الرايات السوداء ـ عبد الله عزام من الجهاد إلى الاغتيال (1) * مائة عالم وافقوا على فتوى «الجهاد أهم فروض الأعيان».. فبدأ عبد الله عزام تهجير العرب الأفغان

0

الرايات السوداء ـ عبد الله عزام منالجهاد إلى الاغتيال (1) * مائة عالم وافقوا على فتوى «الجهاد أهم فروض الأعيان».. فبدأ عبد الله عزام تهجير العرب الأفغان

 

 

 

 

الرايات السوداء ـ عبد الله عزام منالجهاد إلى الاغتيال (1) * مائة عالم وافقوا على فتوى «الجهاد أهم فروض الأعيان».. فبدأ عبد الله عزام تهجير العرب الأفغان

 

* لماذا يصر العرب الأفغان على تجاهل سيرة عزام.. وهل يعود السبب إلى أسامة بن لادن؟

* قال: بعض المجاهدين العرب في أفغانستان لم يحتمل الشدائد.. وصار يناقش فى حكم الجهاد أصلا لا بد أن يتوقف أي باحث موفق في مسيرة «الحركة الأصولية الإسلامية الأممية» أمام مجموعة من الأسماء المؤثرة في تلك المسيرة، لأنها كانت، ولم تزل بمثابة العناصر الملهمة لتلك الحركة، بغض النظر عن الموقف الفكري للباحث من أصحاب تلك الأسماء ورؤاها. ومنذ تأسست جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 وحتى نشوء تنظيم «القاعدة» فى السنوات الأخيرة، فإن «الأصولية الإسلامية الأممية» كانت دوما تنال في كل مرحلة من تاريخها دفعة إلهامية أو فكرية أو تنظيمية من قائمة تلك العناصر المؤثرة.

يتصدر القائمة بالطبع حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الملقب داخل الجماعة بصفة «الإمام الشهيد»، ومن بعده أبو الأعلى المودودي مؤسس جماعة «إي إسلامي» في شبه القارة الهندية، وسيد قطب المفكر الإخواني المصري الراحل صاحب الكتاب الشهير «في ظلال القرآن»، وعبد الله عزام العربي الأفغاني الأول، الذي كان له الدور الأكبر والأهم في نشوء ظاهرة «العرب الأفغان»، والتي بدورها أنتجت في ما بعد تنظيم «القاعدة» الذي تخوض الولايات المتحدة الحرب ضده الآن، منذ وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول)، والدكتور حسن الترابي مؤسس الجبهة القومية الإسلامية الشعبية، ثم أخيرا أسامة بن لادن زعيم تنظيم «القاعدة».

لا شك أن هناك قائمة أطول من الأسماء لعبت دورا ما، كان لها تأثيرها هنا أو هناك، لكن الأسماء المذكورة وحدها كان لها الدور الأهم في تحول «الأصولية الإسلامية» إلى «أممية دولية»، يحدوها أمل تأسيس «الخلافة الإسلامية».. وهو أمل اختلفت وسائل كل جماعة أو تنظيم في السعي إليه.. وتراوحت ما بين «الرومانسية الساذجة» و«البراجماتية العميقة».. وصولا إلى مرحلة «الإرهاب» والعنف واعتماده وسيلة أساسية من أجل تحقيق هذا الأمل الخاص بتلك الجماعات.

الأمر اللافت للنظر في سيرة كل تلك الأسماء «المؤثرة» أن حياة كل منهم مضت في اتجاه تطور دراماتيكي مثير للانتباه، بل إن كل منهم عاش معتركات متنوعة ما بين السجن والمطاردات، وحتى الاغتيال.. لا يتسع لها المقام هنا.. والأكثر لفتا للأنظار أنه رغم تعرض عشرات من الباحثين لكل تفاصيل حياة ورؤى وأفكار هذه الأسماء المؤثرة إلا أن هناك حالة استثنائية مهمة لم يقترب منها كثيرون كما فعلوا مع غيره وأعني به عبد الله عزام.

واقعيا لا يوجد مبرر واضح لهذا «التجاهل الاستثنائي»، بل إن هذا يكشف عن تناقض رهيب. فعبد الله عزام قام بمهمة لم يزل يكتنف تفاصيلها وكثير من مبرراتها غموض طاغ. فقد حقق أكبر تسويق إعلامي ديني للقضية الأفغانية في الدول العربية وبين المهاجرين المسلمين في أوروبا والولايات المتحدة، وجمع أكبر قدر من أموال التبرعات لصالح المقاومة الأفغانية ضد الاحتلال السوفياتي، واجتذب المئات الأوائل من «العرب الأفغان» الذين أقنعهم بأولوية «الجهاد» في أفغانستان، وقد كان بمثابة «الأب الروحي» لأسامة بن لادن حتى أن كلاهما وصف الآخر بأنه «أمة في رجل».

وحين بدأت في إعداد كتابي «الرايات السوداء ـ القصة الموثقة لدولة أسامة بن لادن والعرب الأفغان»، والذي أسعى فيه لتأصيل مسيرة الدولة العالمية التي حاول بن لادن أن يعلنها إنطلاقا من أفغانستان، واجهت مصاعب كبيرة في العثور على مصادر موثقة تكشف خبايا هذا الرجل الملقب بين العرب الأفغان بـ«الشيخ الشهيد».. بل إن كثيرين من منظري ومؤلفي أدبيات تنظيم «القاعدة» اكتفوا بذكر عبارات التقدير والعرفان التي تصل أحيانا إلى ما يقرب من «التقديس» للشيخ الراحل، دون أن يتجاوزوا ذلك.. إلى درجة دفعتني للشك والاسترابة في أن هناك تجاهلا متعمدا بينهم له. ومن المؤكد أن أي مراقب متيقظ لا بد أن يرصد ذلك التناقض بين الاهتمام بتأريخ «العرب الأفغان» لكل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة عن أسامة بن لادن.. بينما لا يحظى الرجل الذي كان مرشدا روحيا له بنفس الدرجة من الاهتمام. فهل يعود ذلك إلى خلاف كان قد وقع بين بن لادن وعبد الله عزام في غضون عام 1986 بعد أن بدأ بن لادن الاستقلال بنفسه وبتنظيمه عن عبد الله عزام؟.. ربما.

أوصاف أسطورية تاريخيا، لم أعثر على مصادر محايدة حول الرجل وفكره، وكل المتوافر عنه هو مجموعة من الكتيبات والمحاضرات المطبوعة والمقالات المنشورة في مجلة كان يصدرها في بيشاور، تطوع بنشرها في ما بعد مركز يحمل اسم عبد الله عزام في بيشاور أيضا.. وقد اضطرتني حالة التعتيم شبه المتعمدة إلى نسج القصة الكاملة لعبد الله عزام بأسلوب «الموزاييك» الذي يقتفي أثر المعلومات القليلة حوله في كتاب هنا، أو حوار ومقال هناك.

يصف «بو جمعة»، وهو إمام سابق لمسجد في مدينة «بلعباس» الجزائرية، لقاءه الأول مع الشيخ الراحل عبد الله عزام عند بئر زمزم في مكة المكرمة، قائلا: «كان يتضلع من ماء زمزم، كنت قد رأيت صورة له من قبل، فقلت له: هل أنت الشيخ عبد الله عزام.. فرد: نعم».

إن «بو جمعة»، الذي أصبح اسمه في ما بعد عبد الله أنس وتزوج من ابنة عزام التي تصغره بـ 19 عاما، ليس الوحيد الذي يحرص على أن يؤكد على أن لقاءه الأول مع الشيخ عزام كان قد تم في تلك البقاع المقدسة، فهذه قصة تتكرر كثيرا على ألسنة عشرات من العرب الأفغان، مثل أبو حمزة المصري، وهو مهندس سكندري قابل عزام بعد عبد الله أنس بثلاث سنوات، أي في عام 1987. إذ يقول: «قابلت الشيخ عزام في موسم الحج، وطلب مني الذهاب إلى أفغانستان لمساعدة الأفغان من الناحية الهندسية ومن الناحية العسكرية إن استطعت».

وفي ما يبدو فإن هناك رغبة لدى هؤلاء في أن يضفوا هالة من القداسة على بدايات رحلتهم إلى أفغانستان، إلا أنه من الناحية الواقعية كان ذلك طبيعيا باعتبار أن تلك الأماكن هي بالفعل التي اعتاد عزام أن يسافر إليها أوقاتا كثيرة.. دعاية للجهاد الأفغاني، وجمعا لأموال التبرعات، واستقطابا للشباب لكي يسافروا إلى أفغانستان، وحرصا على المساندة الدينية له بالفتاوى.

ولد عبد الله عزام في قرية تابعة لبلدة جنين في فلسطين عام 1941. وهنا تنشأ المفارقة التي طاردته طوال السنوات التسع التي خاض فيها المعركة الأفغانية حتى عام 1989 إذ كيف يكون فلسطينيا ويقوم بكل هذا الجهد من أجل أفغانستان، بينما بلده محتل ويخوض معركة قاسية من أجل التحرير.. ويعيش أحلك سنوات الانتفاضة الأولى تحت نير الاحتلال الإسرائيلي قبل انعقاد مؤتمر مدريد للسلام، بينما هو مشغول تماما بجمع شتات الفرقاء الأفغان؟ لقد كان هذا لغزا كبيرا. لكنه لم يكن اللغز الوحيد.

الشيخ عزام لم تكن لديه ميول دراسية دينية واضحة منذ البداية، فبعد أن تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدارس طولكرم حصل على دبلوم زراعي، قبل أن يعمل مدرسا في مدرسة زراعية قروية بالأردن، لكنه بعد ذلك سافر إلى دمشق وحصل على الليسانس من كلية الشريعة في عام 1966 ثم هاجر إلى الأردن بعد هزيمة 1967. حيث بدأ أولى عمليات الاشتراك في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفترة وجيزة.

في غضون ذلك أصبح عبد الله عزام مدرسا في جامعة الأردن، ثم سافر إلى مصر، حيث نال الماجستير في «الشريعة» من جامعة الأزهر، ثم عاد إلى الأردن، وما لبث أن كوفئ بمنحة دراسية أخرى إلى الأزهر، حيث نال درجة الدكتوراه في «أصول الفقه». وحين رجع إلى الأردن لم يقض وقتا طويلا وسرعان ما انتقل إلى السعودية، حيث أصبح أستاذا في جامعة الملك عبد العزيز في جدة.

تقول مجلة «نضال الإسلام»: في عدد تموز ـ ايلول (يوليو ـ سبتمبر) 1996: «لقد آمن الشيخ عبد الله عزام بأن الذين يناضلون من أجل تحرير فلسطين قد ابتعدوا تماما عن الإسلام الحقيقي، وأن الطريق العسكري هو الوحيد المتاح لكي تحقق الأمة الإسلامية النصر بالجهاد والبندقية وحدهما، لا مفاوضات، لا مؤتمرات، لا حوارات». هكذا اجتذب الوضع الأفغاني الساخن في أعقاب الغزو السوفياتي عبد الله عزام دون مبرر واضح ومقنع فسافر إلى باكستان، حيث أصبح أستاذا في جامعة إسلام آباد لكنه سرعان ما ترك وظيفته وقرر أن يبدأ الجهاد من أجل نصرة الأفغان، وسافر إلى بيشاور حيث وجد في الجهاد «أرضا لشوقه وحبه الجارف للحرب على طريق الله».

بهذا كان عبد الله عزام هو «العربي الأفغاني الأول»، الذي ذهب مبكرا جدا إلى هناك، لكنه لم يكن مجرد متطوع رومانسي حالم، أو مؤرخ دارس، وإنما صار همزة الوصل الأولى والأهم بين القضية الأفغانية والعالم العربي.. سواء كان العرب في بلادهم أو في بلاد المهجر في أوروبا والولايات المتحدة، وبدا وكأنه ينفذ مهمة محددة.

الأسباب الستة عشر من المؤكد أن الشيخ الدكتور عبد الله عزام كان يملك مقومات خاصة تؤهله لهذه المهمة، فكل الذين التقوه كانوا يعبرون عن إعجابهم به ـ وعلى الأقل أغلبهم ـ ويقول عبد الله أنس: «كانت له ـ رحمه الله ـ طلعة يوسفية، وعزم عمري، وحسام خالدي، كما قال عنه أحد الشعراء في الخليج، فقد كان له بالفعل جمال وجه رزقه الله إياه وعزيمة لا تلين، كما أنه كان حاسما بتبنيه الجهاد وتحريكه الأمة في سبيل ذلك». وبغض النظر عن هذا الوصف الأسطوري الذي جاء على لسان صهره، وهو وصف مجامل جعل له مواصفات نادرة لم تجتمع في كل من نبي الله يوسف عليه السلام، وخليفة المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفارس المسلمين خالد بن الوليد، فإن هذا بشكل أو آخر يعطينا فكرة عن صفات «الكاريزما» التي تمتع بها عبد الله عزام كما بدا لأتباعه ومعجبيه.

على أن عزام كان كذلك خطيبا مفوها، من النوع الجذاب الآسر لسامعيه، يمزج كلماته بآيات القرآن وأحاديث الرسول، ولا يتخلى دائما عن الشعر الحماسي ويرصع خطبه بالقصص التاريخية، ويتعمد تكرار الحديث عن كرامات أسطورية، ويبسط المفاهيم، ويتطوع بالشرح الجغرافي والتاريخي لواقع الجهاد في أفغانستان، بأسلوب قصصي وخطابي لم يتكرر لدى كثيرين غيره، وقد استغل كل هذا في عملية اجتذاب واسعة ومنظمة للمال والرجال من أجل تشجيع المسلمين على الجهاد في أفغانستان وكأنها قضية الإسلام الوحيدة إن لم تكن الأخيرة.

وقبل أن نغوص في تفاصيل هذه «الحملة العزامية» فإننا نتوقف أمام مذكرة مهمة كتبها الشيخ عزام تلخص إجمالا المعاني التي كان يرددها في سبيل إقناع من يتوجه إليهم للتبرع أو للجهاد في أفغانستان، ونعني بذلك مذكرة «الحق بالقافلة»، ويقول في مقدمتها تعريفا بها: «هذه رسالة صغيرة كتبتها للذين يتحرقون للجهاد ويطمعون في الشهادة في سبيله».

إن الشيخ الراحل كان يرى أن «مصيبة المسلمين الكبرى هي ترك الجهاد، وحب الدنيا وكراهية الموت»، ومن هنا فهو يرى أن ذلك أدى إلى «تسلط الطغاة على رقاب المسلمين في كل ناحية وفوق كل أرض، لأن الكفار لا يهابون إلا القتال»، وفي هذا الإطار يذكر عبد الله عزام 16 سببا لحث خطى المسلمين نحو القتال:

1 ـ حتى لا يسود الكفر، «فإذا توقف القتال ساد الكفر وانتشرت الفتنة وهي الشرك». ويؤكد على هذا بالآية رقم 39 من سورة الأنفال: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير».

2 ـ لقلة الرجال. «إن أزمة العالم الإسلامي هي أزمة رجال يضطلعون بحمل المسؤولية والقيام بأعباء الأمانة».

3 ـ الخوف من النار. «إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير» (التوبة: 39).

4 ـ الاستجابة للنداء الرباني. قال تعالى: «انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون» (التوبة: 41).

5 ـ اتباع السلف الصالح. «فقد كان الجهاد دينا للسلف الصالح، وكان صلى الله عليه وسلم سيدا للمجاهدين وقائدا للغر الميامين».

6 ـ إقامة القاعدة الصلبة لدار الإسلام. «إن إقامة المجتمع المسلم فوق بقعة أرض ضرورية للمسلمين، ضرورة الماء والهواء، وهذه الدار لن تكون إلا بحركة إسلامية منظمة، تلتزم الجهاد واقعا وشعارا وتتخذ القتال لحمة ودثارا».

7 ـ حماية المستضعفين في الأرض.

8 ـ طمعا بالشهادة والمنازل العلى في الجنة.

9 ـ حفظا لعزة الأمة ورفع الذل عنها.

10 ـ حفظا لهيبة الأمة ورد كيد أعدائها.

11 ـ صلاحا للأرض وحماية لها من الفساد.

12 ـ حماية للشعائر الإسلامية.

13 ـ في الجهاد حماية الأمة من العذاب ومن المسخ والاستبدال.

14 ـ في الجهاد غنى الأمة وزيادة ثرواتها: «وجعل رزقي تحت ظل رمحي» (حديث نبوي).

15 ـ الجهاد ذروة سنام الإسلام.

16 ـ الجهاد من أفضل العبادات وبه ينال المسلم أرفع الدرجات.

فرض عين إن مثل هذه المعاني هي نفسها التي وردت في كتاب محمد عبد السلام فرج «الفريضة الغائبة» والذي ألفه تأصيلا لمعنى الجهاد في عقيدة تنظيم الجهاد المصري الذي اغتال في عام 1981 الرئيس السادات. لكن الشيخ عبد الله عزام صاغ رؤيته بأسلوبه الخاص في سبيل تحقيق هدفه وهو أن «يلحق من يقرأه ويسمعه بالقافلة». ففي الجزء الثاني من رسالته تلك يوجه عبد الله عزام المسلمين إلى المكان الذي يرى أنه الأوجب بأداء فريضة الجهاد.

قال عزام تحت عنوان «وا إسلاماه»: «لا تخفى عليكم التضحيات الباهظة التي فرضت على الشعب الأفغاني المسلم، فهم يتحملون أقصى ما يمكن أن يتحمله بشر لحماية دينهم وأعراضهم وأطفالهم ولم يبق بيت في أفغانستان إلا وتحول إلى مأتم ويُتِّم من فيه». «ولم يبق في القوس منزع، وكادت سهام الكنانة تنفد، والأفغان يأملون من إخوانهم المسلمين أن تفد جموعهم وأن تتحرك اخوَّة الإسلام في أعماقهم، ولكن لم يلب المسلمون نداءهم حتى الآن، وكأن في آذانهم صمتا دون أنات الثكالي، وصيحات العذارى وآهات الأيتام وزفرات الشيوخ».

ويضيف مؤكدا على وجوبية الجهاد في أفغانستان: «على قدر اطلاعنا القليل وعلمنا اليسير نعتقد أن الجهاد وفي مثل هذه الحالة الراهنة في أفغانستان فرض عين بالنفس والمال، كما قرره فقهاء المذاهب الأربعة بلا استثناء ومعهم جمهرة المفسرين والمحدثين الأصوليين».

وعلى قدر تلخيص هذه «المذكرة ـ الرسالة للأفكار التي روجها الدكتور عبد الله عزام في السنوات التي قام فيها بالدعاية للجهاد في أفغانستان، فإنها لا تنسينا هنا الإشارة إلى أنه بدأ حملته تلك باستصدار فتوى تؤكد أن الجهاد في أفغانستان فرض عين على كل المسلمين.. وقد استطاع أن يحصل على توقيع عدد كبير من الشيوخ المسلمين العرب على هذه الفتوى تأكيدا لما جاء بها، ومنهم الشيخ بن باز والشيخ بن عثيمين والشيخ يوسف القرضاوي والشيخ عبد الله ناصح علوان، والشيخ حسن أيوب، الشيخ حسن حوى، والشيخ محمد نجيب المطيعي، وبهذه التوقيعات متنوعة المذاهب والجنسيات صارت فتوى عزام هذه فتوى أممية معتمدة من علماء من مختلف المشارب والاتجاهات.

يقول عبد الله عزام في فتواه هذه تحت عنوان «الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان» راويا قصة تلك الفتوى: «كتبت هذه الفتوى، وكانت أكبر من هذا الحجم، ثم عرضتها على فضيلة شيخنا الكبير سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وقُرئت عليه واستحسنها، وقال إنها طيبة ووافق عليها، إلا أنه اقترح عليّ أن أختصرها حتى يكتب لها مقدمة ننشرها بها، ثم اختصرتها، ولكن وقت الشيخ كان مزدحما وقت الحج ولم يتسع المجال لعرضها عليه مرة أخرى».

وفي موسم الحج عام 1983 وقف عبد الله عزام في «مركز التوعية العامة» بمنى، حيث اجتمع أكثر من مائة عالم من دول إسلامية مختلفة، وقرأ فحوى الفتوى في حضور عبد رب الرسول سياف أحد أكبر قيادات الجهاد الأفغاني، وقال عزام: «لقد عايشت الجهاد الأفغاني ثلاث سنوات، وأقرر أمام سياف أن الجهاد في أفغانستان يحتاج إلى رجال، فمن كان منكم أيها العلماء عنده اعتراض فليعترض.. ولم يعترض أحد».

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان الجهاد فعلا في أفغانستان في حاجة إلى رجال؟ وهو ما يجرنا إلى سؤال آخر هو: هل العرب هم الذين حققوا النصر على السوفيات في أفغانستان؟ إن الإجابة هي النفي بالتأكيد، وكما تبين من قبل فإن الشعب الأفغاني كان قد توزع بالفعل على عدد كبير من الفرق والفصائل التي بادرت بالفعل للدفاع عن أرضها.. وكما سوف يتبين من بعد فإن حجم العرب مهما بلغ في أشد التقديرات مبالغة لم يكن يقارن على الإطلاق بحجم أصحاب الأرض الأصليين الذين قاموا بالدور الأكبر.

إذن لماذا كان الشيخ الفلسطيني يحرص على دفع الرجال العرب دفعا إلى هناك؟

في تصوري ان هناك واحدا من ثلاثة أسباب أو كلها معا: فإما أن هذا هو العبء الذي أنيط به قبل أي شيء آخر، إيحاء بدولية القضية الأفغانية وزيادة في اهتمام الرأي العام الإسلامي بها ضد الشيوعية السوفياتية.. وإما أنه كان صاحب عقلية تفاوضية ووضع هذا الطموح ـ جمع أكبر عدد ممكن من الرجال ـ حتى يحصل على ما يرغب فيه وهو جمع أكبر قدر ممكن من المال ما دام الرجال لن يسافروا. وإما أنه كان صاحب رؤية مستقبلية ورأي بالفعل في أفغانستان، المكان الصالح لإقامة الحلم القديم، وهو تحرير أرض لكي تصبح ـ حسبما يؤمن ـ «دارا للإسلام»، ومنها يتم الانطلاق لتأسيس الخلافة الإسلامية.

عموما راح عبد الله عزام يكثف تأكيده على أن «الجهاد فرض عين على كل المسلمين» ويركز في فتواه على النقاط التالية:

ـ بلاد المسلمين كالبلد الواحد، وأي بقعة من بقاع المسلمين تعرضت لخطر وجب أن يتداعى جسد الأمة الإسلامية كلها لحمايته.

ـ إذا دخل العدو أرض المسلمين يصبح الجهاد فرض عين.

ـ إذا أصبح الجهاد فرض عين فلا فرق بينه وبين الصلاة والصوم.

ـ إذا أصبح الجهاد فرض عين فلا إذن للوالدين.. كما لا يستأذن الوالدان في فريضة الحج وصيام رمضان.

ـ لا فرق بين تارك الجهاد بدون عذر ومفطر رمضان بدون عذر.

ـ لا يغني دفع المال عن الجهاد بالنفس مهما كان المبلغ الذي دفع.

ـ الجهاد فريضة العمر كالصلاة والصوم.

ـ الجهاد فرض عين في كل مكان استولى عليه الكفار، ويبقى فرض عين حتى تتحرر كل بقعة في الأرض كانت إسلامية.

ـ كلمة الجهاد تعني القتال بالسلاح.

ـ «الجهاد الأكبر» الذي يقصد به «جهاد النفس».. ليس صحيحا وهو من حديث باطل.

ـ لم يعذر الله عن الجهاد سوى المريض والأعرج والأعمى والطفل الذي لم يبلغ والمرأة التي لا تعرف طريق الجهاد والهجرة.

ـ الجهاد عبادة جماعية، وكل جماعة لا بد لها من أمير، وطاعة الأمير في الجهاد من الضرورات.

دليل الإرشادات وفق هذا المنهج كان عبد الله عزام يسعى ـ إذا آمن كل الناس بما يقول ـ إلى أن تتحول الأمة الإسلامية كلها إلى الجهاد ضد الشيوعية في أفغانستان، وكان معنى ما يقول هو أن الإسلام سوف ينهار تماما إذا ما تراخى أي فرد عن أن يسافر إلى أفغانستان، أو على الأقل يقدم تبرعا له. وفي هذا السياق نشير إلى أنه كان في كل محاضرة أو خطبة أو في نهاية كل كتيب له يوزع عنوان وتليفون «مكتب خدمات المجاهدين» الذي أنشأه في بيشاور كقبلة للمجاهدين القادمين.

ومن الواضح بالطبع أن عبد الله عزام كان يعرف ما يفعل بدقة، وهو لم يكن يتجاهل في مهمته الاحترافية تلك أي ثغرة يمكن أن تؤثر على إعداد المسافرين إلى أفغانستان، ومن هنا كان طبيعيا أن نراه يتحدث عن مجموعة من الإرشادات الواجب اتباعها لكل ساع إلى الجهاد هناك، بعد أن يقتنع بما يقول، وبالتالي فإنه كتب تحت عنوان «ملاحظات للقادمين للجهاد»:

«إن الشعب الأفغاني فيه كبقية الشعوب جهل وعيوب، فلا يظنن أحد أنه سوف يجد شعبا كاملا ليس فيه نقائص، ولكن الفرق بينه وبين بقية الشعوب أنه اشترى عزته ببحر من الدماء وجبال من الجماجم والأشلاء أما بقية الشعوب فقد خضعت من اليوم الأول للاستعمار والكفر».

وهو كذلك «شعب تربى على المذهب الحنفي، ويرى أن كل من على غير ذلك ليس من الإسلام، وعلى كل من أراد أن يجاهد مع الشعب الأفغاني أن يحترم المذهب الحنفي».

بل إن عبد الله عزام لم يمانع في أن يترك «المجاهدين العرب القادمين»: «بعض هيئات الصلاة في بداية الاختلاط بهم ـ أي الأفغان ـ لأن ذلك يعطيك فرصة غالية حتى تصل إلى قلوبهم وتوجههم وتربيهم وتصلح أمر دينهم ودنياهم».

وعلى الرغم من كل هذا، وكل تلك الاحتياطات التي حاول عبد الله عزام اتخاذها إلا أنه وبمضي الوقت بدأ يواجه انتقادات متنوعة، لاسيما مع احتدام المعارك وكما يقول هو «فإن بعضهم ـ أي المجاهدين العرب ـ لم يحتمل الشدائد وصار يناقش في حكم الجهاد أصلا».

* في الحلقة الثانية: الشيخ الفلسطيني يؤجل قضية فلسطين

 

الرايات السود ـ عبد الله عزام من الجهادإلى الاغتيال (2) * الشيخ الفلسطيني يؤجل قضية فلسطين

عبد الله كمال

* عبد الله عزام رأى أن تحرير القدس يجب أن يتم عن طريق كابل.. «لأن العرب قد يقتلوننا قبل قتل اليهود»

* مبرراته لتأجيل قضية فلسطين: آيديولوجية المناضلين والحدود المفتوحة وصلابة الشعب الأفغاني

* الشيخ الراحل يتحدث عن عهد مع المجاهدين الأفغان بأن يساعدوه في قضية القدس كما ساعدهم في بلدهم سأل أبو حمزة المصري الشيخ عبد الله عزام حين دعاه الأخير الى السفر لأفغانستان دعما للجهاد: «كيف أذهب الى أفغانستان يا شيخ عبد الله، انك تطلب مني أن أذهب الى هناك وهي بعيدة ألفي ميل عن بريطانيا ـ حيث كان يعيش أبو حمزة ـ في حين أن بيننا وبين القدس حائطا من الأسلاك، فكيف لا تأمرنا أن نتخطاه وتطلب منا الذهاب كل هذه المسافة الى أفغانستان؟».

وقال أبو حمزة: «كنت أرى في ذلك الوقت أن بعض المشايخ لا يرون الوضع جيدا». فقال له عبد الله عزام: الأمة في سبات، وأفغانستان هي الطريق وان اختلف الاتجاه، انها الطريق الى التدريب ولانشاء كوادر تقاتل من هذه الأمة. ويعقب أبو حمزة: «ما قاله الشيخ عبد الله فيه جانب كبير من الصحة، الأمة كانت في سبات، والحرب مع اسرائيل هي حرب مع أميركا، ومع كثير من الأنظمة التي نحسبها اسلامية. هو كان مستوعبا لهذا الجزء القتالي. وكنت أنا مستوعباً لجزء عقائدي فقط».

لم يكن ما قاله عبد الله عزام مقنعاً، لكن أبو حمزة اقتنع. وقد اقتنع مئات ان لم يكن آلاف غيره من الأفغان العرب بحتمية تأجيل قضية القدس حتى يتم تحرير كابل. لكن المثير في الأمر أنه حين تم تحرير كابل كان أن تشرذم غالبية هؤلاء الى عشرات الاتجاهات الأخرى في البوسنة والشيشان وكشمير والفلبين وايغورستان (الصين) وكوسوفو. ولم يذهب أي منهم الى فلسطين. ان تلك نقطة مثيرة تماما للجدل ومعبأة بالألغاز لعدة أسباب:

* جنسية الداعية الأول للجهاد الأفغاني وانتماؤه، عبد الله عزام الفلسطيني الذي اشترك لبعض الوقت في المقاومة الفلسطينية بعد حرب 1967. ثم نذر الجزء الأخير من حياته بالكامل لقضية الأفغان ليس هو فقط، بل ومن معه.

* جنسية وانتماء «العرب» الذين تمت دعوتهم للجهاد في أفغانستان نفسا ومالا، والذين اختاروا طواعية السفر الى وسط آسيا بدلا من أن يفعلوا شيئا من أجل القضية المصيرية العربية الأولى التي رضعوا آلامها وتعبوا من معاناتها.

* ان القضية الأقدم والأعرق والأهم قوميا هي قضية فلسطين، وما تبعها في ذلك التوقيت من أحداث مهمة توجت بالانتفاضة الأولى في عام 1988. وما سبق ذلك من عمليات غزو اسرائيلية لجنوب لبنان.

* ان قضية فلسطين ذات أبعاد دينية مهمة جدا، لا تقتصر فقط على أنها صراع مع اليهود بكل ما لهذا الصراع من امتداد وخلفية عقيدية في الفقه والعقيدة الاسلامية، وانما تمتد كذلك الى أهمية القدس والمسجد الأقصى الدينية، أولى القبلتين وثالث الحرمين. لقد دعم هذا التناقض الرهيب والثغرة الهائلة في المنهج، الظنون التي ترى أن الشيخ عبد الله عزام، كان يقصد ذلك بالفعل في ضوء دعم الولايات المتحدة الكامل للجهاد الأفغاني واختراقها لصفوف وعقول من يدير هذا الجهاد. وشكك بالتالي في نقاء الأهداف المعلنة، والتي رفعت أقدس الشعارات الدينية بشرط أن يتم تطبيقها بعيدا هناك في أفغانستان. أفغانستان أولا لو أن الشيخ عبد الله عزام لم يكن فلسطينيا، ولو أنه لم يكن قد هب فجأة الى مهمة «الجهاد الأفغاني» بعد نحو 12 عاما من التوقف عن أي عمل حركي معلن، لكانت الشكوك قد خفت ولكانت الريبة قد زالت. صحيح أن له خلفية اخوانية، الا أنها اجمالا غير مؤثرة أو ملموسة، فضلا عن أنه لم يكن ضمن قيادة منظمة معروفة في أي تنظيم ديني طوال تلك السنوات التي سبقت هذا الحماس الرهيب منه لقضية أفغانستان. فهو كان مجرد أستاذ جامعي متخصص في الفقه بدون تاريخ بارز في الساحة التي تصدى لتصدرها. ولا يتنافى مع تلك القرينة كونه كان عضوا في جماعة الاخوان المسلمين الفلسطينية، ولا تثبت الوقائع التاريخية أنه من الذين كان لهم دور أساسي في هذه الجماعة. وقد كانت هذه النقيصة تطارد الشيخ عزام في كل مكان، وكان هو يلمس التناقض الذي عاب خطابه ومنهجه لا سيما أنه الرجل الذي اتبع فتوى حتمية الجهاد في أفغانستان باعتباره ـ كما رأى ـ واجبا على كل مسلم بفتوى أخرى عنوانها «الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان». في هذه الفتوى طرح عبد الله عزام على نفسه السؤال: «هل نبدأ بأفغانستان أم نبدأ بفلسطين؟». وبداية قال: «اذا اعتدي على شبر من أراضي المسلمين فان الجهاد يتعين على أهل تلك البقعة وعلى من قرب منهم. فان لم يكفوا أو قصروا أو تكاسلوا يتوسع فرض العين على من يليهم، ثم يتدرج فرض العين بالتوسع حتى يعم الأرض كلها شرقا وغربا» وبالتالي حسبما يرى: «ان اثم تقاعس جيلنا عن النفير في القضايا المعاصرة ـ كأفغانستان وفلسطين والفلبين وكشمير ولبنان وتشاد واريتريا ـ أشد من اثم سقوط الأراضي الاسلامية السابقة التي عاصرتها أجيال مضت، وكنا نقول يجب أن نركز جهودنا على أفغانستان وفلسطين الآن، لأنهما قضيتان مركزيتان، والعدو المحتل ماكر يحمل برنامجا توسعيا في المنطقة كلها، ولأن في حلهما حلا لكثير من القضايا في المنطقة الاسلامية كلها، وحمايتهما حماية للمنطقة كلها». (نقلا عن كتاب «الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الاعيان»). وبغض النظر عن أن عبد الله عزام كان يركز جهوده على أفغانستان وليس على فلسطين كما قال، وبغض النظر عن أنه ساوى في الأهمية بين القضيتين فضلا عن مساواته لهما بقضايا أخرى في الفلبين وكشمير، فان عبد الله عزام كان يرى دوما أن البداية الواجبة هي أفغانستان: «من استطاع من العرب أن يجاهد في فلسطين فعليه أن يبدأ بها، ومن لم يستطع فعليه أن يذهب الى أفغانستان. وأما بقية المسلمين فانني أرى أن يبدأوا جهادهم في أفغانستان. اننا نرى البدء بأفغانستان، لا لأنها أهم من فلسطين، بل فلسطين هي قضية الاسلام الأولى، وقلب العالم الاسلامي وهي الأرض المباركة». ولكن هناك أسبابا تجعل البدء بأفغانستان قبل فلسطين أولى منها، حسبما قال، وهي في رأيه:

* ان الراية في أفغانستان اسلامية واضحة، والغاية واضحة «لتكون كلمة الله هي العليا»، ولقد نص دستور اتحاد مجاهدي أفغانستان في المادة الثانية «ان الهدف من هذا الاتحاد هو اقامة دولة اسلامية في أفغانستان». وفي المادة الثالثة «ان هدفنا منبثق من قوله تعالى: «ان الحكم الا لله»، فالحاكمية المطلقة لرب العالمين».

* ان المعركة في أفغانستان ما زالت قائمة وعلى أشدها وتشهد ذرى «الهندكوش» ـ جبال معروفة بهذا الاسم ـ في أفغانستان معارك لم يشهد التاريخ الاسلامي عبر قرون كثيرة لها نظيرا.

* لقد سبق الاسلاميون غيرهم الى قيادة المعركة في أفغانستان، فالذين يقودون الجهاد في أفغانستان هم أبناء الحركة الاسلامية والعلماء وحفظة القرآن بينما الأمر مختلف في فلسطين. فلقد سبق الى القيادة أناس خلطاء منهم المسلم الصادق ومنهم الشيوعي ومنهم المسلم العادي ورفعوا راية الدولة العلمانية.

* ان القضية في أفغانستان ما زالت بيد المجاهدين، وما زالوا يرفضون المساعدة من الدول المشركة ـ حسب تعبيره ـ بينما اعتمدت الثورة الفلسطينية كليا على الاتحاد السوفياتي فتركتهم روسيا في أحلك الظروف يواجهون مصيرهم بأنفسهم أمام المؤامرة العالمية، وأصبحت القضية لعبة في يد الدول الكبرى تقامر على الأرض والشعب والعرض في فلسطين، بل تابعتهم فوق أرض الدول العربية حتى أنهت وجودهم العسكري وصفتهم جسديا وعسكريا.

* ان حدود أفغانستان مفتوحة أمام المجاهدين، فهناك أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر من الحدود المفتوحة، بالاضافة الى أن حول أفغانستان منطقة القبائل التى لا تخضع لسلطة سياسية، وهذه تشكل درعا حصينا للمجاهدين. أما بالنسبة لفلسطين فالأمر مختلف تماما، فالحدود مغلقة والأيدي موثقة وعيون المسؤولين متربصة بكل من حاول أن يخترق حدودهم لقتال اليهود.

* ثم ان شعبها فريد في صلابته وعزته، وكأن الله أعد جبالها وأرضها للجهاد. (يقصد أفغانستان). فلسطين.. في ما بعد لا شك أن هذه النقاط أو التبريرات الستة التي جعل عبد الله عزام بمقتضاها الجهاد في أفغانستان أولى من الجهاد في فلسطين، تكشف بوضوح عن دقائق رؤيته المليئة بالتناقض والتي بدا من خلالها أنه يؤجل قضية فلسطين الى الأبد، وأن له أغراضا أخرى مما يقوم به في أفغانستان. ومن الطبيعي أن نتوقف هنا لنسجل عدة ملاحظات على هذه الرؤية:

فأولا: تعبر النقطة الأولى، الخاصة بوضوح «راية الجهاد في أفغانستان»، عن أن الشيخ كان يرى أنه لا تحرير لأي أرض مغتصبة اذا لم يكن الهدف دينيا، وانه يمكن ترك الأرض مغتصبة اذا لم يعلن من البداية أنها ستكون محلا لاقامة أرض اسلامية، وهو أمر غريب. لكنه طبيعي في منهج تفكير الأصوليين، فالشعار عندهم أهم من الهدف. وكأنه اذا تم تحرير الأرض من المحتل بدون اقامة الحكومة الاسلامية كما يريدونها فان من الأفضل أن تبقى محتلة. ولا ينسينا هذا أن أولئك الذين رفعوا الشعار في دستور اتحاد مجاهدي أفغانستان لم يطبقوه بعد نهاية الجهاد وانما اختلفوا وتصارعوا ودب بينهم قتال لا يقل عنفا عن قتالهم للروس. ثانيا: ينعدم المنطق حين يتحدث عبد الله عزام عن ان «أفغانستان فيها معركة على أشدها وما زالت قائمة»، فالمعركة في فلسطين لم تهدأ، ولم تكن قد انتهت، ولعلها المعركة الأكثر نزفا للشهداء منذ زمن طويل وارتفعت سخونة أحداثها على مراحل مختلفة وأدت الى مجموعة كبيرة من الحروب الاقليمية بين العرب واسرائيل. ثم من قال ـ لو افترضنا صحة ذلك ـ ان معركة نائمة يجب أن تبقى كذلك، اذا كان الجهاد كما يصفه عبد الله عزام، فرض عين؟

ثالثا: ليس منطقيا تأجيل الجهاد في فلسطين لأن الذين يبادرون بالقيادة ليسوا من الحركة الاسلامية، ومعنى كلام الشيخ الراحل أنهم يريدون قيادة أي عمل من دون شريك كشرط لقيامهم بالجهاد، وبالتالي انعدام فرص التعاون مع أي أحد من التيارات الأخرى حتى لو كان الهدف وطنيا وعاما. رابعا: ليس صحيحا أن قضية أفغانستان كانت بمعزل عن دعم من تسمى بالدول المشركة، بل ان قضية أفغانستان كانت ساخنة أساسا لأن قائدة «الدول المشركة» ـ حسب مفاهيم جماعات التطرف ـ وهي الولايات المتحدة، هي التي قامت بجهد كبير لاستغلال القضية الأفغانية ودعمها ودعم المجاهدين ومن معهم تحقيقا للمصالح الأميركية. وفي مراحل أخرى كثيرة تحدث الاسلاميون عن قبولهم لهذا الدعم لاتفاق هدف المصلحة حتى يدرأوا عن أنفسهم القول بأنهم عملاء للولايات المتحدة. خامسا: تبدو نقطة الحديث عن الحدود المغلقة هي الأكثر منطقية، ولكن حتى هذه أثبتت الأيام عدم صدقها، اذ ان المقاومة الفلسطينية باتجاهاتها العديدة خاضت معركة من الداخل كانت، ولم تزل بمثابة العمل النضالي الجهادي العظيم الذي حقق ازعاجا كبيرا لاسرائيل بدون أن تفتح أي حدود، فالمقاومة تنبع من الداخل قبل الخارج في غالبية الأحيان. ومن هنا تكتسب كذلك جزءا كبيرا من مصداقيتها وشرعيتها. أما النقطة السادسة التي يتحدث فيها عبد الله عزام عن أن «جبال الهندكوش وأفغانستان تبدو وكأنها قد خلقت لهذا الجهاد، وعزة شعبها وصلابته»، فهذه نقطة مثيرة للخفة والاستخفاف، فهي فضلا عن أنها تعبر عن رؤية عبد الله عزام لصلاحية أرض دون أخرى للجهاد، فانها تنفي عن الشعب الفلسطيني عزته وصلابته، وهو مبرر يتجاهل تماما أن هذا الشعب العزيز الصلب «الأفغاني» هو نفسه الذي ظل على مدى سنوات طويلة تتوزعه ولاءات الدول وتبدلها بين القيادات والقبائل الأفغانية. وربما كان ذلك سر نكبته بعد انسحاب الروس. واجمالا، فان كل المبررات التي ساقها عبد الله عزام في فتواه تلك كانت تفسر: لماذا ذهب الى أفغانستان من وجهة نظره، لكنها لا توضح سببا أكيدا لتأجيل الجهاد في فلسطين. نظرية المسجد الآخر لكن هذه المبررات لم تكن لدفع حدة الانتقاد المستمر لعبد الله عزام في هذه الناحية، وقد ظلت الأسئلة تطارده من مكان لآخر، وأينما حل، وفي كل مرة كان الشيخ الراحل يضيف أمرا ما لكنه اجمالا بقي محصورا في حتمية أولوية الجهاد في أفغانستان. في احدى محاضراته في الكويت سئل عن هذا مجددا فقال: «الجواب عندي وعندكم، فالحدود مقفلة، والقيود في الأيادي، والعرب قد يقتلوننا قبل أن يقتلنا اليهود، أنا قاتلت في فلسطين 1969 ـ 1970، كنت مع المجاهدين، وبقينا حتى سحق العمل الفدائي في الأردن وأصبحت الرصاصة تودي بصاحبها، بحثنا عن بقعة أخرى نؤدي فيها فريضة الجهاد، واذا ما استطاع الانسان أن يقاتل في هذه البقعة ينتقل الى بقعة أخرى، أنا فلسطيني، وجرحها في أعماقي، وكل أحلامي وكل أمانيّ أن أنقل الصورة المشرقة التي شرف الله بها البشتونية فوق ذرى جبال الهندكوش الى جبال الخليل». وقد قيل له: يا شيخ عبد الله الصعوبات التي خلقت بعد عام 1970 لا تعني توقف الجهاد فوق الأرض العربية. الجهاد معناه أن الواحد يجاهد في سبيل الله ويموت في سبيل الله. الجهاد مستمر مهما كانت الصعوبات، ولا يتوقف اذا خلقت الظروف غير المواتية في سنة من السنين، ولا يعني هذا أن ننتقل على بعد خمسة آلاف كيلومتر؟

وكان يرد: «الجهاد مستمر، ولكنه ليس محصورا في بقعة واحدة، اذا هدم المسجد الذي بجانب بيتك لا يجوز لك أن تعطل صلاة الجمعة حتى تقيم مسجدا آخر، صل في مسجد آخر، ريثما تبني مسجدا جديدا، أنا أصلي في الأردن، أصلي في أفغانستان. الذي يقتل في أفغانستان يقتل شهيدا اذا كانت نيته الله عز وجل. الله لم يفرق بين عربي ولا أعجمي لا في كتابه ولا في سنة نبيه. نحن نظرتنا نظرة اسلامية وليست نظرة قومية أو علمانية. حيثما وجدنا بقعة نؤدي فيها هذه الفريضة يجب علينا أن نؤديها». ويعني مضمون هذا الكلام أن الشيخ لم يكن يستطيع اقناع أحد بوجهة نظره، فهو مرة يلجأ الى الأسلوب العاطفي: «فلسطين جرح في أعماقي»، ومرة يضع المسؤولية على العرب الخونة في رأيه «الحدود مقفلة»، و«قد يقتلوننا قبل أن يقتلنا اليهود»، ومرة ثالثة يلجأ لنظرية «هدم المسجد» غير المقنعة. اذ ما الذي يدفعه الى الصلاة في هذا المسجد البعيد، لماذا لا يختار مسجدا أقرب، لبنان مثلا. وقد كان يعاني من احتلال اسرائيل والمقاومة الفلسطينية تعاني من حصار رهيب بداخله في نفس توقيت بداية الجهاد الأفغاني؟

لكن الأمر الأهم هو أن كل كلام عبد الله عزام في هذه القضية المثيرة للجدل كان يعني بوضوح اعلاءه النظرة الاسلامية الدينية على النظرة القومية. وأنه حتى لو كتب له العمر في ما بعد لم يكن ليجاهد في فلسطين لو أنه رأى حتمية الجهاد في البوسنة أو الشيشان مثلا، وكان قد بدأ قبل مماته بالفعل بالحديث عن مأساة المسلمين في يوغوسلافيا وألبانيا. لقد كانت هذه النظرة الاسلامية الخاصة به والتي يؤجل بها الجهاد في فلسطين، تتكرر بوضوح في أحاديثه. وفي كاليفورنيا على سبيل المثال، سئل الشيخ عبد الله عزام مجددا: الجهاد الفلسطيني بدأ منذ أربعين سنة والجهاد الأفغاني بدأ منذ عشر سنوات، فكيف انتصر الأفغان ولم ينتصر الفلسطينيون، ثم بعد أن ينتصر المجاهدون الأفغان، وتقوم الحكومة الاسلامية، ما هي نظرتكم للجهاد في فلسطين؟

ان الشيخ الراحل يتحدث بداية عن نظرية التآمر العربي على فلسطين «كل الدول العربية سلمتها لليهود»، وحين يتغلب الشعب الفلسطيني، فان الدول الغربية تضغط على الدول العربية حتى تقبل الهدنة وخلالها يأتي السلاح والمال والرجال لليهود. ثم بعد أن يغرق الشيخ عبد الله سائله في فيض من المعلومات التاريخية حول قصة قضية فلسطين يقول: «أنا كنت أقاتل مع منظمة فتح في فلسطين، فصار خلاف بيني وبينهم فسألت المثقف الثوري، قلت: ما دين فتح؟ قال: فتح لا دين لها، فبقي الاسلام بعيدا عن المعركة في فلسطين. ومن هنا نحن لا نلوم الاسلام لأن الاسلام بقي بعيدا عن المعركة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.