وداعاً لعالم جليل: الدكتور محمد بالوالي ومسيرة علمية خالدة

  • بتاريخ : 29 نوفمبر، 2024 - 11:40
  • الزيارات : 337
  • الدكتور محمد بشاري – ريحانة برس

    في صبيحة يوم الخميس الموافق 28 نوفمبر 2024، ودّعت الأمة الإسلامية أحد أعلامها البارزين، العالم والفقيه الدكتور محمد بالوالي، الذي كانت حياته مشعلاً من العلم والنور في مدينة وجدة، القلب النابض للثقافة والعلم في شرق المغرب. لقد كان الدكتور بالوالي مثالاً للعالم الرباني الذي جمع بين الأصالة والمعاصرة، واستطاع أن يحافظ على هوية مدينته وتراثها الروحي والعلمي وسط تيارات فكرية متضاربة وغريبة عن بيئتها الأصيلة.

     

    مدينة وجدة: بيئة علمية وروحية أصيلة

     

    مدينة وجدة، التي نشأ فيها الفقيد، كانت دائماً حاضنة للعلماء والمفكرين، ومتمسكة بثوابتها الصوفية السلوكية، والعقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي. هذه البيئة الفريدة شكّلت أرضية خصبة لنشأة علماء جمعوا بين التقاليد الراسخة والانفتاح على التجديد. الدكتور محمد بالوالي كان أحد هؤلاء العلماء الذين سخروا علمهم لخدمة الدين والوطن، فكان رمزاً من رموز هذه المدينة التي أضاءت سماء العلم في المغرب.

     

    مسيرة علمية حافلة

     

    الدكتور محمد بالوالي وُلد عام 1945 بمدينة تاوريرت، لكنه اختار مدينة وجدة لتكون موطن عطائه العلمي والروحي. حصل على دكتوراه الدولة في علم القراءات، وشهادات عليا في الحديث والتفسير وعلومهما من دار الحديث الحسنية، إلى جانب شهادات أخرى من المدرسة العليا للأساتذة. هذا الزخم العلمي جعله مرجعاً في علم القراءات والحديث، وكان له دور ريادي في ترسيخ العلوم الشرعية في المنطقة.

     

    من أبرز مؤلفاته:

    • الاختيار في القراءات والرسم والضبط: مرجع مهم للباحثين في علوم القرآن.

    • الوقف والابتداء وعلاقتهما بالقرآن الكريم: دراسة فريدة تُبرز جماليات النص القرآني.

    • تحقيق كتاب الإيضاح لما ينبهم عن الورى في قراءة عالم أم القرى: نموذج لتحقيق التراث الإسلامي وإحيائه.

     

    مكانة رفيعة وتقدير ملكي

     

    نال الدكتور بالوالي شرف التكريم من أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، حيث حصل على جائزة محمد السادس لأهل القرآن لعام 1439 هـ في حفل إحياء ليلة القدر المباركة بمسجد حسان بالرباط. هذا التكريم يعكس مدى تقدير الأمة لعلمه وعطائه، فقد كان يمثل نموذجاً للعالم الذي يجمع بين العلم والعمل، وبين الإخلاص لله وخدمة المجتمع.

     

    في زمن اضطراب المفاهيم: ثبات العلماء

     

    تأتي وفاة الدكتور محمد بالوالي في زمن يتسم باضطراب المفاهيم وظهور تيارات فكرية تسعى لزعزعة الهوية الثقافية والدينية للمجتمعات الإسلامية. كان الفقيد، رحمه الله، سداً منيعاً أمام هذه التيارات، حيث دافع عن ثوابت الأمة بأسلوب علمي رصين ومنهجية متزنة. بصفته رئيساً للمجلس العلمي المحلي بتاوريرت، كان يسعى لتوجيه الشباب نحو الفهم الصحيح للدين وتحصينهم من الانحراف الفكري.

     

    ذكريات شخصية: لقاءات لا تُنسى

     

    لقد عرفت الدكتور محمد بالوالي شخصياً من خلال لقاءات عديدة في مؤتمرات علمية مثل مؤتمرات جامعة الصحوة الإسلامية التي نظمتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية. كان الفقيد مثالاً للعالم المتواضع، يستمع للجميع ويشارك بعلمه دون تردد. كلماته كانت دائماً تفيض بالحكمة والنصح، وكان يُلهم الحاضرين بحبه للعلم وعمله الدؤوب لنشر المعرفة.

     

    وفاة العلماء: فقدان الأمة لرصيدها العلمي

     

    إن وفاة العلماء في زمننا هذا ليست مجرد رحيل لأفراد، بل هي خسارة للأمة جمعاء. فالعالم يمثل نبراساً يهدي الناس إلى الحق والصواب، وعندما يغيب، تفتقد الأمة مصدراً للعلم والنور. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.”

     

    رحيل الدكتور محمد بالوالي يترك فراغاً كبيراً في ساحة العلم والدعوة، لكن إرثه العلمي سيظل باقياً، يستفيد منه طلاب العلم والباحثون، ويذكره به الجميع بفضل الله.

     

    رسالة عزاء وأمل

     

    نتقدم بخالص العزاء إلى أسرة الفقيد الصغيرة والكبيرة، وإلى مدينة وجدة التي فقدت علماً من أعلامها، وإلى كل من نهل من علمه واستفاد من توجيهاته. نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يجعل علمه شفيعاً له يوم القيامة. ونأمل أن تُواصل الأجيال القادمة السير على خطاه، متمسكة بالثوابت ومعتمدة على الاجتهاد العلمي لمواجهة تحديات العصر.

     

    خاتمة: إرث خالد

     

    يبقى الدكتور محمد بالوالي نموذجاً يُحتذى به، علماً وخلقاً ومنهجاً. لقد كان حياته رسالةً في العطاء والبذل من أجل دينه ووطنه، ورحيله دعوة لنا جميعاً لنواصل البناء على إرثه العلمي، محافظين على ثوابتنا، ومنفتحين على مستجدات عصرنا بعلم وحكمة.

     

    رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

    الدكتور محمد بشاري

    امين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة