في فجر يوم الخميس الثامن عشرمن شهر ابريل للعام 1974 بينما كان يعد لاجتماع يضم أركان النظام المصري وعلى رأسهم أنور السادات في قاعة اللجنة المركزية
رياض حسن محرم –
تمهيد:
في فجر يوم الخميس الثامن عشرمن شهر ابريل للعام 1974 بينما كان يعد لاجتماع يضم أركان النظام المصري وعلى رأسهم أنور السادات في قاعة اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي على شاطئ النيل صباحا, لمناقشة خطة العمل التنفيذية لورقة أكتوبر, كان هناك تحرك يبدأ في مكان آخر. كانت تدور معركة شرسة على أبواب كلية الفنية العسكرية بين فريقين غير متكافئين تماما, ما يقرب من ثمانية عشرة شابا يافعا في مقتبل العمر, مسلحين بمجموعة من السكاكين والمطاوي, وقوات عسكرية مجهزة من حراسة الكلية, ليختلط الحابل بالنابل ويسقط ثلاثة عشرة قتيلا, ستة من المهاجمين, وسبعة من الحراس, لتنتهي العملية سريعا, ويحاول المهاجمين سحب أنفسهم فى محاولة للفرار. على الجانب الآخر من سور الكلية, وفى الداخل تحاول مجموعة أخرى من طلبة الكلية الاستيلاء على مخزن سلاح لواء الحراسة, لكنهم فشلوا في ذلك أمام دفاع سرية الحراسة, فتوجهوا إلى كابينة الإنارة وعمدوا إلى قطع الكهرباء, لتدور معركة داخل الكلية, تنتهي سريعا مخلفة وراءها إحدى عشر قتيلا, وسبعة وعشرين مصابا.
البداية:
تبدأ نشأة ما عرف فيما بعد بتنظيم الفنية العسكرية, بهزيمة 1967 وما خلفته من جروح وندوب كثيرة, ومن فقدان الأمل بين الشباب, مما حدا بهم إلى البحث عن حل لدى أما بقايا الحركة الشيوعية, أو ما تبقى من حركة الإخوان المسلمين.
نشط التيار الديني سريعا بعد النكسة رادا أسباب الهزيمة الى البعد عن الله, وفشل الحلول العلمانية والقومية, والاستعانة بقوى الشرك والكفر, طارحا الحل ببساطة في إقامة الدولة الإسلامية, متخذا من منابر المساجد طريقا للدعوة لأفكاره, ومن تجمعات الفرق الصوفية, والجمعيات الشرعية, والقوى السلفية, ميدانا خصبا لتجنيد الشباب.
كما نشط مجموعة لا بأس بها من خطباء التيار السلفي المتشدد, من أمثال الشيخ محمود عيد وأحمد المحلاوي بالإسكندرية, والشيخ عبد الحميد كشك بالقاهرة, والشيخ حافظ سلامة بالسويس, وغيرهم, ليجتمع حولهم آلاف من الشباب المتحمسين, وتبدأ مجموعة معينة من الكتب في التداول بينهم سرا وعلنا, منها كتابات سيد ومحمد قطب, وابن تيمية, وأبو الأعلى المودودى وغيرهم.
بدأت في التشكل مجموعات صغيرة تؤمن بفكر الإخوان المسلمين بقيادة أفراد من الصف الثاني والثالث من الجماعة, حيث كانت قيادات الحركة خلف أسوار السجون منذ عام 1965 بعد محاكمتهم وإعدام سيد قطب وآخرون. تلقت الحركة الإسلامية دفعة كبيرة بعد وفاة جمال عبد الناصر وتولى السادات ليبدأ عهد جديد في التعامل مع الإخوان المسلمين, بالإفراج عنهم, وإعادتهم إلى وظائفهم, وتمكينهم من الخطابة على المنابر, فكان ذلك عاملا حاسما في سرعة نشر الأفكار الدينية في المجتمع عموما, وبين شباب الجامعات على وجه الخصوص.
صالح سرية:
كان لتوقيت وصول صالح سرية إلى مصر في عام 1971 أثرا حاسما فى بلورة فكرة الانقلاب العسكري. هو صالح عبد الله سرية, أردني من أصل فلسطيني, ولد فى حيفا, وأكمل دراسته الابتدائية بها, وبعد نكبة 1948 هاجر مع أسرته إلى العراق, وأكمل دراسته الثانوية هناك, ودخل كلية الشريعة بجامعة بغداد بوساطة مباشرة من مرشد جماعة الإخوان المسلمين في العراق والتي كان قد انتمى إليها, وكان من العناصر النشطة فيها, , وأسس مجموعة فلسطينية بالعراق سماها”جبهة التحرير الفلسطينية” واستمر نشاطه متصاعدا حتى قيام ثورة 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم, وبعد حدوث خلاف بين قاسم والإخوان لجأ إلى العمل السري, وقام بعدة عمليات ضد اليهود العراقيين من قتل واستيلاء على أموال لتمويل مجموعته بالأسلحة, حاول التقرب من عبد السلام عارف بعد انقلابه على قاسم, ثم اعتقل عام 1965 وبعد الإفراج عنه حصل على الماجستير في الشريعة, وابتعد عن العمل السياسى لفترة, وبعد هزيمة 1967 عاد لنشاطه الفدائي وانضم إلى المجلس الوطني الفلسطيني, وحضر اجتماع المجلس بالقاهرة عام 1968.
وبعد أن أتهم بالأشتراك فى محاولة اغتيال أحمد حسن البكر , فرّ إلى سوريا, فالأردن وإرتبط بحزب التحرير الإسلامى الذى أسسه “تقى الدين النبهانى عام 1950, ثم جاء إلى مصر عام 1971 وحصل على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة عين شمس عام 1972, وعمل بمنظمة التربية والثقافة والعلوم(الأونيسكو) بجامعة الدول العربية بالقاهرة.
لم يضيّع صالح سرية حال وصوله الى القاهرة أى وقت, فاتجه مباشرة الى منزل السيدة زينب الغزالى, والتى كان قد تعرف عليها فى زيارة سابقة الى القاهرة عن طريق طليقها الشيخ “حافظ التيجانى” ونزل ضيفا عليها هو وأسرته المكونة من زوجته وتسعة من الأبناء, ولعبت السيدة زينب الغزالى دورا أساسيا فى تقديمه الى المرشد العام المستشار “حسن الهضيبى” وتعريفه بمجموعات الشباب الجديد ومنهم “طلال الأنصارى” و”اسماعيل طنطاوى”و”يحيى هاشم” . سرعان ما أدرك صالح سرية أن الاخوان المسلمين فى مصر غير راغبين أو قادرين على المواجهه, وذلك بعد لقائه ببعض قادتهم وعلى رأسهم المرشد العام, وكذلك لقاءاته مع كثير من قياداتهم أمثال الشيخين محمد الغزالى والسيد سابق.
ويمكن التماس العذر لهؤلاء القادة الذين كان يهمهم فى الأساس الأول بقاء الدعوة واستمرارها, وحماية أعضائها, وهم ليسوا بعيدين من محنة قاسية ألمت بهم فى العام 1965, وما زالوا يرممون نتائجها, ويضمدون جراحها.
كما وجد قادة المجموعات الشبابية مشتتي الحركة, ومشوشى الرؤية, فمنهم من كان اتجاهه سلفيا مثل “اسماعيل طنطاوى” ومنهم من يرفض فكرة الانقلاب العسكرى ويدعو الى حرب عصابات طويلة الأجل مثل “يحيى هاشم”” وهو وكيل نيابة بدأ نشاطه السياسي عام 1968 بقيادة مظاهرة من مسجد الحسين بالقاهرة بسبب هزيمة يونيو 1967 . وقد شكل يحي هاشم تنظيما بلغ عدد أفراده حوالي300 فردا معظمهم من الإسكندرية, وحاول بعد فشل عملية الفنية العسكرية و القبض على أعضائها القيام بعملية مغامرة لتهريبهم, ولكن خطته انكشفت فهرب الى الصعيد وتمت تصفيته هناك بواسطة قوات الأمن. توجه سرّية مباشرة الى الشباب المتدين المتحمس ليكّون منهم تنظيمه, ونجح فى تجنيد العشرات منهم بسرعة فائقة فقد كان له تأثير قوى على كل من يلتقى به, انظر ماذا يقول عنه” أيمن الظواهرى” فى كتابه”فرسان تحت راية النبى”:
ان صالح سرية كان محدثاً جذاباً ومثقفاً على درجة عالية من الاطلاع والمعرفة، وكان حاصلاً على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة عين شمس، كما كان متضلعاً في عدد من العلوم الشرعية)، وانه التقاه مرة واحدة أثناء احد المعسكرات الاسلامية في كلية الطب حين دعاه أحد المشاركين في المعسكر الى القاء كلمة في الشباب. و«بمجرد استماعي لكلمة هذا الزائر أدركت ان لكلامه وقعاً آخر، وانه يحمل معاني اوسع في وجوب نصرة الاسلام. وقررت ان أسعى للقاء هذا الزائر، ولكن كل محاولاتي للقائه لم تفلح».
كما يقول عنه” طلال الأنصارى” فى كتابه”صفحات مجهولة من تاريخ الحركة الاسلامية المعاصرة”:
((كان صالح سرية شخصية كاريزمية, لا يملك من يقابله فكاكا من أن ينبهر به..خلقه..شخصيته..علمه..قدرته الفائقة على الاقناع بأبسط الطرق وأيسرها, وقدرته على صياغة أعقد القضايا وعرضها فى كلمات بسيطة وموجزة))
الخطة والتحرك:
نجح سرّية فى تكوين تنظيم واسع ومتنوع جغرافيا من مجموعة متحمسة من الشباب, قسمهم الى مجموعات صغيرة على رأس مجموعة الإسكندرية”كامل عبد القادر(طب) وطلال الأنصاري(هندسة), ومجموعة “بور سعيد”بقيادة أحمد صالح, ومجموعة” القاهرة والجيزة” وعلى رأسها حسن الهلاوى ومصطفى يسرى, ومجموعة” قنا” بقيادة محمد شاكر الشريف, وأبقى مجموعة “الفنية العسكرية” بقيادة كارم الأناضولي وباقي الكليات العسكرية تحت قيادته المباشرة.
أمام ضغط الشباب المتحمس المتكرر والمستمر على سرعة لتحرك, وإستعجال العمل, والإلحاح الدائم, إضطّر للتسرع بوضع الخطة الأولى وهى اغتيال الرئيس السادات مع كبار قياداته بالمطار عند عودته من زيارة خارجية ليوغوسلافيا, وتم تكليف مجموعة القاهرة والجيزة بقيادة “حسن الهلاوى” برسم خريطة تفصيلية للمطار, ولكن لعدم قيام المجموعة بما كلفت به تم إلغاء الخطة. تم تكليف مجموعة الإسكندرية بإعداد رسم كروكى عن مكانين محتملين للهجوم الأول مجلس الشعب والثانى مبنى الاتحاد الاشتراكى على “كورنيش النيل”, وقد حضرت مجموعة من ستة أفراد من الأسكندرية منهم محمد على خليفة وهانى الفرانونى وأنجزوا المطلوب.
تم وضع الخطة البديلة بواسطة سرّية وكارم الأناضولي, وتعتمد على الاستيلاء على الفنية العسكرية بمهاجمة حرس بوابة الكلية في صمت لادخال عدد كبير من الشباب الى الكلية، ثم بعد ذلك الاستيلاء على الأسلحة والسيارات والمدرعات من الكلية الفنية العسكرية بمساعدة اخوانهم الطلبة داخل الكلية مستغلين صلاحياتهم كقادة مناوبين أثناء الليل، ثم التوجه بما حصلوا عليه الى مقر الاتحاد الاشتراكي لمهاجمة السادات وأركان حكمه أثناء اجتماعهم.
وكبروفة للأحداث طلب سرّية من مجموعة الأسكندرية الحضور الى القاهرة, والتوجه إلى موقع العملية قبل بدء التحرك بيوم واحد وبعد حضورهم طلب منهم العودة والحضور في اليوم التالي.وأعد صالح سرية بيان الانقلاب بخطه, ويدعوا إلى قيام نظام جديد فى مصر يقضى على الفساد, ويدعم الإيمان والأخلاق والفضيلة, ويضمن الحريّات, وتم تذييل البيان بتوقيع د/ صالح سرّية رئيس الجمهورية.
ومع بداية التحرك تسلل اثنين من التنظيم, أحدهما توجه إلى وزارة الداخلية والثاني إلى رئاسة الجمهورية, وقاما بالإبلاغ عن الخطة, وبعد مرور وقت طويل من عدم التصديق والتحقيق معهم, توجهت قوة صغيرة من الأمن المركزي إلى كلية الفنية العسكرية, ليتم إجهاض الهجوم في بدايته, ويتم القبض على قياداته, وعلى رأسهم صالح سرية الفلسطيني, وأجريت لهم محاكمة سريعة, حاولت السلطات الأمنية إثبات تورط النظام الليبي في العملية,وحاولت النيابة أن تزج باسم “حسين الشافعي” نائب رئيس الجمهورية فيها, ولكن ربط الحركة بأى قوى خارجية أو داخلية باءت بالفشل.
صدر الحكم بإعدام صالح سرّية وكارم الأناضولي وطلال الأنصاري(قرر السادات تخفيف الحكم الصادر عليه بالإعدام إلى المؤبد, نتيجة وساطة والده الشاعر السكندري عبد المنعم الأنصاري), وبأحكام بالسجن على عشرات منهم, وطويت صفحة من تاريخ أول تنظيم إسلامى جهادي انقلابي في مصر. مع إنتهاء العملية بالفشل, واعدام القيادات, حاول أحد قيادات التنظيم ” أحمد صالح” والذى حوكم بالبراءة, إعادة تجميع من تبقى والإستمرار فى الحركة, ولكن يتم القبض على معظم من تبقى منهم عام 1977 فيما عرف بتنظيم الجهاد, ليعود مرة أخرى “د. مصطفى يسرى” لمحاولة الإستمرار بالباقين منهم.
أفكار التنظيم
إعتمد التنظيم فى أدبياته الرئيسة على أفكار صالح سرّية مؤسس التنظيم وفيلسوفه, والذى خلّف مجموعة من الكتابات, أهمها “رسالة الإيمان” التى أعاد طباعتها عدة مرات اتحاد طلاب مصر فى نهاية السبعينيات.
ومن أهم الأفكار الواردة فى هذه الوثيقة:
– الجهاد هو الطريق لإقامة الدول الإسلامية
– لا يجوز موالاة الكفار والأنظمة الكافرة ومن فعل ذلك فهو كافر. من مات دفاعاً عن حكومة كافرة ضد من قاموا لإقامة الدولة الإسلامية فهو كافر إلا إذا كان مكرهاً فإنه يبعث على نيته. من اشترك في حزب عقائدي غير إسلامي فهو كافر، كذلك من اشترك في جمعية عالمية كالماسونية أو اعتنق فلسفة مخالفة كالوجودية أو البرجماتية كافر.
– الحكم بتكفير الحكام وجاهلية المجتمع واعتباره دار حرب.
– جواز العمل الحزبي الإسلامي والمساهمة من خلاله في الانتخابات ودخول البرلمان والمشاركة في الوزارات إذا كان صريحاً بأنه يسعى عن هذا الطريق للوصول إلى السلطة وتحويل الدولة إلى دولة إسلامية.
– يجوز للمسلم أن يدخل في مختلف اختصاصات الدولة بأمر من الجماعة الإسلامية ويستغل منصبه لمساعدة الجماعة للحصول على السلطة أو التخفيف عنها في حالة المحنة أو إفادتها بأي طريق ولا مانع أن يصبح وزيراً حتى مع حاكم طاغية إذا كان بهذه النية.
– كل من ينفذ أوامر الدولة الكافرة ضد الإسلام والحركة الإسلامية فهو كافر. في حالة وجود مرشح إسلامي وأمامه مرشح اشتراكي أو قومي أو شيوعي وانتخب الفرد غير الإسلامي فإنه يكون كافراً بهذا الموقف.
– الذين يحاربون دعاة الإسلام لأنهم يمزجون الدين بالسياسة كفار لأنهم قصروا الإسلام على جانب وكفروا بالجوانب الأخرى.
– المعارضون لأحكام الإسلام الذين يتهمون الدين بالتخلف والرجعية كفار، كذلك الذين يعترضون على حكم من أحكام الله ولا يرضون عنها مثل الذين يعترضون على الإسلام ويتهمونه بالتخلف فإن هؤلاء غير راضين عن الإسلام أصلاً.
– التفريق بين الامتناع الجماعي والامتناع الفردي بمعنى أن الترك الجماعي لأي ركن من أركان الإسلام كفر.
– كل القوانين المخالفة للإسلام في الدولة هي قوانين كفر وكل من أعدها أو ساهم في إعدادها أو جعلها تشريعات ملزمة فهو كافر كذلك من طبقها دون اعتراض عليها أو إنكار لها.
– تحية العلم والجندي المجهول والسلام الجمهوري من طقوس الجاهلية وهي صورة من صور الشرك.
خاتمة
لا شك أن هذه التجربة بوصفها من التجارب الأولى فى العمل التنظيمى الجهادى, والمختلف عن المسار التقليدى لجماعة الإخوان المسلمين, شابتها العديد من الأخطاء القاتلة نذكر منها:
1- الإعتماد بشكل رئيسى على مجموعة من الشباب الغض قليلى الخبرة والتجربة, ممن لم تتجاوز أعمارهم العشرين عاما.
2- وجود شخصية مثل الدكتور صالح سرية على رأس التنظيم, وهو الأردنى الجنسية والفلسطينى الأصل أضعف كثيرا من مصداقية هذا التنظيم وقدرته على النجاح.
3- سذاجة الخطط التى وضعت, وإرتجال التنفيذ, والإستعجال فى الحركة, كلها عوامل ساهمت فى الفشل, وعدم وجود أي امكانية للوصول الى الهدف.