من أجل مقال صحفي يحترم ذكاء القارئ لتخليق الحياة العامة كي لا يكرس لعقلية “أنا ومن بعدي الطوفان

0

ريحانة برس- محمد عبيد

يعتقد البعض أن الصحافة هي أن تنشر كل ما تتلقاه من معلومة من أي كان، وان تنشرها دون تمحيص أو تمحيض باعتبار أن الصحفي هو لسان الأمة وخاصة عندما يكون الاتصال أو التواصل من أطراف ترى أنها مغبونة..

 وأن قيام الصحفي بالنشر وهو يلتحف سلهام المناضل في طابور الصحافة المستقلة أساسا هو أقل واجب ممكن للمساهمة في حماية الحقوق خاصة هكذا فئوية، ومواجهة الفساد والظلم النفوذيين، وفي ميادين حيوية بطرح قضايا، سعيا إلى إلفات الإنتباه والإهتمام، إلى ما يجري في مجال من أجل ردع هكذا تصرفات إجرامية مهنية، ومعالجات إستغبانية إحتقارية… هذا في وقت تتطلب فيه التغطية الصحفية الحصول على معلومة وتفاصيلها والتطورات والجوانب المختلفة حدث أو واقعة أو تصريح ما أو بعبارة أخرى يجيب على كل الأسئلة التي قد تتبادر الى ذهن القارئ في شأن واقعة ما، أو الحدث او التصريح المسؤول حتى يمكن تقييم المعلومات ومن تمة تحريرها باسلوب صحفي مناسب وفي شكل صحفي مناسب يتوافق وانواع التغطية الإخبارية من حيث المضمون منها التغطية المحايدة التي تقدم الحقائق خالية من العنصر الذاتي والتحيز اي عرض الحقائق الاساسية، والمعلومات المضبوطة المتعلقة بالموضوع، من دون تعميق ابعاد جديدة أو تقديم خلفيات او تدخل بالرأي او مزج الوقائع بوجهات نظر وفرضيات؟!! وإن تعلق الأمر بتغطية تفسيرية..

فالصحفي يجمع المعلومات المساعدة أو التفسيرية إلى جانب الحقائق الأساسية للقصص الإخبارية بهدف تفسير الخبر او شرحه خدمة للقراء…حيث يشترط ان تكون التغطية منصفة كي على لا يقع الناشر في تغطية متحيزة او ملونة عندما يرمز على جانب معين من الخبر وقد يحذف بعض الوقائع او يبالغ في بعضها او يشوه بعض الوقائع وقد يخلط وقائع الخبر برايه الشخصي وبالتالي يسقط في فخ التغطية الملونة اوالخبر المشوه!

إلا أنه ومع ضرورة الامتثال لهذه الضوابط التي قد يلتزم بها القلم المتزن قبل أن نقول النزيه، فإننا نصادف من الناس من يعول على السلطة الرابعة للدفاع عنه عندما تدوسه أقدام الظلم والجور، ولا يجد في باقي السلط المقننة في المجتمع تحت مسميات التشريع والقضاء والتنفيذ ما يمثل بالنسبة إليه ملجأ وملاذا يأوي إليه. وهذا النوع قد يحابي السلطة الرابعة بعد اللجوء إليها وهو مظلوم مقهور، ولكنه يعاديها أشد العداء عندما يصير ظالما وجبارا.

ومن الناس من يصاحب السلطة الرابعة ويؤيدها لا حبا في ركوبها، ولا رغبة في الاحتماء بها، وإنما يفعل ذلك لأنه يؤمن بتخليقها للحياة العامة التي تفشل باقي السلط في تخليقها عبر القوانين الزاجرة التي لا تجدي نفعا عندما يغيب الوازع الأخلاقي أو الضمير الحي.

والحقيقة أن السلطة الرابعة أفضل وسيلة لتخليق الحياة العامة خصوصا في زمن قل فيه الخوف من الخالق سبحانه، وازداد فيه الخوف من المخلوق، بعدما صار هذا المخلوق يتأله بسبب ما عرفته حياته من تطور مادي وتكنولوجي.

والمتتبع لأثر السلطة الرابعة في المجتمعات البشرية خلال التاريخ الحديث والمعاصر يتأكد من حقيقة الدور الذي تلعبه من أجل تخليق الحياة العامة، وأمثلة إطاحة السلطة الرابعة بالزعامات الظالمة والمستبدة كثيرة.

ويتعرض العمل الصحفي خاصة منه المكتوب للكثير من الإكراهات والضغوطات في نقل أو عرض قضايا سواء من الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية ضمن جنس الخبر وكذلك لمقالات الرأي أو الأجناس الصحفية الأخرى من تحقيق أو روبورطاج تجعل الممارس في فوهة المدفع ليكون على استعداد تام لتلقي ردود فعل غير متباينة من المتلقين ومن المعنيين أو المهتمين بمتابعة النشرات وصاحبها خاصة إن كان حامل القلم من الأقلام المشاكسة تحظى بالكثير من الاهتمام ليس فقط كإعجاب بنشراتها بل كذلك كأقلام متربص بها ووقوعها في زلات إحدى نشراتها كي تكون موضع تلقي سهام النقد المصوب غالبا بمحاولات إحباط أقلامها وجفها…

والقارئ الذكي يعرف هذه الأصناف جيدا ويميزها من خلال مقالاتها الصادقة التي تقطر بالأمانة والوفاء في نقل الأحداث والأخبار والتحقيقات… وحتى الدولة بنفسها وبأجهزتها الخاصة تعرف خبايا هذه “القبيلة المتنافرة” التي لا زعيم لها إلا الضمير… ولقد تعلمنا كممارسين للفعل الإعلامي أو الصحفي أن مهمتنا يجب أن تعكس الأحداث بصورة مهنية ومستقلة، وهذا يستوجب الإنصاف لجميع الناس ويستوجب كذلك الحذر من الانزلاق نحو الرأي الواحد.

الممارسة الإعلامية تتطلب معالجة المواضيع على أساس وطني جامع لا يفرق بين فئات ومكونات المجتمع أو نوع الجنس أو المركز الإداري الاجتماعي بقدر ما يتطلب منها تنشيط الحوارات النوعية للقضية المطروحة على الرأي العام بعناية ومن دون قذف أو تشهير بأية فئة من فئات المواطنين، ولا الوقوع في زلات او نزوات البعض لاعتبارات ضيقة إن لم أقل ذاتية!

إن من شروط كتابة الخبر الصحفي هو ان لا تستهين أبداً بذكاء القارئ وخياله، بل يجب أن تضع نصب عين الناشر احترام خيال جمهوره في المقام الأول.

يجب أن يحترم الخبر أو البيان الصحفي الأول شيئين أساسيين حول ما يجب أن يقدمه دائمًا:

معلومات موثوقة في الوقت المناسب عن قصة مقنعة التفاصيل غير متحيزة وواقعية تسمح بالتغطية الصادقة.

والتحقق من صحة كل المعلومات، وتقصي المزيد من تفاصيل الواقعة، واستيقاء المعلومات الإضافية من مصادر مطلعة وموثوقة، لمراعة النزاهة والمصداقية.

فلقد ساهم الإعلام في إنشاء وعي سياسي وثقافي لدى الكثير من الناس بدون قصد منه. حيث أصبح الجميع يدرك حقيقة اللعبة الإعلامية، ويتعرف على المشاريع الحقيقية الكامنة في طيات كل عملية إعلامية. لم يعد خفيا على أحد أن بعض أنواع الإعلام استثمار اقتصادي وتجارة هدفها الربح قبل الحقيقة، ومحركها المصلحة قبل ممارسة مسؤوليتها التنويرية في المجتمع. لم يعد خفيا على أحد أن الكثير من الأصابع أصبحت تباع في المطابع، وأن العديد من الضمائر صارت تنتحر و تستسلم أمام الهبات والامتيازات، وأن الكثير من رجال الإعلام صاروا مرتزقة يسخرون رنين الكلمات من أجل رنين الدراهم. و أن البعض من رجال القلم مأجورون لتحطيم صرح القيم وتشكيك الناس في أخلاقهم ومعتقداتهم.

فلا يمكن اختزال دور الإعلام في نشر الخبر وتداول المعلومة ونقلها وإيصالها إلى المتلقي. ولا يمكن تصور الخطاب الإعلامي عملية محايدة بريئة غير منحازة أو ليست ذات مشروع أيديولوجي أو ثقافي محدد. ولا يمكن أن يقتنع أحد أن الأيادي والعقول والإرادات الموجهة للإعلام ليست لها منطلقات تصورية وخلفيات فلسفية تحركها وترسم لها مخططها الإعلامي وتحدد لها مساحة التحرك والمناورة، وتمكنها من الآليات الضرورية لتشكيل الرأي العام والتحكم في العقول وتوجيهها .

لا ننكر ان الاعلام قد أضحى مساحة مستباحة يستخدمها بعض المرتزقة الذين اقتحموه بدون وعي او ضمير خلقي لكسب الشهرة وتسلق المناصب وجني الثروات، وتحول إلى ورقة ضغط يسيء الكثير استخدامها ويوظفها بانتهازية مفرطة، ويستخدمها لابتزاز الآخر أو لممارسة لعبة التهديد المقنع بقناع الحرية وحق التعبير وحق البحث عن المعلومة وحق نشر الحقيقة. ولذلك يلجأ بعض السياسيين وأصحاب الصفات المشبوهة إلى مغازلة صاحب القلم الطماع والمتزلف، خاصة إن كانت تخفي وراءها اعتبارات ذاتية، فيمدون إليه أيديهم ويستضيفونه ويكرمونه كرما حاتميا حتى تضيع الحقيقة..

الصحفي ليس بمحقق ولا بمناضل من أجل عيون همها ان تنشر ما تميل إليها ميزاجياتهم أو أغراضهم الخفية او دعم العقليات الانتقامية… وليأتي من بعدها الطوفان!.

مهنة الإعلام مهنة التضحية ونكران الذات وكشف الحقيقة وإصلاح الأمراض الاجتماعية..

مهنة الإعلام ترجمة صادقة لصوت الأمة وتعبير عن اختياراتها وتطلعاتها.

مهنة الإعلام جهاد يومي بالقلم والصورة والكلمة الحقة من أجل إنصاف المظلومين وإسماع أصواتهم بشكل موضوعي وبعيدا عن أي اعتبارات غير منطقية.

لكن هناك من جعلوا منها مساحة للإثارة والإغواء واستفزاز المشاعر والضحك على الذقون. جعلوا منها مجالا للتسابق والتنافس من أجل الظفر بالغنائم ونيل الحظوة. سخروها للتميز والنجومية والشهرة ولو كان ذلك على حساب شرف المهنة التي يحملون بطاقة الانتماء لها، وعلى حساب البلاد التي يحملون شرف الانتماء إلى ترابها.

الصحفي الحق هو تلك النبتة الطيبة التي تعترف بجذورها وأصولها، وتقدس التراب الذي غذاها ورباها وأخرجها إلى دنيا الناس. هو الحارس الذي يحرس قيم المجتمع الذي علمه وأطلق لسانه. هو الحصن المنيع الذي يذود عن وطنه وأهله وعشيرته… هو الجندي الساهر على رد كيد كل من يستهدف عقيدة بلده وقيم مجتمعه… هو اللسان المعبر عن ضمير أمته والغيور على ثوابت هويته ومكتسبات تراثه وحضارته. أما النبتة الطفيلية فيعلم الجميع أنها غريبة وضارة وغير نافعة لا خير فيها… ومن لا يغار على شرف أو عرض لا يغار على وطن أو أرض.

علمتنا مهنتنا هذه التي لم يظلمها من أسماها (مهنة البحث عن المتاعب)، أن نستعد لأي طارئ ونتوقع أي مصيبة ونهيئ أنفسنا دائماً أن نكون تحت مرمى النيران الصديقة قبل نيران الأعداء، لأننا ببساطة دائماً أيادينا داخل عش الدبابير، وأقلامنا تصارع خفافيش الظلام، وظهورنا تتوقع في أي لحظة الطعنات الغادرة… في الوقت الذي باتت فيه المصالح الشخصية تتحكم في مواقف الأشخاص ومعيار الربح والخساره هو الدافع لكل عمل يقومون به، يجب ان لانندهش وأن لا نصاب بالاحباط عندما يتم توبيخ من يحاول أن يشذ عن هذه القاعدة التي صارت منهاج تتوارثه الأجيال المتعاقبة. … يقولُ ابن خلدون في وصف قيمة الكتابة: “الكتابة صناعة شريفة، إذ الكتابة من خواص الإنسان التي تميَّز بها عن الحيوان… فالكتابة شرفٌ ثمنه غالٍ لأنها أداة التعبير والتغيير”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.