كلما طوت السيارة المسافة المؤدية إلى (الجحيم) كلما زادت آلام ظهري المقوس بعنف وخفقان قلبي الضعيف ومغص أمعائي…استحضرت بضع آيات كريمة وأحاديث نبوية
3
كلما طوت السيارة المسافة المؤدية إلى (الجحيم) كلما زادت آلام ظهري المقوس بعنف وخفقان قلبي الضعيف ومغص أمعائي…استحضرت بضع آيات كريمة وأحاديث نبوية عن القضاء والقدر علها تهدأ من روعي ما أصابك لم يكن ليخطئك, وما أخطأك لم يكن ليصيبك. باب القضاء والقدر. أعظم أبواب العقيدة التي تجعل القلب مطمئنا على الدوام….
توقفوا للحظة … نشطت حاستي الخفية… محطة الأداء على الطريق السيار بمدينة بوزنيقة… تخيلت القابض واجم الوجه الجالس خلف الزجاج كروبو صامت يرفع الحاجز الملون بالأبيض والأحمر بضغطة زر بعد الأداء طبعا. ترى كم يكسبون في اليوم ثمنا لاستعمال زفت الحكومة المخوصص هو الآخر ككل شيء في هذه البلاد… زادت سرعتهم… زادت آلامي… تجاوزتهم ناقلة, أو لم تفسح لهم الطريق للتجاوز. خمنت أنها شاحنة يقودها بدوي عنيد بشارب مكسيكي. فتحوا قواميس السب والشتم والكلام الساقط. طبعا وكعادتهم أم المسكين لم تنج من وعيد بنكاحها. هي لازمتهم دائما ” والله لأفعل في أمك يا ابن العاهرة ” أمهات الناس إحدى عقدهم التي اكتشفت سببها وأنا في سراديبهم ( ودت الزانية لو زنت نساء العالمين. وود ابن الزنى لو أن الناس كلهم كذلك) كنت كلما استعطفت أحد كلابهم هناك لعل قلبه يحن
“الله يخلي لك اميمتك آلحاج”
كان يغضب وكأنني أنكأ جرحا غائرا فيه فيزيدني جلدا وهو يلعن أمه قائلا ” قلت لك يا كلب أنني ابن قحبة لا أم لي وجدوني قدام باب مسجد, لا أريد أن أسمع منك هذا مرة ثانية, مفهوم…!!!
أنزل أحدهم زجاج النافذة تيار هواء قوي …” تنحى يا ابن العاهرة “
ترى لو لم أكن معهم ما الذي كانوا سيصنعونه بالمسكين؟ّ! يستطيعون فعل كل شيء, الأرض أرضهم, والبشر يعتبرونهم كعبيد في ضيعاتهم خلقوا للخدمة…ربما أشبعوه صفعا ولكما وسحبوا رخصة سياقته. هذا أقل ما يمكن أن يصنعونه به حتى لا يتجرأ على تجاوز أو مضايقة سيارات الحكومة وهي تؤدي مهامها على الطرقات في تفان… أما إن كان من صنف المواطنين الذين يتشبثون بحقهم ويحاولون التصدي والدفاع عنه أمام الجبروت فالتهمة جاهزة لأمثال هذا الصنف الذي يلقبونهم بساخني الرؤوس تهمة من لا تهمة له في هذه البلاد عقوبتها مابين ثلاث وست سنوات يسمونها زورا وظلما وجبروتا المس بالمقدسات أي المس بالاحترام الواجب للملك. كثيرون من التقيتهم داخل السجن ساقوهم بهذه التهمة يكفي أن يشير لك مقدم حي أمي. أو جار ناقم حاسد. لتجد نفسك خلف الأسوار تفني زهرة شبابك بهذه التهمة الغبية. حتى المرأة لم يرحموها والتي خانها التعبير حين مثلت أمام القاضي وسألها عن سبب نشوزها من زوجها فأجابت
” أنه مجرد عاطل عن العمل بطال يضل في البيت واضعا رجلا على الأخرى كالملك لا شغل ولا مشغلة ” فنالت على كلماتها تلك خمس سنوات فقط. لأنها قللت الإحترام الواجب.
فيما رب العزة وملك الملوك يسب نهارا جهارا بالليل والنهار بلا حسيب ولا رقيب. قال لي ولغيري الكلاب مرارا ” لو نزل ربكم الذي تعبدونه إلى هذه الأرض لفعلنا فيه … ” تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ارتجاج وخضخضة. سلكوا طريقا غير معبد. زاد خوفي وتأكدت من وجهتي…يا للهول…تمارة مرة أخرى[1]. وما أدراك ما تمارة. لا أقصد تلك المدينة الصغيرة الوديعة التي كانت تنام في هدوء على ضفاف الأطلسي بجانب العاصمة. والتي لم يكن القطار ولا الحافلات تتوقف بمحطاتها خاصة بعد ما شقها الطريق السيار إلى شطرين غربي يتوسد البحر وشرقي يتمنطق بحزام من غابة أشجار الأوكالبتوس. لم تكن تذكر تلك المدينة الهادئة إلا حين ذكر حديقة الحيوانات الوطنية التي توجد عند مدخلها الشمالي حين تريد دخولها من جهة العاصمة. كانت تلك الحديقة هي مفخرتها قبل أن تصفى مؤخرا بشكل يوضح بجلاء أن كل شيء في هذه البلاد أصبح نهبة لأصحاب الملايير ممن إغتنوا بين عشية وضحاها. فاحت رائحة الفضيحة على صفحات كل الجرائد بعد أن فوتت الأرض التي توجد عليها الحديقة الوطنية لملياردير صاعد بقوة النفوذ والعلاقات مع (الكبار) علاقة من يمتلكها فكأنه يمتلك مصباح علاء الدين الأسطوري ( شبيك لبيك وكل شيء بين يديك) فوتت له أرض الحديقة وما جاورها من مساحات خضراء بثمن أغرب من غريب 10 دراهم. ثمن زوج جوارب من النوع الرديء. ما يعادل أورو واحد فقط. وحين فاحت الفضيحة وتكلمت عنها الجرائد وطالبت بلجان تحقيق وذرا للرماد في العيون. زودوا المبلغ إلى عشرين درهما . أهملت حيواناتها المسكينة وهجرها الزوار بعد أن مسخ الأسد فصار بحجم القط البري والتمساح كضب بئيس يتغدى على أكياس البلاستيك السوداء أما القرود المسكينة فصار بكاؤها جوعا يسمع من بعيد. أما الضباع فقد اختفت من مدة بعد أن بيعت لمن يطلبنها من نساء علية القوم لاستخدام أمخاخها في وصفات المشعوذين لتضبيع أزواجهن. وبالمناسبة فجل الجلادين ضباع مضبوعة..
ضلوا لسنوات عدة ينفون وجود معتقل تازمامارت الرهيب ودرب مولاي الشريف وقلعة مكونة وغيرها…أغلقت سراديب …وشرعت أخرى لاتقل عنها همجية وفتكا أبوابها …واستمرت اللعبة الموروثة عن العهد الماضي لعبة النفي, نفي وجود أي معتقل سري في البلد وأن كل شيء يمر بوضوح وتحت سيادة القانون. نفس الأسطوانة المشروخة… واستمر النفي رغم أن المكان أصبح أشهر من نار على علم ونشرت شهادات زواره من أبناء البلد أو من استقدموا من طرف أمريكا للتحقيق معهم هنا بالوكالة. رغم كل هذا استمر النفي الرسمي, مع مفارقة غريبة في بلد الغرائب وهي أن من تولوا الدفاع عن ( حجاج العهد الجديد) وتولوا مهمة نفي وجود معتقلات سرية أيامنا هذه. هم بعض ضحايا ( ومناضلي) الأمس, مناضلي اليسار الشيوعي ممن اكتووا بنيرانها. بعد ما دجنوا أكثر من اللازم وتمخزنوا أكثر من المخزن نفسه وأصبحوا ملكيين أكثر من الملك … عالم غريب… عالم جنون … عالم منافق …
داس السائق المتوتر فرامل السيارة معلنا الوصول … جف حلقي وازداد خفقان قلبي, جذبوني بعنف إلى الخارج ” اللية الزينة من العصر باينه”
سمعت جدتي تكررها مرارا وفي مناسبات عدة.
أجلسوني على ركبتي في وضع ضرب العنق. رأسي مدلى للأمام كمن ينتظر السياف… أرضية معبدة تؤلم. انتهت مهمتهم هنا. أوصلوا الأمانة إلى أهلها. ربما عادوا ليستقدموا أمانة أخرى. آه… لقد نسيت هؤلاء زوار الليل لا يشتغلون إلا تحت جنح الظلام كاللصوص. بل هم اللصوص يضعون في جيوبهم كل صغير الحجم وغالي الثمن ورقة مائة درهم وسلسلة ذهبية كتذكار بليد لخطوبة مفسوخة هي كل ما احتوته حقيبة شقيقتي اليدوية دسها أحدهم في جيبه وهاتف شقيقي اختفى هو الآخر بعد مغادرتهم والمبلغ الذي بعت به دراجتي النارية وأنا أستعد للسفر تحول إلى النصف بعد دخولي السرداب. في السجن التقيت بمن سرقوا لأسرته تحويشة العمر وأحد من التقيتهم سرقوا مبلغا كانت زوجته قد تسلمته لتوها كنصيب في ميراث والدها. آخر من مدينة فاس ضل يكدح بالليل والنهار طيلة عمره لشراء بيت يقي أبناءه حر وقر البيت الصفيحي, اختفى المبلغ مع اختفاء صاحبه وفوق هذا كله جنت زوجته المسكينة. شمس الصباح بدأت تبزغ. انتهت مهمة اللصوص = الزوار هنا.
جذبتني يد قوية خشنة من لحيتي مع لهجة آمرة بالوقوف “زيد يا لحية الشيطان”ّّ!!!
تساءلت مع نفسي كيف عرف أن للشيطان لحية؟! ربما يشتغل معهم هناك كمتدرب و متمرن. ألم يقل الشاعر. أن الشيطان قد خاطبهم معلنا استقالته قائلا: “دوري أنتم ستلعبونه.”
تحاملت على ركبتي اللتان لم تعودا تقويان على حملي… خارت قواي من هول الصدمة وزادت قيود الأرجل من إعاقة حركتي … وصرخاتهم تحثني على الإسراع… أجر رجلي… صرت كصغير حمار وحشي داهمت أمه السباع, تحته على الإسراع وهو لا يقوى. صرير باب حديدي, أكز أسناني.
“انزل…انزل…” باب سقر الدنيوية قد فتح…”انزل…انزل…”. لم أتعود بعد على قيود الأرجل .” انزل…” كيف أنزل؟؟ تلكأت قليلا خوفا من السقوط. فجاءتني اللكمات متتالية. لكمات محترف يعرف أين يضرب.
“انزل مال أمك مشلول أو معاق”
نعم أنا مشلول وأعمى لا أرى شيئا أمامي. خاطبت نفسي طبعا …
رفعني اثنان بعنف من تحت إبطي… بضع درجات إلى الأسفل ,ثم جروني بضع أمتار, ألقوني أرضا, شرعوا في نزع قيودي وأزالوا الكيس عن رأسي.
سحبت نفسا عميقا كنت في حاجة له من منخري وفمي معا. مسحت الغرفة المتوسطة الحجم بسرعة من غير لفت الانتباه. مكتب يحتل إحدى زواياها, أربعة كراسي, ثقب مرحاض, صنبور ماء, قارورات مختلفة الأحجام والأشكال بعضها مكسرة الرؤوس,عصي, حبال, أدوات تعذيب وآثار دماء… فهمت الرسالة التي تعنيني من هذا المشهد.
هناك وجوه حين تنظر لها تعلمك الحب وتشعر معها بالسعادة والمرح… أمي… جدتي … وجوه أطفال الجيران البريئة… وهناك وجوه تقرأ على صفحاتها الصدأة سطور البغض والكراهية… والشقاء الأبدي… سحناتهم كالحة… بياض عيونهم تحول إلى حمرة ,وأجفانهم أحاط بها السواد والزرقة. ساءلت نفسي مرارا . هل يضحكون ومتى يفعلون ذلك؟؟
شرعا في تفتيشي تفتيشا دقيقا وسريعا لم أكن أرتدي سوى لباس نوم خفيف
“فايت لك دايز عندنا هنا…؟؟” = سبق وأن مررت من هنا؟؟؟
أجبته دون النظر إليه” نعم دوزت هنا ثلاثة أشهر …ثلاثة أشهر وأيام… زدت في نفسي لكنها كثلاثة قرون. نعم لا أبالغ إن قلت ذلك…
“مرحبا بيك…الدار دارك…أنت كليان =زبون قديم… بلا ما نوصيك… أنت عارف كل شيء هنا ما ينفع غير الصح…” حركت رأسي نعم أعلم…
ولج الغرفة رجل مقنع لا تبدو منه سوى عيناه. قناع أسود. ذكرني بمليشيات الموت الرافضية التي جاءت خلف دبابات الاحتلال لتنشر الرعب في العراق. أخبرني -ع- في إحدى رسائله أنهم عيون التتار الجدد كأجدادهم ابن العلقمي وصحبه. كانوا يحملون قوائم موت بأسماء للتصفية بدعوى الانتماء لحزب البعث البائد وعناوين كل أدمغة العراق. علماء, أطباء, مهندسون, جامعيون… من أهل السنة طبعا. كان يحمل معه آلة تصوير حديثة. لم أعد أذكر كم عدد الصور التي أخذ لي الرجل المقنع أمام خلف, يمين, يسار… بعدها أخذ بصماتي وعينة من لعب فمي.
عصبوا عيني هذه المرة بخرقة سوداء تنبعث منها رائحة البول المعتق وأعقاب السجائر وصفدوا يدي إلى الأمام هذه المرة.
تذكر رقمك ولا تنساه حين تسمع النداء عليك, ارفع يدك وقم من مكانك… إياك أن تكلم من بجانبك … المرحاض مرتين في اليوم… حذار من إنزال البانضة… صرت مجرد رقم في لائحة طويلة لا تكاد تنتهي…
ما الذي يجري؟؟!! في المرة السابقة كنت في زنزانة لوحدي. أنزع العصابة عن عيني بمجرد ولوجها حين عودتي من التحقيق. وكان لي مرحاضي عبارة عن ثقب في زاوية أجلس فيه كما أشاء ومتى أريد؟؟!!
بدأت أفك بعض الطلاسم والألغاز حين رموني وسط كومة من الأجساد المنهكة في ممر بارد يؤدي إلى غرف التحقيق. رائحة العرق والقيء الكريهة تعم المكان والأنين لا يكاد يكف أو يهدأ. كغرفة في قسم مستعجلات اكتظت بضحايا حادث سير جماعي. يبدو أنني جئت أو جيء بي في أيام الذروة. لم تعد الزنازن تكفي. اللهم سلم … اللهم سلم…
صدقت يا -ع- كررها علي مرارا وهو يحثني على الإسراع بالرحيل ويحذرني
“أنج بنفسك قبل أن تجد نفسك بين عشية وضحاها مجبرا على أن تمثل دورا في إحدى مسرحياتهم التي يبدو أنها لن تنتهي قريبا. هذا إن لم تكن أنت هو البطل…
لم أكد أضع جنبي على الأرض حتى سمعت النداء يتكرر. قمت فزعا مرعوبا… رقمي ,,,رقمي,,, نعم إنه رقمي,,, زممت شفتي بعد أن أحسست بخرقي لنظام التعليمات…
“ومال أمك ناعس كتشخر…”
ساقاني أحدهما خلفي بكف غليظة يمسك رقبتي بقوة وآخر أمامي يجرني من ذراعي كأعمى فقد عكازه. ما إن ولجت الغرفة حتى تلقفتني الزبانية..
“هذا هو … نعم هو هذا… حذرناك ألا تعود, وعدت…”
لم أعد هم من أتوا بي. وبدأت الحفلة … حفل الإستقبال… كل من مر من هناك يعلم كيف تدور الرحى… حفل الإستقبال لابد من شره بعد الولوج مباشرة.عادة لا تطرح فيه أسئلة, وليس للتحقيق. تعذيب فقط من أجل التعذيب وإرهاب الضيف لجعله طيعا متعاونا إلى أبعد حد. وليعلم أين هو وأي القوم هؤلاء الذين سقط بين مخالبهم.
ككرة مستطيلة تتقاذفني أيديهم وأرجلهم , أو ككيس رمل معلق في نادي ملاكمة. حاولت الصبر أول الأمر ووقاية وجهي. ما أصعب الأمر وأنت معصوب العينين لا تدري أين ستنزل الضربات… صراخهم وشتائمهم لا تنتهي. وصراخي يعلو … ويعلو… ويعلو… كانوا ثلاثة أة أربعة, لم يسلم موضع في بدني من ركلاتهم ولكماتهم. فجأة بدأت الأنابيب والحبال المطاطية تعزف سيمفونية حزينة مؤلمة صعودا ونزولا على جسدي الهزيل…
“حافظ النشيد الوطني؟؟” = هل تحفظ النشيد الوطني؟؟
“نعم حافظوا ,,, حافظوا,,, حافظوووووو….
هيا سمعنا…سمعنا النشيد الوطني يا خائن…قول … قووول … قوووول…
شرعت متلعثما “منبت الأحرار… مشرق الأنوار… منتدى… منتدى…
اختلطت الكلمات بشهيقي… جسدي يرتجف وشفتي تهتزان… ودموع الساخنة لم أستطع إخفائها صرت تبلل الخرقة السوداء المنتنة
“قول…قووول…كمل يا خائن” يزداد تلعثمي
“شوفو الز…كيبكي بحال الق…قوول زيد…”= أنظروا اللوطي يبكي كعاهرة هيا زد … قل أكمل…
“دمت منتدى وحماه…غلبني الشهيق…تلعثمت …انهالت علي الضربات أكثر…” نيفو باك + سنتين جامعة وما حافظش النشيد الوطني أولد الق…أعطيو ليماه…أعطيو لكلب…”
ركنت نفسي في زاوية الغرفة, كملاكم منهزم في مباراة غير متكافئة ينتظر صفارة الحكم مستسلما للكمات خصمه. غير أنه لاحكم هنا إلا الله ,العدل,الحكم…لا حكم سوى الله…ألا له الحكم والأمر…
لم أعد أقوى على الوقوف بدأت أخور كثور انغرزت في ظهره السهام . جلست أرضا وضعا رأسي بين ركبتي… تكومت كالكرة, أمسك أحدهم بأذني محاولا رفعي وإرغامي على الوقوف.
صراخي يزداد ويتعالى. قررت ألا أتوسل… لكن لكل شيء نهاية… خفتت الضربات تدريجيا… تعبوا أو بلغوا مرادهم, أو جائتهم إشارة بالتوقف.لا أدري.
أي بشر هؤلاء؟ وأي وظيفة هذه؟ قلوب قدت من حجر. وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار. وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء.
توقف الضرب فجأة. أمروني بالوقوف فلم أستطع. تنملت أطرافي. كأن تيارا كهربائيا يسري في بدني. فسحبني أحدهم من شعر رأسي بقوة إلى أعلى.
بكائي اللائرادي وشهيقي لا يتوقف أحسست بالغبن فصرخت بأعلى صوتي أنا مظلوم… أنا مظلوم…
“حتى أنا مظلوم…مظلوم….” أجابني أحدهم وهو يخبط رأسي على الحائط.
عالم غريب… عالم مقرف… كل يوم أصادف في هذه الدنيا أشياء لم أجدها فيما سمعته أوقرأته من كتب. ربما قرأت يوما ما عن الظلم والتعذيب لكن تأثري بذلك كان ساذجا ربما انفعلت وحزنت لذلك, أو دمعت عيني. لكن سرعان ما جفت الدموع. وعندما دخلت سرداب إبليس وأقبيته. وذقت طعم العلقم. وجدت الفرق هائلا, بين ما قرأته وما أعيشه اليوم.
أعادوني محمولا ورموا بي بين الأجساد المنهوكة. أسمع الأنين من حولي… الموت أهون من كل هذه الإهانات.
ليومي هذا أشعر بالقرف والاشمئزاز حينما أسمع أو أتذكر أولئك الذين يتحدثون ليل نهارعن الحرية والعدالة ودولة الحق والقانون . تفو… تفو… تفو… ابصق عليهم في التلفزيون وصفحات الجرائد وألعنهم. إنهم أغبياء. فالتطرف الذي يرمونني وغيري به. لا يصنع ولا ينبت ولا يولد ويزداد إلا هنا. لا ينمو ولا يترعرع إلا في قاع الجب العميقة, الدهاليز والأقبية المظلمة. وكأن جنكيز خان لم يمت ونسله يحكمون في الأرض إلى هذه الساعة .
ارتفعت الموسيقى. كلماتها غريبة وغير مفهومة, لهذا ربما يسمونها شعبية كل ماهو رديء ينسبونه للشعب المسكين. ربما اختاروا بعناية ما يذيعونه هنا. زيد دردك… عاود دردك… ما الذي يريدون قوله؟!
زاد بغضي وكرهي لهذه الرداءة التي يسمونها موسيقى شعبية.
أحد المساكين يبدو أنه فقد صوابه هنا, شرع يردد مع الشريط بصوت مبحوح. ضحك أحدهم لم يتمالك نفسه فقهقه عاليا, سحبوه للمسلخ… ارتفعت صرخاته وشتائمهم…
“تضحك يا ولد الق…تحسب راسك في مسرح …اللي فيك ما هناك… لا يعور ولا يعرج إلا البلاء المسلط…”
لم يتركوا أحدا حتى المعاقون هنا. سمعنا قيئه… قيع… قيع… قيع… قيئوه.
رموه بجانبي رائحته عطنة كريهة, ما أن استعاد أنفاسه حتى شرع يسب ويلعن ويدعو عليهم بصوت شبه خافت. استغربت أمره وجرأته. بدأ يتلو القرءان, سورة الكهف. صوته ندي رائع وترتيله متقن. سمعوه وصاح فيه أحدهم معيرا إياه بإعاقته.
“سكتنا أداك لعرج… أولد القواده… مال أمك كيف الحمار لحمك ياكلك ماكترتاح غير بالعصا”
همهم رادا عليه فسمعته “القواده هي أمك يا ولد الخيرية” = “أمك هي القواده يا ابن الملجئ الخيري. وصلتني كلماته فوقف شعر رأسي وتشوك بدني. ماذا لو سمعوه يقول هذا الكلام؟؟؟!!!
أشفقت عليه. رغبت في نصحه فلم أستطع. تذكرت أحد رفاق الطفولة كان معاقا من إحدى رجليه, وعنيدا, وشقيا, لم يتفوق عليه أحد من أقرانه في السباحة ولا في تسلق الأشجار, لذلك كنا نلقبه ب(قريده) ساعدته مواهبه تلك في الهجرة سرا إلى أوربا( متشعبطا) أسفل شاحنة نقل دولي. لم يعد. سمعت أنه يشتغل في سرك متنقل.
يتبع بحول الله تعالى…
إرسال تعليق