الدكتور عبد الجليل الكور : الغلمانية والعلمانية والإسلامية والتلاعب بالمصطلحات

  • بتاريخ : 10 يونيو، 2023 - 11:57
  • عبد الجليل الكور – ريحانة برس

    وَضَعْـتُ، قَـبْـل بِضْع سنوات (في 2017، يُنْظَـر كتابي: «بعيدًا عن ٱلْعَـلْمانيَّة وٱلْـإسْـلَـامانيَّة»، ص. 134-135، هامش 1) لفظَ “ٱلْـغَـلْمانيَّة” في مُقابل ٱلْمُصْـطلَح ٱلْـأَجْـنبيّ «sexularism» ٱلذي صِـيغَ بتَصْـحيف لفظ «secularism» (ٱلْمُترْجَـم غالبا بـ”عَـلْمانيَّة”)، حيث إنّ ٱلْـفَـرْقَ بين ٱللَّفْظَـيْـن ليس سوى وَضْـع حَـرْف أو صَوْت «x» بَـدلًـا من حرف أو صوت «c» ٱللَّـذَيْـن بينهما ٱشْـتراكٌـ أَصْـليٌّ (يَـتضمَّـن ٱلصَّـوْتُ ٱلْـأَوَّلُ ٱلصَّوْتَ ٱلثّاني: إِكـ+س= x). فكأنّ واضعَ ٱلْمُصطلَح ٱلْـأَجْـنبيّ قد جعل من خطإٍ في ٱلنُّـطْـق سندًا للتَّعْـبير عن معنى جديدٍ وطريفٍ يَـتعلَّق بـ«كَـوْن ٱلْعَـلْمانيّة تُشجِّـع على تحرير ٱلْحياة ٱلْجِنْـسيّة وتُـنْهِـي ٱضْطهاد ٱلْـأَفْـراد بسبب ٱلْعَـلَـاقات ٱلْجِنْـسيّة ٱلْحُـرَّة». ولِـذا، فإنَّ توليدَ ٱلْمُقابل ٱلْـعربيّ يَـتأتَّى بحفظ ٱلْجِـناس مع لفظ “ٱلْعَـلْمانيّة” من خِـلَـال ٱلتَّـلَـاعُـب بحرف أو صوت “ٱلْعَـيْـن” وتصحيفه إلى حرف أو صوت “ٱلْـغَـيْـن”، فيُقال “ٱلْـغَـلْـمانيَّة” على ٱلنَّحْـو ٱلذي يَجعلُنا نُصادف معنًى أَصْـليًّا في ٱللِّسان ٱلْعَـرَبيّ هو “ٱلْـغَـلْم” (أَيْ «تَغْطِـيَة ٱلْـإِنْـسان ليَعْـرَق») و«ٱلْغَـلَم/ٱلْغُـلْمة» (أَيْ «ٱشْـتداد شَهْـوة ٱلْجِـماع»). وبِـما أنَّ “ٱلْعَـلْمانيَّة” تُؤدِّي إلى تَحْـرير «ٱلْحياة ٱلْجِـنْسيّة» وتَضعُها ضمن «حُـقوق ٱلْـإنسان» ٱلْمُـقدَّسة، فإنَّ نُـزُوعَها “ٱلْغَـلْـمانيّ” هذا يَجعلُها تُمثِّـل وَجْـهًا آخَـر لِلْفَصْـل بين “ٱلْـإِنسان” ورَبِّـه “ٱلْخالِـق” و”ٱلْـآمِـر”؛ إنّها تُـقِـيم “ٱلْـإِنْـسان” مالكًا لجَسده بحيث يَحِـقّ له أن يَـتصرَّف فيه بحسب هَـواه وفيما وراء ٱلْـأَوامر وٱلنّواهي ٱلدِّينيةّ و، بـﭑلْـأَحْـرى، بعيدًا عن ٱلْـقيم ٱلِـﭑجْـتماعيّة وٱلثَّـقافيّة ٱلتي كانت ولَـا تزال تَـمْنَع أنواعًا من ٱلْمُمارَسة ٱلْجِـنْسيّة. وبِـناءً على هذا، يَـنْـبغي أن يُـلَـاحَظ أنَّ “ٱلسَّـلْبَ” ٱلـلَّـازِم في “ٱلْعَـلْـمانيَّة” (بِـما هي “تحييدٌ” يَتعيَّن كـ«سعي إلى ٱلِـﭑنْـفكاكـ عن تأثير ٱلْعالَـم ٱلْـمُؤدِّي إلى ٱسْـتِـلَـاب ٱلْـإِنْـسان تحديدًا بـﭑسْم ٱلدِّين») صار يُتصوَّر، بـﭑلْـأَساس، في ٱتِّجاه «تَحْـرير ٱلْحياة ٱلْجِـنْسيَّة» لدى ٱلذُّكُـور وٱلْـإِناث من دُون أَيِّ تَـمْييزٍ بينهم (سواء أَكان سندُه طبيعيًّا أمْ ثقافيًّا)؛ وهو ما يَـؤُول إلى «تَـغْـلِـيم ٱلشَّهوات ٱلْجِـنْـسيّة وتَغْـليبها لدى ٱلْـأَفْـراء (سواء أكانوا عاديِّين أَمْ شواذّ) بـﭑلشَّكْـل ٱلذي يُعْـطِـيها شَـرْعيّةً وقُدسيّةً غير دينيّة». ومن أَدْرَكـ ذلكـ، لَـنْ يَصْـعُب عليه أن يقف على مُـفارَقةٍ مُـذْهِـلةٍ تُفيد أنَّ “ٱلْعَـلْمانيّة” لَـا بُدّ أن تَـنْقلبَ إلى “ٱلـلَّـاعَـلْـمانيّة”: فإذَا كان ٱلْـأَصلُ في معنى “ٱلْعَـلْمانيّة” ٱلْعميق يَـرْجِـع إلى «فِعْـل ٱلْـعَـلْم» ٱلذي يُؤكِّـد حَصْـرًا «أهميَّة عَـلَـاقة “ٱلْـإِنسان” بهذا “ٱلْـعالَـم” في دُنْـيويَّـته أو دَهْـريَّـته» (تمامًـا بِخِـلَـاف مَـنْ يَـرى «أهميَّة عَـلَـاقة “ٱلْـإِنْـسان”، بل “ٱلْعالَـم” عَـيْـنه، بـرَبٍّ خالِـقٍ ومُنْعِـمٍ وبإِلَـاهٍ آمِـرٍ وهادٍ»)، فإنَّ ٱلِـﭑنْـتقالَ إلى “ٱلْغَـلْمانيّة” يَقْـتضي ٱنْـقِـلَـابًا جذريًّا يَقُـوم على أنّ إرادةَ ٱستكمال تحرير “ٱلْـإنسان” وتَسْييده تُوجِـب إِتْـيانَ «فِعْـل ٱلْـغَـلْم» ٱلذي يَـتناول عَـلَـاقة “ٱلْـإِنسان” بجسده من جهة كونه هذا «ٱلْجِسْم ٱلْمادِّيّ ٱلْـحَيّ» ٱلْـموضوع بـﭑلضَّـرُورة لِـلِـﭑسْـتعمال في حُدود شُـرُوط «ٱلْعالَـم ٱلدُّنْـيويّ ٱلْـمُدنَّس». وهكذا، فإنَّ “ٱلْعَـلْمانيَّة” في نُـزُوعها إلى ٱلْـعَـمَـل على تَسْـيِـيد “ٱلْـإِنسان” وجعله فاعِـلًـا حُـرًّا ومُسْـتقلًّـا ما فتئتْ تَـتحوَّل – بـﭑلْخُصُوص في ٱلْمُجْـتمَعات “ٱلْـغربيَّة”– إلى هذه “ٱلْغَـلْمانيّة” ٱلمُـتوسِّعة ٱلتي تشتغل في ٱتِّجاه جعل «ٱلتَّعْـلِـيم ٱلْمَـدْرَسَـيّ» يستوي على شاكلة «تَـغْـلِـيم لِـلْـإِنْسان» يَطْـلُـب – على ٱلْـأَقـلّ في ٱلظَّاهِـر– تَـنْـصيبَه سيِّدًا لنفسه بحيث يَـرْجِـع له هو وحده أن يُـقَـرِّر بشأن ٱلْكيفيّة ٱلتي يَجْـدُر به أن يستعمل جَـسدَه بمُقْـتضى أنه موضوعٌ لـ”ٱلتَّجْـنِـيس” ٱلذي لَـا يبدو طبيعيًّا إِلَّـا بقدر ما يُجْهَـل أنه تَـرْسيخٌ مُؤسَّـسيٌّ لتأثير ٱلْعالَـم ٱلِـﭑجْـتماعيّ وٱلثَّـقافي حيث يُـنَشَّأُ عادةً ٱلْـأَفْـرادُ. ومن هنا، فإذَا كان “ٱلتَّعْـليمُ” – بما هو جُـزْءٌ أساسيٌّ من آثار وُجُـود “ٱلْـإنسان” وفعله ضمن هذا ٱلْعالَـم– يُمثِّـل سَـيْـرُورةً ٱجتماعيّةً لِـإِكْساب ٱلْـأَفْـراد ما يكفي من “ٱلْـمَعارف” و”ٱلْـعُـلُوم” لتنشئتهم بوصفهم “مُواطِـنين” أَحْـرارًا ومُتساوِين، فإنّ ثُـبُـوتَ كوْن “ٱلْجَـسد” يُسْـتعمَل واسطةً وآلةً عُـضْـويَّةً مَـبْـنيَّةً ٱجْـتماعيًّا وثقافيًّا يَـفْـرِض أن يَـشْـتغل “ٱلتَّـعْـلِـيمُ” بوصفه مُـزْدوِجًا بـ”ٱلتَّغْـلِـيم” ٱلذي يُـراد به «تَحْـرير ٱلْحياة ٱلْجِـنْسيّة». لكنْ، بِـما أنّ “ٱلتَّعْـليم” ليس – في ٱلْـعُـمْـق– سوى مُـواصَلة لـ«سِـياسة ٱلْحيوان» كـﭑسْـتئناسٍ وتَطْـويعٍ مَـدَنيِّـيْـن لِـلْـإِنْـسان، فإنه يَـصيرُ مُنْـدرِجًا في إطار إعادة إِنْـتاج أَنْـظمة ٱلسَّـيْـطرة ٱلِـﭑجْـتماعية؛ مِـمَّا يعني أنّ ٱلْـوَجْـهَ ٱلظَّاهِـرَ من “ٱلتَّعْـليم” بما هو “ٱلتَّـنْـوير” عَـيْـنه، وأنَّ ٱلْـوَجْـهَ ٱلْـآخِـذ ٱنْـتشاره من “ٱلتَّـغْـليم” كأنه حقيقة “ٱلتَّـحْـرير”، يَـتضافران للتَّـمْـكِـين لِـــ«تَسْـخِـير ٱلْـإِنْـسان» عن طريق «سياسة حَـيَـوِيَّـة» تَـتوخَّى ٱلتَّحكُّمَ منهجيًّا في كُـلّ ٱلِـﭑسْـتعمالَـات ٱلْمُمْـكِـنة لِـأَذْهـان ٱلْـأَفْـراد وأَجْـسادهم. وفي ٱلْـمدى ٱلذي يَـتبيَّن أنّ مآل “ٱلْعَـلْـمانيَّة” إلى “ٱلْغَـلْـمانيَّة” يَفْـضَـح ٱلِـﭑدِّعاءَ ٱلشّائع بأنّ غَـرضَها «تحييد ٱلدَّوْلة» بما هي مجال للتَّـدْبِـير ٱلسِّياسيّ وٱلْعُـمُوميّ، فإنه لَـا يَعُـود ثَـمَّة شكٌّـ في أنَّ ما صار يُرى من ٱزْدواج “ٱلتَّعْـليم” بـ”ٱلتَّـغْـلِـيم” يُـؤكِّـد أن “ٱلدَّوْلة” (حتّى في صورتها ٱلْمَـزْعُـومة “مَـدَنيَّة” و”عَـلْمانيّة”) لَـا تَـنْفَكُّـ عن ٱلتَّوْظيف ٱلْمُتحيِّز ٱجتماعيًّا وثقافيًّا وٱلْخادم أَساسًا لِـمَصالِح “ٱلْمُسَيْطِـرين” ٱقْـتصاديًّا وسياسيًّا. فَـلَـا عجب، إِذًا، أن يُـلَـاحَـظ أنّ ٱلْـمطلُوب عالميًّا بات لَـا يَعْـدُو ٱلْعملَ على ٱلنُّـزُول بـ”ٱلْـإِنْسان” من مَـقام «ٱلْـفاعل ٱلْمُتسيِّـد» إلى وَضْع «ٱلْـمُنْـفعِـل ٱلْـمُـتغلِّم» ٱلذي يُـفَـرَّغ تَعْـليميًّا ويُضلَّـل إِعْـلَـاميًّا بما يكفي لجعله شخصًا مُستكينًا وطَـيِّعًا لَـا يكاد يُـبالي أَنْ يُـفْـعَـلَ به نَفْـسيًّا وجَـسَـديًّا!