الدكتور محمد البشاري يكتب : نحو تشاركية إنسانية واعية

0

الدكتور محمد البشاري – الاتحاد الاماراتية

تخطت «المدينة الفاضلة» السياق الذي وضعت له، حتى باتت فكرة يسعى لتحقيقها كل من أراد تحقيق الإتقان في صناعة صورة متقنة في مجاله، فهناك مدينة فاضلة في الملف الأكاديمي، وأخرى في السياسي، وغيرها في الاجتماعي.. وهكذا.

وفي ظل «تراكم الأزمات» الذي تواجهه البشرية بكل ما أوتيت من قوة، وفي حين تسعى كافة الخطابات الموجهة لعقل الإنسان – أياً كان لونها ورسمها – إلى تعميم طبيعة السلوك الأفضل، وتطبيقه على المجتمعات الإنسانية، بغية اكتساب القدرة على الدخول الحقيقي لمضمار الواقع.. كان الاعتراف باستحالة الارتقاء بالمستوى، الدافع للسلوك لدى كافة أفراد المجتمع بذات الدرجة، لا سيما لاختلاف الموقع الجغرافي، وجغرافية التكوين المعرفي، والطبيعة العمرية.

كما أنه من غير المقبول، لا في الأديان ولا في الأعراف، تعميم «تشريع – تقاليد» أو «تشريع -دين» على مختلف الفئات، وبالتالي كان القانون أو التشريع الوضعي هو الحل الأمثل لإيجاد بيئة تنظيمية تتخذ موقف الوسط التنسيقي بين الفرد وسلوكه من جهة، والفرد والجهات المسؤولة عن استتباب الأمن والاستقرار من جهة أخرى.

إن القانون يمثل استجابة مواتية لطبيعة الإنسان وفطرته المجبولة على اجتماعيته وحتمية اندماجه مع الآخرين وتشاركه وتعاونه، إذ يمثل المجتمع البشري دائرة دائمة السريان تتعاون مكوناتها محققةً مصالح الجميع في صورة تكاملية متقنة.

وبالتالي فإن القانون إطار محكم لسلسلة واسعة من التفاعل الإنساني، وهو تفاعل يستوعب مختلف أطرافه وقادر على التفريق بين الحق والواجب، وعلى احتضان نوازع الفردية والأنانية النابعة من السلوك البشري. و«القانون هو علم الهندسة الاجتماعية الذي يتحقق من خلاله تنظيم العلاقات الإنسانية في المجتمع المنظَّم سياسياً، أو هو الضبط الاجتماعي عن طريق الاستخدام المنهجي المطرد لقوة المجتمع المنظم سياسياً»، كما يرى الباحث الأميركي روسكو باوند.

وفي هذا الصدد تتعين الإشارة لما سيترتب من مجهود لتحقيق استيعاب قانوني كفؤ، لا سيما أن التوفيق بين متطلبات الاحترام التشريعي ومتطلبات التعددية الحضارية في المجتمعات الإنسانية يستدعي تضافر جهود أصحاب القرار والقائمين على الاجتهادات الفقهية والفكرية من أجل الوصول إلى أرضية وسط، تُخرج أفراد المجتمعات من حالة الضبابية والتيه إزاء الفهم التشريعي والتفريق بينه والمكونات الفكرية والاتجاهات المتباينة من جهة أخرى، وبشكل خاص لدى أتباع الديانات في التعامل بين الانتماء للأمة والانتماء للوطن.

الوعي بهذه الحيثيات في ما يتعلق بالتأسيس التشريعي في المجتمعات، يعتبر المساقَ الإجباري الذي يسبق الوصول لمرحلة من الوفاق الإنسان إزاء التشريع الوضعي، لا سيما أن الوصول لثقافة عامة مجتمعية قانونية، هو رأسمال المشروع التوعوي الاجتماعي الذي يخلص لالتزام قانوني مبني على وعي واحترام متبادلين. ولدى الحديث عن ضرورة توليد مجتمعات ذات حمولة أخلاقية متزنة، فإن القانون يشترك في تحقيق ذلك، لا سيما أن فكرة العدل تتقدم على الكثير من القيم على مستوى الضمير الإنساني، وبالتالي فالقانون الدافع بتحقيق العدل يثبت معايير الاتزان السلوكي الواجب، ويساعد في تحقيق غيره من الأخلاقيات كالاحترام والمساواة.

وتبرز بوضوح حدود الثقافة القانونية في أي مجتمع إنساني بالاعتماد على ركيزة العلم بالقانون في المرتبة الأولى، ثم احترام ذلك القانون، فالعلم به يحقق مستلزماته الضرورية من إيضاحات دقيقة للقوانين وما تضم من أنظمة وتعليمات وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وتبيان لحدود الصلاحيات وماهية الإجراءات التنفيذية. وأما احترام القانون فهو ترجمة سلوكية لنص تشريعي، وإثبات حاجة الإنسان للقانون من خلال دراسة تأثيرات ونتاجات ذلك.

لقد باتت الملامح الكبرى لبناء استراتيجية الوعي الإنساني أوضح وأكثر قرباً من العقل الإنساني الساعي على الدوام للاجتهاد والاستزادة، وذلك مع حضور قوي للجانب الأخلاقي، وإن الوعي الإنساني بالقانون كمظهر اجتماعي متغير عبر الزمان والمكان، يمثل ضرورةً توازي الحاجةَ لإضفاء الطابع الإنساني والأخلاقي على الأشياء، لا سيما تلك المتداخلة مع السلوك الإنساني، وتكوين إرادته الحرة، وصولا للصورة المأمولة من تشييد دول وطنية حقيقية تحترم العقد الاجتماعي وتتناغم والآخر بصورة متزنة واعية، متساميةً على كافة الاختلافات والعراقيل ومتجهةً نحو الارتقاء بالإنسان والإضافة النوعية إلى الخط الحضاري الإنساني، وتحقيق الطموح الدافع بمصالح الإنسانية كوحدة متحدة مؤمنة بالمشترك الإنساني وروابط الأخوّة المتينة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.