الزاوية الوزانية: الثروة في خدمة الدعوة والدولة 5/5

0

ريحانة برس- عبدالإله الوزاني التهامي

لم تكن الثروة الواردة من مصادر شرعية مختلفة، في ثقافة وعرف أشراف ومشايخ الزاوية والعائلة -الوزانية- إلا آلية لتحقيق الكرامة الآدمية لتيسير السير والسلوك إلى الله عبر مدارج الإحسان الموصلة إلى القرب من الله ومعرفته سبحانه معرفة تليق بجلاله وجماله، وعلى الأرض في إطار كيان الدولة لتثبيت الأمن والطمأنينة والاستقرار كتحصيل حاصل بعد تربية النفوس وتزكيتها والسمو بالأرواح في معارجها.

فنجد مثلا من أساليب نشر تربية وثقافة الجد والكد والاجتهاد لدى مولاي التهامي أنه كلما حفظ أحد أو أكثر من أبنائه القرآن الكريم وتعلموا أحكام العبادات وما يلزم معرفته من علوم الدين والدنيا، يقوم بأمر الجميع بتعاطي الأسباب، فمارسوا كسب الأصول والجنانات وسكنى الحاضرة، وكسب الماشية ومزاولة الحرث، ومن فطنتهم أنهم يضيفون الهدايا لرأسمالهم فيطعمون بها الزاور والمريدين ويدبرون بها شؤون الزاوية.

 ومنهم من جمع من كسب الماشية والحرث والفلاحة والجنانات والأصول الثروة الطائلة، حيث ذكر في “نشر المثاني” أن سيدي محمد ولد الشيخ(ت1150ه/1737م) ترك من الأموال 40.000 مثقال مزكاة معشرة.

وأورد الضعيف الرباطي في “تاريخه” أن لأحد الأشراف عزائب ومال كثير ومزاريك أي جنود يحمونه أو ما يسمى بالزطاط وآلة المملكة، وكذلك من ذلك أن الشريف سيدي عبدالله بن محمد بن عبدالقادر بن مولاي التهامي تعاطى تجارة الحبوب مع أوروبا بمرسى الدار البيضاء مع بداية عهد السلطان مولاي سليمان.

تجدر الإشارة إلى أن الهدايا و”الزيارات” قد شكلت موردا ماليا هاما خدم الزاوية في كل سؤونها، حيث أغدع الأتباع والمحبون على مولاي الطيب

-مثلا- الهدايا متقربين إليه بها، ومن لا يستطيع لبعد المسافة أو عذر يبعث للشيخ بهداياه مع الأصحاب والمقدمين، ومن ذلك ما أكده “نشر المثاني” ما أتاه من هدايا من مشرق الأرض ومغربها وسودانها برا وبحرا.

وفي السياق ذاته المعزز للبعد الاقتصادي، فقد كانت تتوافد على الشيخ سيدي علي بن أحمد (ت1226ه/1811م) حسب الكوكب الأسعد، تتوافد عليه الوفود والركبان برسم الزيارة من أقصى المغرب وأدناه ومن بلاد الصحراء إلى السوادين، ومن المشرق والأرياف على مدار العام، حتى تضيق بهم الأرض، محملين بالتمور والحناء بالنسبة لأهل توات وتافيلالت وغيرها، وكان أهل الصحراء يجلبون الإماء والعبيد، ويجلب أهل المشرق البغال والأثواب الملفية والقطنية، ويجلب أهل الأرياف الحديد والفؤوس والمساحي وحوائج الدوم، ويجلب أهل الجبال ودمنات وزرهون الفواكه والزيتون، وفيما يخص ما يهدى من ذهب أو فضة، يقول من عاين ما يدخل على الشيخ من الأموال النقدية وغيرها -يقول- إن هذه الأموال لا تدخل على أحد من ملوك المغرب.* التراث الصوفي المغربي ص132مؤسسة مولاي عبدالله السريف/أعمال ندوة.

 ومما يبرهن على قيام الزاوية بخدمة الفقراء والمساكين والمحتاجين بتوفير الطعام والملبس والمأوى، أنه لا يفضل للشيخ من كل ما ذكر من مال شيئا بعد يوم أو يومين من قبضه.

وأما ما حظيت به المرأة من اهتمام لدى المشايخ فلأهميته سنخصص له مقاما آخر، ومنه أنه كان لزيارة النساء للشيخ والزاوية قصد التربية والتبرك وكذا قصد تقديم الهدايا طقوسا خاصة بالمكان المعد للزيارة -كما يذكر الكوكب الأسعد-، حيث يسدل ستار حاجب يفصل الشيخ عن الزائرات، وتقف من حضرت من زوجاته بين الحجاب والباب، وتتولى، وتتولى قبض الزيارة معرفة صاحبتها للشيخ، منهن نساء الأعيان والنقدمين، ماعدا العجائز فيحدثنه مباشرة بلا ستار، فيهدينه ما جلبن من حلي وتحف وذهب وفضة وقلائد المرجان والجوهر واللبان والثياب الممتازة والدراهم والدينار.

 وقامت فروع الزاوية المنتشرة عبر الربوع المغربية بمهمتها الاقتصادية بشكل محكم، ومن ذلك قيام تلميذ الشيخ وممثله بين القبائل في وقت الحرث والحصاد وما بين الفترتين بالطواف في القبيلة جماعة جماعة معبئا الساكنة على تنظيم “توايز” -تويزة- وهي عمل جماعي ومساعدة اجتماعية تطوعية لصالح أسرة أو عائلة لا قدرة لها على القيام بأشغال ذلك الموسم، وتتميز “توايز” بكونها نوعا من أنواع التعاضد الاجتماعي، تتجلى في حرث الأرض أو في حصاد المحصول أو في اقتلاع الأعشاب الضارة أو دراس السنابل.

فتستفيد كل الجماعة والقبيلة من عملية “التوايز” استفادة مادية واقتصادية مباشرة، يعود نفعها على جميع الفئات محدودة افراد الاسرة ومحدودة الزاد والعدة والجهد.

وفي ختام التويزة يجمع المحصول ويهدى منه قسط يوضع في يد مقدم ثم ينفق على المحتاجين والمستحقين الحاضرين والغائبين.

 ونظرا لما للهدايا و”الزيارات” و”الفتوحات” بقيمتها ونوعيتها، من أهمية اجتماعية وثقافية، فقد شكلت مصدرا أساسيا من مصادر ثروة الزاوية الوزانية، مما أهلها حقا أن تكون “دار الضمانة” بما تحمله الكلمة من مدلول الضمان المادي والروحي، بما تضمنه لاخاص والعام من رخاء وسعة عيش، وبما تضمنه تلك الثروة لأهل الرباط في الثغور من كسوة وسلاح وخيل عتاق، ولا يحرص الشيخ على ادخار شيء مما تحصل غير ادخاره للكتب لملئ الخزانات وتنظيمها وفتحها في وجه الطلبة والمريدين، لدرجة أن تحصل عنده من الكتب ما لا يحصى، بسبب حرصه على شراء أجود عناوينها ولو بأغلى ثمن، لنفع الناس بمكنونها مختلفة الفنون العلمية.

ولم يقتصر أمر جمع الثروة على المجالات المذكورة بل تعداها إلى مجال الأحباس، حيث وبالنظر في “حوالة أحباس وزان” نتأكد من دلائل إسهام مؤسسة الأحباس في تنمية ثروة الزاوية الوزانية، إذ كانت في ملك الزاوية أعداد هائلة من الدور والفنادق والدكاكين والطرازات والأفرنة، والكثير من الأراضي الفلاحية والمئات من أشجار الزيتون التي حسبت وحبست لصالح أحباس زاوية وزان، وكذلك الشأن بالنسبة لفروع الزاوية عبر المغرب حيث حبست لصالحها أحباس ثرية ونفيسة وكثيرة، سواءا بالحواضر أو البوادي، كطنجة والرباط وفاس، وهذا ما يسر للزاوية تنزيل برامجها التقليدية المعهودة الاجتماعية والتربوية والإصلاحية على الأرض، خادمة بذلك الدعوة إلى الله من موقع قوة، في انسجام تام وتعاون كامل مع الأشراف العلويين أولي الأمر.

 من جهة أخرى لا يمكن إغفال دور المخزن العلوي في الإسهام من جانبه في الرفع من مخزون ثروة مؤسية دار الصمانة لإدراكه اليقيني بدورها الملموس الآني والاستراتيجي في خدمة الدولة والمجتمع، عبر تمكينه الوزانيين من التصرف في مبالغ الزكوات والأعشار في كل منطقة تخضع لنفوذ الزاوية، وتحبيس كل ما يتصل لبيت المال من أملاك المنقطعين بوزان على المسجد الأعظم بها حسب ظهير شريف، وإقطاعهم العديد من العزبان كما هو الشأن مثلا لعزيب “المعادة” جهة القصر الكبير، الذي أقطعه السلطان مولاي إسماعيل لصالح شيخ الزاوية بمقتضى ظهير شريف مؤرخ ب1672م. * Edward Michaux-1908-P81

نحن إذن أمام مصادر وروافد مادية ومالية مختلفة ومتنوعة جعلت من الزاوية الوزانية قوة اقتصادية ذات ثروة وازنة، أكدت حضور مؤسسة دار الضمانة كفاعل قوي لا ينازع في أمر، باعتبارها قوة ثقافية واجتماعية وتربوية ذات اقتصاد مستقل ومتين، يتوفر على معين للثروة متعدد الروافد، وظفت بشفافية تلقائية في تنمية وتمدين الإنسان والبنيان، ومن ذلك عاصمة الزاوية الوزانية أولا، ثم وظفت بشكل مواز في بناء اقتصادات القرى والمداشر بتشغيل الأهالي ودعمهم في ممارسة مهنهم وحرفهم، ومن ثم ساهمت الزاوية في تطوير بنيات المجتمع في مناطق وجود فروعها، وشمل التحديث والتطوير كل المرافق الاجتماعية والدينية والاقتصادية و…، وكان ذلك من دعامات الاستقرار المادي للدولة والطمأنينة الروحية للمجتمع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.