱلْـعقائد» أو في «عِلْم ٱلتَّـصوُّف» (حتّى إنْ كان يَـسْـتثمر بعض أهَـمّ عطاءات هذه ٱلْـعُـلوم ويُسائِـلُها)، بل هو كتابٌ يَـتناوَلُ تحديدًا «ٱلْـعَـمَـلَ ٱلدِّينيَّ» أو «ٱلتَّجْـرِبة ٱلدِّينيَّةَ» من حيثُ ما يُمْكِــنُ أن يَـكُـون لَـهُما من “ٱلْمعقُوليَّة” (أَيْ من تَوجُّهٍ وأَثَـرٍ عَـقْـليّ، وفائدة معرفيّة)؛ فهو نَـظَرٌ فَـوْقِـيٌّ في «ٱلْـعَـمَـل ٱلدِّينيّ» بغَـرَض بنائه بناءً عَـقْـليًّا مُـدَلَّـلًـا؛

2- لِـأَنه يَـطْـرَح مُـشْـكِـلةً كُـبْـرى على أساس مُـقدِّمتَـيْـن لَـا مَـفَـرّ للعاقل من ٱلتَّـسْـلِـيم بهما إِمّا تَـبَصُّـرًا وإمّا تَـجَـوُّزًا: مُقدِّمة «ٱلصِّفة ٱلْـفِـعْـليّة للعقل» (“ٱلْـعقل” فِعْـلٌ، وليس جوهرًا أو ذاتًا) ومُقدِّمة «مَحْـدُوديّة ٱلْـعقل ٱلْمُجرَّد» (للعقل حُدودٌ مَـعْـلُومةٌ في مَـجالَـات ٱستعماله)؛ إذْ ما إِنْ يُسَـلَّمْ له بأنّ “ٱلْـعقلَ” فِـعْـلٌ إِدْراكيٌّ يَـحْـسُـن أو يَـقْـبُح، وبأنّه يُـواجِه في ٱشْـتغاله ٱلنَّـظريّ حُـدُودًا مُعيَّـنةً (منطقيَّة وواقعيَّة وفلسفيَّة)، حتّى يَـلْـزَم أنْ تُـتناوَلَ مُـشْـكلةُ عَـلَـاقة “ٱلْعقل” بـ”ٱلدِّين” و”ٱلْـأَخْـلَـاق”، ثُـمّ مُـشْـكلة إِمْـكان تَـجاوُز حُـدُوده تلكـ خصوصا بما هو «نَـظَـرٌ مُجَـرَّدٌ» (أَيْ لَـا يستفيد من «ٱلْـعَـمَـل ٱلدِّينيّ/ٱلشَّـرْعيّ»، إِمَّا تجنُّـبا له وإمّا مُعاداةً له) يُـوَلِّـد مَـزِيدًا من “ٱلْـحُـدُود” ٱلَّـتي يَعْـجِـزُ عن رَفْـعها كُــلّها أو بعضها، على ٱلنّحو ٱلَّـذي يُـثْـبِـت ٱمْـتناعَ أَنْ يأتي ٱلتَّجاوُزُ ٱلْـمطلُوبُ من داخل عَـقْـلٍ ذاكـ شأنه؛

3- لِـأَنّه لَـا يكتفي بـٱسْـتشكال مفهوم “ٱلْعقل” من خِـلَـال ٱلنَّـظر في آفات ٱلتّصوُّر ٱلْـجوهريّ وٱلتَّـشييئيّ ٱلسّائد، بل يَـقُـوم بـﭑلِـٱسْـتدلَـال على إِمْـكان تَـجاوُز «حُـدُود ٱلْـعقل ٱلْـمُجَـرَّد» بواسطة ٱلدُّخُـول في «ٱلْعمل ٱلدِّينيّ/ٱلشَّـرْعيّ» ٱلَّـذي يَصيرُ عنده مَـناطَ تجديدِ “ٱلْـعقل” وتوسيعه؛ وهذه ٱلدَّعْـوى وَحْـدها تُـعَـدّ رهانًـا فَـلْسَـفِـيًّـا غير عادِيٍّ بـﭑلْـمرَّة؛

4- لِـأَنَّـه يَنْـقُض ٱلْـفَصْـلَ ٱلشّائعَ بين «ٱلْعَـقْـل ٱلْـعِـلْميّ/ٱلْـفلسفيّ» و«ٱلْـعقل ٱلدِّينيّ» (ٱلْمُتعيِّـن في ٱلْمُمارَسة ٱلْـفِـقْهيّة وٱلصُّوفيّة كلتيهما) مُـبَـيِّـنًا أنّ ٱلْـأَمْـرَ يَـتعلَّـق بمَـراتب في نفس “ٱلْـعقل” تَـقْـبَـل أن يَـنْـدمجَ بعضُها في بعضٍ بـﭑعْـتبار أنّ أَعْـلَـاها لَـا بُـدّ أن يَـسْـتوعبَ أَدْناها؛ وهنا، لَـا بدّ من ٱلتَّـنْبيه على أنّ مَـنْ يُـشَـنِّع على “طه” قائِـلًـا إنّ تَـصوُّرَه ٱلثُّـلَـاثيّ لمَـراتب “ٱلْـعقل” ليس سوى رَدِّ فِـعْـلٍ على تَـصوُّر “الجابري” (بدليل أنه يَـقْـلِـبُ ما ظنَّه هذا مَـرْتبةً دُنْـيا في “ٱلْعقل” إلى مَـرْتَـبةٍ عُـلْـيا عنده) يُسيء فَـهْـمَ أُمُورٍ ثَـلَـاثة: أَوّلُها، أنّ مِـعْـيار ٱلتَّـقْسيم عند “طه” مَـبْـنيٌّ على مَـدى دُخُـول “ٱلنَّـظَـر” في حَـيِّـز “ٱلْـعَـمَـل” ٱلَّـذي له ٱلْـأَسْـبقيّة (“الجابري” يَـتّخذُ مِعْـيارًا للتَّـقْسيم يَستبعد “ٱلْـعَـمَـل” أو، على ٱلْـأَقلّ، يَخْـتزله في “ٱلنَّـظَـر”)؛ وثانيها، أنّ تَـمْييزَه بين مَـراتب “ٱلْعقل” يَقْـتضي ٱلْمُفاضلةَ بينها من تلكـ ٱلنّاحية (ولَـيس بَـتاتًـا فَـصْـلَ بعضها عن بعض، بل بـٱعتبار أنّ ٱلْـأَعْـلى فيها يَستوعبُ ٱلْـأَدْنى)؛ وثالثها، أنّ «ٱلْعقل ٱلْمُـؤيَّـد» (ٱلذي يأبى غَـيْـرُه إِلَّـا أن يُـسَمِّـيَـه عَـقْـلًـا “صُوفيًّا” أو “عِـرْفانيًّا”!) لَـا يَـرُدُّ شيئًا من مَـحاسِـن «ٱلْـعقل ٱلْـمُجَـرَّد» و«ٱلْعقل ٱلْـمُسَـدَّد»، بل يأخُـذ بها جميعا ويَسْـتكملُها ٱسْـتكمالًـا؛ مِمّا يُفِـيدُ أنّ «ٱلْعقلَ ٱلْـمُـؤَيَّـد» أبعدُ عمّا يُتوَهَّـم عنه حينما يُـوصَف بأنه «مُسْـتقِـيلٌ» أو «في سُبات» أو «في عَـطالة»، فهو لَـا يَـسْـتغني عن مُـقَـوِّمات «ٱلْـعقل ٱلْـمُجَـرَّد» ولَـا عن فضائل «ٱلْعقل ٱلْـمُسَـدَّد»، كما أنه يَـبْـقى أَحْـرَصَ على “ٱلتَّـعَـرُّف” عن طريق «ٱلْـعَـمَـل ٱلصّالح» و«ٱلتَّـقرُّب إلى ٱلْـحقّ»!

5- لِـأَنه يَـكْـشِـف أن «ٱلْـعَـملَ ٱلدِّينيَّ» له من “ٱلْـمعقُـوليّة” ما يُعْطِـيه كُـلَّ “ٱلْـمشُـروعيّة” ليُـؤخَـذ بمُقْـتضياته في عُـمُـوم ٱلِـٱشتغال بـ”ٱلْـفِـكْـر” فلسفةً وعِـلْـمًا. ولذا، فَـلَـوْ ثَـبَـت أنّ «ٱلْـعَـملَ ٱلدِّينيَّ» لَـا عَـلَـاقة له إِطْـلَـاقًـا بـ”ٱلْـعقل”، لصارتْ مَشْـرُوعيَّـتُه موضُـوعًا للتَّشْكيـكـ وٱلْـمُعارَضة في مجال ٱلتَّـفلسُف (بل أيضا في مُخْـتلِف أَعْـمال ٱلْـإِنسان)، بما يُوجِـب في ٱلنِّهاية ٱطِّـراحَ “ٱلدِّين”!

6- تَـتجلّى خُـطورةُ ٱلْـكتاب ٱلْـفلسفيّةُ في كَـوْنه يَجْـرُؤُ على جعل «كمال ٱلْعَـقْـل» مَشْـرُوطًـا بـ«كَـمال ٱلدِّين»؛ مِمَّا يُفِـيد أنّ كُلَّ نَـقْـصٍ في “ٱلدِّين” (بما هو تَخَـلُّـقٌ وتَحَـقُّقٌ) يُورِثُ نَـقْـصًا في “ٱلْـعقل” (بما هو تَـقَـرُّبٌ وتَعَـرُّفٌ)؛ وأشدّ من هذا، فإنّ صَـيْـرُورةَ «ٱلْـعَـمَـل ٱلدِّينيّ» شَـرْطًا في تجديد “ٱلْـعقل” وتوسيعه تُعْـطِـيه ٱلْـقُــدْرةَ على معرفة «حقائق ٱلْـغَـيْـب» عَـيْـنِها من حيث إنّ ٱلتَّـحقُّـق بـ”ٱلْـعَـبْـديَّـة” تَـزَكِّـيًا وتَـقَـرُّبًـا يَـقْـتضي ٱلظُّهُـور على “ٱلْـعَـيْـنِـيَّة” تَعَـقُّـلًـا وتَـعَـرُّفًـا (على قَـدْر “ٱلتَّـقَـرُّب” بـٱلْـعَـمَل ٱلدِّينيّ كفِعْـل عَـقْـليّ، يَـكُون “ٱلتَّعرُّف”!)؛ فهُـو، إِذًا، كتابٌ يَـتطلَّعُ إلى تَـجاوُز «ٱلنَّـقْـد ٱلْـكَـنْطيّ» إِذْ يُـبَـيِّـنُ أنّ مَـدارَ ٱلْـأَمْـر ليس على تلكـ «ٱلذَّات ٱلْعاقِـلة» ٱلْـمُـتعالية في تَـسَيُّــدها أو تَـرَبُّــبها، بل هو قائمٌ على «سَـيْـرُورة ٱلْـعَـمَـل» بما هي تَحْـوِيلٌ دائمٌ لِـأَفْـعال ٱلْـباطن يَصِلُ وَصْلًـا بين “ٱلتَّـقَـرُّب” و”ٱلتَّـعَـرُّف” بـٱلشَّكْـل ٱلذي يُمَكِّـن من ٱلْخُـرُوج من «حُـدُود ٱلْعقل ٱلْمُجرَّد» عن طريق خَـوْض «ٱلتَّجْـرِبة ٱلرُّوحيّة» ٱلتي تَـترتَّـبُ على ٱلدُّخُـول في «ٱلْـعَـمل ٱلدِّينيّ/ٱلشَّـرْعيّ» (ثُـمّ مُـواصَـلة ٱلتَّـغَـلْـغُـل فيه) وٱلتي تَـكْـفُـلُ، من ثَـمّ، مَـزِيدًا من تَسْـدِيد “ٱلْـمعقوليّة” وتأييدها لتحصيل معرفةٍ حقيقيّةٍ بما ليس موضوعًا لـ«ٱلتَّجْـرِبة ٱلْحِـسِّـيّة»: ولَـيْـتَ شِعْـرِي، أَلَـيْـسَ هذا هو نفسُه «ٱلِـﭑنْـقِـلَـاب ٱلكُـوﭘـيرنيكيّ» وقد صار مع “طه” ٱنْـقِـلَـابًـا جِـذْريًّا في قانُـون “ٱلْـعَـقْـلَـانيّة” إلى حَـدٍّ لَـا يَـمْـلِـكُـ معه ٱلْـواقفُون على ظاهر “ٱلدِّين” وٱلْـجاحدُون لحقيقته إِلَّـا أَنْ يُـنْكِـرُوه إِنْـكارًا فَـيَـتمادَوْا في ٱلتَّـشْنِـيع تحديدًا على عُـمُـوم “ٱلتَّـصَـوُّف” كأنّه يَـقْـبَـلُ أن يُـرَدَّ كُـلُّه إلى أَمْـراض “ٱلتَّـخْريف” و”ٱلتَّـدْجِـيل”، بل كأنّ “ٱلتَّـزْكِـيَـةَ” و”ٱلتَّـدْسِـيَـةَ” سِـيَّانِ رُتْـبةً وثَـمَـرةً؛ ولَـا يكاد هَـؤُلَـاء يُـدْرِكُـون أنَّ حِـرْصَـهم على ٱلْـفَـصْـل بين “ٱلدِّين” و”ٱلْعَـقْـل” يَـؤُولُ ضَـرُورةً إلى جعل “ٱلدِّين” دُون “ٱلْـعَـقْـل” بما يَـضَعُه تمامًـا في مَـقام “ٱلـلَّـامعقولية” تَخْـرِيفًـا وتَـدْجِـيلًـا!

7- إِذَا ثَـبَـت أنّ كتابَ «ٱلْـعَـمَـل ٱلدِّينيّ وتجديد ٱلْعقل» هو بتلكـ ٱلْـأَهمِّـيَّة ٱلْـقُصْـوَى، فَـلَـا تكتمل ٱلرُّؤْيةُ من دون إِدْراكـ أنّ كُـلَّ كُـتُـب “طه” ٱلْـأُخْـرى ٱلَّـتي أَتَـتْ بَعْـدَه في فلسفتي “ٱلدِّين” و”ٱلْـأَخْـلَـاق” إِنَّـما هي مُشْتقَّةٌ منه ومَـبْـنيَّةٌ عليه بوصفه فقط «ثَـمَـرةً أُولَى» (يَقُول في مُقدِّمته: «وتَولَّد عندنا، نتيجةَ تفاعُل جانب التَّجْـرِبة وجانب التّعقُّل في مُمارَستنا الخُلُقيّة والعِـلْميّة، “فكرٌ دينيٌّ” مُـتكاملٌ ومُـتجدِّدٌ، هذه أُولى ثَـمَـراته نُـقَـدِّمُها للقُـرّاء تَـتْـلُوها بإذن اللّـه ثَـمَـراتٌ أُخرى»، ص. 11)، مِـمَّا يَجعلُها تَـفْرِيعًا على أُصُوله أو مَـزِيدَ تَـبْـيِـينٍ لها أو تَوْسيعًـا لنتائجه؛ ولَـا يَـشِـذُّ عن هذا حتّى كتابُـه «ثُـغُـور المرابطة» [ط 1، 2018؛ ط 2، 2019] ٱلَّـذي كان بحَـقٍّ «ضَـرْبةَ مُعَـلِّمٍ مُقْـتَـدِرٍ» فأَرْبَـكـ حساباتِ كُـلِّ من كانوا يَظُـنُّـون أنّ فِـكْـرَه يَصلُح أن يَـكُون حِصانَـهم ٱلطَّرْواديَّ لتحقيق مَـآربهم ٱلْخاصّة، كما فَـضَح ٱلَّـذِين صَـدَّقُـوا قِـراءتَـهم ٱلْـمُـبْـتسَـرةَ ٱلتي لم تُـعْـطِـهم من حقيقة تَـخَـلُّـقه ٱلصُّوفيّ سوى ظاهره ٱلْـوَدِيع ٱلْـمُـتباعِـد عن خَـوْض ٱلْعِـراكـ في مَـيْـدان «ٱلْعمل ٱلْعُمْـرانيّ» فأَغْـفَـلُـوا باطنَه ٱلشَّـديدَ ٱلْـمُتمثِّـل في تأسيس «ٱلتَّـحَـوُّل ٱلْـجِذْريّ» ٱلَّـذي تَـرْمِـي إلى إِحْـداثه «أَخْـلَـاقُ ٱلْـعُـمْـق» من حيث إنَّ طابعَها ٱلتَّـوْجِـيهيَّ هو بمَـثابة طَـلَب «ٱلتَّحَـقُّـق ٱلْـعَـمَـليّ» ٱلَّـذي يَسْـتنهض ٱلْـهِـمَـمَ لتُسائِـلَ ٱلْـواقعَ ٱلْـمُنْحرِفَ وتُـناهضَه بقُوَّةٍ رُوحيَّـةٍ تَـسْـتبدلُ «ٱلتَّـزْكية ٱلِـٱئْـتمانيّة» (بكَـمالَـاتها ٱلتَّـقَـرُّبيّة وٱلتَّعَـرُّفيّة) مَكان «ٱلتَّـدْسِـيَـة ٱلِـٱخْـتيانيّة» بكُـلّ سُـلْـطانها ٱلتَّـمَـلُّكيّ وٱلتَّـسَـيُّديّ؛ ومَـنْ فاته أَنْ يُـدْرِكَـ ذلكـ في قراءته لذاكـ ٱلْـكتاب ٱلْـمُـزْعِـج، فما عليه إِلَّـا أن يَـرَى كيف أنّ “طه” أَبَـى إِلَّـا أن يَـزِيدَ ٱلطَّـرْق على مَـسامِـير مُساءلته ٱلنَّقْـديّة لتَـتَغلْـغَـلَ عميقًـا في خَـشَـبِ ٱلسَّـفِـينة ٱلْـمُشْـرِفة على ٱلْـغَـرَق لَـعلَّها تَسْـتقيم لتستأنف إِبْـحارَها في فضاء ٱلْـعالَـم كُـلِّـه، وذلكـ ضمن ٱلْـجُـزْء ٱلثّاني من كتابه ٱلْـأَخير «ٱلْـمَـفاهِـيم ٱلْـأَخْـلَـاقيَّة بين ٱلِـٱئْـتمانيّة وٱلْـعَـلْـمانيّة، 2- ٱلْـمَـفاهيم ٱلْعَـلْمانيّة» [ط 1، 2021] في مُلْحَـقه ٱلَّـذي عَـنْـوَنَـه بـ«ٱلْعالميَّة ٱلِـٱئْـتمانيّة وٱلسُّـؤال ٱلسِّـياسيّ» وٱلَّـذي يأتي بنَـقْـضٍ أَخْـلَـاقيٍّ صريحٍ لِـأَرْكانِ «ٱلدَّوْلة ٱلْحَـدِيثة» (حتّى كما يَـبْـتهج بها “ٱلْـإسْـلَـاميُّون” وفُـقهاؤُهم!) ليس فقط بوَصْفها ٱلْمَـجال حيث يَقُـوم «ٱلْـفعلُ ٱلسِّـياسيُّ» ٱلَّـذي عَـدَّهُ «[…]، على مُقْـتضاه الحداثيّ، [قاصـرًا] عن الوفاء بالمُقْـتضى العالميّ لـ”ميثاق ٱلاستئمان”؛»، ص. 308)، بل بوَصْفها أَيْضًـا «دولةً فاسدةً أَخْـلَـاقـيًّا لِـإِخْـلَـالها بِمُـقْـتضَيات ٱلِـٱئْـتمانيّة» على ٱلنّحْـو ٱلَّـذي يَـسْـتدعي ٱلتّساؤُلَ عن «[إِمْـكان] إِتْـيان فعلٍ سياسيٍّ بَـدِيلٍ يتأسّس على “ٱلْعالَم” بدَل “ٱلْحَـوْز”، سَـكنًا، وعلى “ٱلْـأَمانة” بَـدَل “ٱلْحِـيازة”، تَعامُلًـا، وعلى “ٱلْمُعامَـلة” بدَل “ٱلْمُواطَـنة”، تآخيًا؟» (ص. 308)؛ وإذَا ٱتَّضَحَ هذا، فما أشدّ سُخْـفَ مَـنْ صار يَـتَـوَهَّـم أنّ كتابَ «ثُـغُـور ٱلْـمُـرابَـطة» مُهَـلْـهَــلٌ مَـنْطقيًّا وفَـلْسَـفيًّا أو أنه شاذٌّ عن نَـسَـق “طه” ٱلْــفِـكْـريّ كأَنّ مُـراجَـعتَـه لتَجْـرِبة “ٱلصَّحابة” إِثْـمٌ لَـا يُغْـتفَـر أَخْـلَـاقيًّا وكأَنَّ نَـقْـدَه لِـأَنْـظمة “ٱلِـٱستبداد” ٱلْـمُتسلِّطة بـﭑسْم ٱلدِّين يُعَـدُّ غَـوايةً سياسيَّـةً يَـمْـتنعُ تَعْـليلُها فلسفيًّا!

8- وهكذا، فَـلِـأَنَّ كتابَ «ٱلْـعَـمَـل ٱلدِّينيّ وتجديد ٱلْعقل» يَـتناوَلُ فلسفيًّا مُشْـكلةَ «حُـدُود ٱلْـعقل ٱلْـمُجَـرَّد» مُـقْـترِحًـا نَـظريَّـةً جَـرِيئةً جِـدًّا في “ٱلْـمعقُوليّة” تَـطَّـرِح ٱلْـفَـصْـلَ بين مَـراتِـبها وتَـسْمَـح بـٱلتّكامُـل بينها وبتأكيد دَوام ٱسْـتكمالها وتوسيعها، فكُـلُّ مَـنْ يَرْفُـض ما يَعْـرِضه “طه” فيه سيُـطالَـب بأَنْ يَجْـتهدَ مِـثْـلَـه أو أفضل منه لِـإِيجادِ حَـلٍّ أَنْـسَـبَ لنَـفْـس ٱلْـمُـشْـكِـلة؛ وبكُـلّ تأكيد، فهذا عَـمَـلٌ يحتاج إلى كفاءةٍ تَـتعدّى بكثيرٍ ٱلْـقُـدرةَ على إرسال ٱلْـكَـلَـام بغَـرَض مُطْـلَـق ٱلتَّـشْنيع أو ٱلِـٱجْـتراء على ٱلِـٱتِّـهام ٱلْجزافيّ لِـإِيهامنا بأنّنا بصدد «فِـكْـرٍ دِينيٍّ» لَـا صلة له بَـتاتًا بـ”ٱلتَّـفلسُف” أو أنّ مَـنْ يَقُـول عكسَ هذا إنّما هو مُـرِيـدٌ يَـتقرَّبُ بتقديس شخصٍ لَـا يَـزيد عن كونه «فَـقِـيهًا مُتسلِّـفًا» أو «صُوفيًّا طُـرُقيًّا» يُـسَـوِّقُ تَـدْجِـيلَه وتَـخْـريفَه ٱلْمفضوحَـيْـن مُغلِّـفًـا إِيَّـاهما بمَـنْـطِـقٍ صُوريٍّ عقيمٍ!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.