1 ــ الأولى: تتعلق بالمنظومة الثقافية العربية والإسلامية التي تمثل المرجعية المباشرة لمعظم الفئات الاجتماعية أفرادا وجماعات سواء تعلق الأمر على المستوى
في إطار الحديث عن هيئات المجتمع المدني لابد من الحديث على فرضيتين:
1 ــ الأولى: تتعلق بالمنظومة الثقافية العربية والإسلامية التي تمثل المرجعية المباشرة لمعظم الفئات الاجتماعية أفرادا وجماعات سواء تعلق الأمر على المستوى السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي، والإشارة إلى المنظومة الثقافية العربية الإسلامية هنا ليس الهدف منها تبيان أنها متعارضة مع فكرة النظام الديمقراطي باعتبارها نظاما وأسلوبا للحكم يقوم على المشاركة السياسية في صناعة القرار وتعدد القوى والتبادل السلمي للسلطة، ولكن الهدف من ذلك هو الربط بينها وبين مسألة المجتمع المدني، في إطار ما يمكن تسميته الليبرالية والحريات العامة، وباعتبار هذا المنطلق هناك بالفعل تصادم بين تلك المنظومة الثقافية وفكرة الأسقف المفتوحة للحريات والحقوق في إطار التكوينات الاجتماعية ذات الصلة بفكرة المجتمع المدني ومفهومه في المنظومة الغربية.
2 ــ النقطة الثانية: هي الطبقة الوسطى وعلاقتها بالمجتمع المدني ومدى استقلاليتها عن الدولة أو قدرتها على أحداث متغيرات في بنية مفهوم ما يسمى بالمجتمع المدني، القائم والمتداول حاليا في البلدان العربية باتجاه مفهوم وبنية أشمل وأعم يمكن أن تأخذ مسمى المجتمع الأهلي، لكن قبل هذا وذاك لابد من إلقاء نظرة على المجتمع المدني كمفهوم غربي ليس بالإسلامي ويعود في جذوره إلى ما يسمى بعصر النهضة الأوروبية، وارتباطه بالأفكار ذات الصلة وبخاصة أفكار نظرية العقد الاجتماعي لمجموعة من الفلاسفة كجان جاك روسو، وهوبز، وأطروحاتهما ووصولا إلى الثورة الفرنسية وصعود البرجوازية الغربية في القرن الثامن عشر، ومرورا بالتطورات في القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين. (انظر “نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدني في الفكر الغربي الحديث” لسعيد بنسعيد العلوي).
وعلى الرغم من انتشار مفهوم جمعيات المجتمع المدني في الدراسات الإستشراقية وحتى العربية إلا أن هناك تفاوتا في تحديد العناصر والقوى التي يتشكل منها ما يسمى بالمجتمع المدني، وقد جاء في بعض تعريفاتها على أنها المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة، منها أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني والقومي، ويقول ستيفن فيش: إن مفهومي للمجتمع المدني هو أنه مقيد على نحو معقول، انه يستبعد الجماعات والأحداث المتعصبة والتي تسعى إلى السيطرة على الدولة وحكمها حصرا انه يرتكز على الاستقلالية، وعن طريقها مستبعدا تلك المجموعات التي تتداخل والدولة، وبما يشتمل على الاتحادات الطوعية التي تعمل في إطار النطاق العام، فانه يستبعد كل المجموعات التي إما أن تكون ضيقة أو محدودة الأفق أو تقوم على معايير انتسابية أساسية، واتحادات العمال ومجموعات المصالح وكثير من أنواع أخرى من المنظمات الطوعية بما في ذلك تلك التي لاتتضمن بالضرورة أهدافا ليبرالية أو لا تتحكم بحكم داخلي ديمقراطي. (Russia’s fountain p: 91 .42 m . Steven tish)
وهناك من يرى بأن ما يميز المجتمع المدني، ليس فقط استقلاليته عن الدولة، وإنما كذلك عن المجتمع السياسي، وهو ما يعني في جوهره النظام الحزبي كما يقول لاري دايموند: “إن شبكات التنظيمات في المجتمع المدني يمكن أن تشكل تحالفات مع الأحزاب، لكن إذا ما هيمنت عليها الأحزاب فإنها تفقد وضع نشاطها الأساسي في المجتمع وتفقد بالتالي التعريفات معظم قدراتها على أن تقوم بأداء الوظائف الفريدة من التوسط وتعزيز الديمقراطية”.
قلت وهذه أقرب التعريفات لقوى المجتمع المدني في الأنظمة الغربية المعاصرة فهي كل النقابات والاتحادات والجمعيات والحركات التي تقع بين الفرد والدولة، في الوقت نفسه تصل وتلعب دور الوساطة بين الفرد والسلطة وتحميه من السيطرة السياسية الشاملة، ومن هنا نجد أن هيئات المجتمع المدني ليس فقط أساسية لتحديد تموقع الحياة السياسية بل تذهب إلى أنها تقوم على تكوينات أولية، والانتماء إليها يؤسس التنوع والتعدد ومنع الهيمنة والتسلط .
ذا كان هناك تنوع واختلاف في تحديد المجتمع المدني من حيث العناصر والقوى الداخلية فيه وكذا الخارجية عنه فان هناك من يضع عدة شروط كحد أدنى بتوفر صفة “المدني” أو “الأهلي” لأي مجتمع كان أو للتفريق بين مجتمع مدني آخر، ذلك أن وجود المنظمات والجمعيات والحركات وكذلك توفر قيود على الممارسة الاعتباطية لسلطة الدولة، تشكل الحد الأدنى لتوفير صفة ” المدني ” لأي مجتمع، وكذلك طبيعة الحياة التكاملية والتسامح في إطار التنوع والتعددية بمختلف أصنافها هدف رئيسي من اجل القيام بالمهام الديمقراطية وسيادة روح القيم السياسية الديمقراطية داخل التكوينات المدنية دون أحداث أي انقسامات أو مفارقات، لان الغاية من المجتمع المدني هي التوعية والوساطة بين السلطة والمجتمع فعلى هذا النحو أو ذاك، يراد له أن يقوم بأدوار أساسية ذات مضامين ديمقراطية تتراوح بين الحد من سلطة الدولة وتعزيز المشاركة السياسية، وتجميع وتنمية المصالح وتدريب القيادات وتعزيز القيم الديمقراطية واختراق وربط المجموعات المتضادة ونشر المعلومات والمساهمة في الإصلاح الاقتصادي من خلال الحوار الاجتماعي واقتراحات اليد العاملة والنهوض بقطاع الخدمات والمرافق الاجتماعية والمساهمة في تعزيز التبادل بين الحكومة أو “الدولة” وبين مختلف التكوينات الاجتماعية الفرعية “المجتمع المدني”، وهذا التنافر والتباعد بين الدولة والمجتمع المدني من شانه تكريس التخلف والقطيعة مع التقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بمعنى أن الأمة حين تفوض مهمة اتخاذ القرار إلى أجهزة الدولة لا تتخلى عن حقها في ممارسة مهامها من خلال هيئات المجتمع المدني ومن خلال مجالات التعليم والتثقيف والتنظيم … بشكل مباشر، فقد يحق لمؤسسات الدولة أن تشارك في حمل نصيبها من هذه المسؤوليات والمهام، والقيام بدور ريادي من خلال تحفيز البحث العلمي وتطوير منظومة التعليم والقدرات التقنية والفنية.
بيد أن جهود الهيئات الحكومية يجب أن لا تؤدي في المقابل إلى إلغاء دور المؤسسات الأهلية والشعبية، دون مبرر شرعي واضح، ودون الرجوع إلى رأي القاعدة العريضة من أبناء الأمة، ومن هنا نجد أن هيئات المجتمع المدني عبر تاريخ دخولها للعالم العربي في صيغتها الجديدة وهي تحافظ بحقها في إدارة شؤونها التعليمية والتصنيعية فتم إدارة المدارس والجامعات والنقابات المهنية من قبل مؤسسات شعبية ومستقلة عن الدولة، واعتمدت هذه المؤسسات على المساهمات المالية للأفراد وجهات غير حكومية، واعتمدت مؤسسات “الوقف” أو “الأحباس” أو غيرها من المسميات على حسب الخارطة العربية على دعم المشاريع التعليمية وبناء المستشفيات والإنفاق على طلبة العلم، وتوفير مساكنهم ومرتباتهم وهكذا، فان الدور المتميز الذي لعبته المؤسسات الأهلية، بل كان مكملا له، وتبرز أهمية على المبادرات الخاصة ومؤسسات المجتمع المدني من اعتبارات عديدة في مقدمتها، إلى حماية المبادرات الفردية والجهود التعاونية الأهلية يحول دون تشكيل عقلية اللامبالاة المتمثلة عادة في الافتقار إلى الشعور بالمسؤولية تجاه هموم الأمة وتحدياتها بين المواطنين.
1 ــ تلعب مؤسسات المجتمع المدني دوارا مهما في تهيئة الأقلية والوسائل الضرورية للقيام بنشاط مجتمعي تعاوني بين أبناء الأمة، والحيلولة دون استبداد وتسلط السلطة، فالمؤسسات المدنية والأهلية تقوم وفق هذا المعطى، بدور الوسيط الذي يعبئ الأفراد، ويمنحهم الفرصة للتمرس بالعمل الجمعوي، والقدرة على الوقوف في وجه أي محاولة لتكريس السلطة وتمركز الدولة من اجل خدمة مصالح الفئة الحاكمة، بمعنى أن اتحادات النقابات المهنية والمؤسسات الثقافية والتعليمية والتجارية والحقوقية، يمكنها المبادرة إلى تنسيق جهودها وتعبئة أعضائها لاتخاذ موقف موحد في وجه محاولات بعض الجهات توظيف مؤسسات الدولة لخدمة أغراض لا تتفق مع المصلحة العامة للأمة، سواء تعلق الأمر بالمستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، فأهمية مؤسسات المجتمع المدني هي ربط الجمهور وتوحيد فعلهم هذا الذي يدفع بالنخبة المستبدة إلى تدمير هذه المؤسسات والبنى، وحصر البنى التنظيمية في أجهزة الدولة المركزية، لسلب أفراد الشعب القدرة على الفعل الجمعوي من خلال التسلط واحتكار القرار، وفي المقابل لا يعني شرعية هيئات المجتمع المدني في الدفاع عن مصالح الأمة وتخويلها سن القوانين والأنظمة المتعلقة بصيرورة الدولة ومستقبلها فوظيفتها متعلقة بحفظ الحقوق ومصالح المواطنين، والتي يمكن أن نجملها في هذه، التعاون الأمني في حفظ الثغور وحوزة الوطن ومحاربة الفساد والجرائم من خلال الكلمة والتوعية ومنع العدوان والحيلولة دون البغي وفتح قنوات الحوار والفكر المسؤول، ورعاية المحتاجين وتشجيع الإبداع والتعليم وبناية المؤسسات الخيرية.
2- التكافل الاجتماعي من خلال إعانة الفئات المعوزة والمحتاجة ذات الدخل المتدني، أو العاطلة عن العمل، وتامين فرص متكافئة للعمل والعلم والنمو والتطور بين مختلف فئات المجتمع وتحفيز الطلبة من خلال دعمهم في الأبحاث وتوفير الأدوات التقنية لذلك والمساهمة الفعلية في إصلاح المجتمع والجانحين في السجون والمعتقلات…
3- التكامل الاقتصادي وذلك باقتراح سياسات اقتصادية تؤدي إلى الاستثمار الأمثل للموارد البشرية، وتطوير القدرات التقنية والإنتاجية..
4- التضامن الحقوقي من محاربة للظلم وتحقيق عدالة قانونية، ومنع التجاوزات التي يمكن أن تحدث، كذلك نرى أن من حق هيئات المجتمع المدني الحق في تقرير كافة القضايا المتعلقة بمصلحة الأمة وغاياتها، وتأسيس المعطيات والأفكار الضرورية لتنفيذ الحق في تقرير كافة القضايا المتعلقة القرارات المتخذة، ويحق للمؤسسات التصرف ضمن المهمة المحددة لها في قرار التأسيس، وبالتالي فان كافة القوانين الشرعية أو الوضعية تسمح لمؤسسات المجتمع المدني بتطوير آليات السياسة العامة للدولة من خلال العمل على صياغة وتصورات واتخاذ قرارات مناسبة في قضايا مستجدة، كما لها الحق في مراقبة عمل الدولة والمؤسسات التنفيذية التابعة لها، لضمان قيامها ومهامها وفق الصورة المحددة لها في القانون واتخاذ الإجراءات اللازمة لكشف وتصحيح التجاوزات ومتابعة كافة المتغيرات السياسية داخل الدولة وخارجها، واتخاذ مواقف مناسبة تجاهها، ومشاركة القيادة التنفيذية مسؤولية النجاح أو الإخفاق في القيام بواجباتها ومسؤولياتها، فابتعاد الفرد الفاعل عن القيادة يؤدي إلى غياب الرقابة الشعبية عن ممارسة القيادة، ويحرم الدولة من آليات التصحيح، كما يجب إشراك هيئات المجتمع المدني في تطوير القواعد العامة للسياسة التعليمية والتثقيفية والخارجية والاقتصادية، بمعنى: أن المبادرات التنفيذية يجب أن تتحدد بناء على قوانين وقرارات تصدرها هيئات المجتمع المدني باعتبارها ممثلة لمختلف قطاعات الأمة وكذلك العمل على مبادرات من قبيل الإنعاش الاقتصادي والتخطيط للاستفادة من الإمكانيات وتشجيع المشاريع الصناعية والتجارية الجادة من خلال بلورة مقترحات كما هو الحاصل في المغرب في المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وإن كان بنفس حكومي، كما نرى أن تفرد السلطة في العمل في كل المجالات يعود في تقديرنا إلى ضعف هيئات المجتمع المدني وانبثاقها عن ظروف بيئية غير معيارية أو ارتباطها بأجهزة الدولة.
إن قضية هيئات المجتمع المدني التي نحن في صدد مناقشتها لابد فيها من إطار ومنهاج تجديدي وكذلك ضرورة استنادها لفقه الواقع وطبيعة المجتمعات وهويتها التاريخية، بحيث تعد رؤية أهم السمات التي تتميز بها المنطقة العربية ونظمها ومجتمعاتها المعاصرة، خطوة أساسية تتوفر في العمل من اجل الدور المنوط بالهيئات المجتمعية على طريق استقاء الحكم الأساسي لها بما يتلاءم واعتبار الواقع و فقه، بحيث نجد أن هناك عدة معطيات من أجل العمل الطوعي داخل هذه المجتمعات ولا يمكن القفز عليها والمتمثلة في تضخم فئة اللامبالاة السلبية، أو غير المهتمين، بينما هناك ندرة إلى حد كبير في الطاقات مما يضعنا أمام إشكالات حقيقية في شرائح المجتمع وبالتالي صعوبة اختيار الطاقات وكذا القضايا التي يمكن أن تكون آلية للنقاش والنضال المجتمعي، وهذا في تقديري يرجع بالخصوص إلى البنية الفكرية الاستهلاكية والتي تنبهر بالغرب وقيمه أكثر من معرفة قيم المجتمعات العربية نفسها، ناهيك عن نسبة الهشاشة المتمدرسة وانتشار الأمية بكل مستوياتها وعدم الوعي، وعدم توفر الحد الأدنى للكفاف الاقتصادي والنضج الاجتماعي، وميل المواطن العادي لتحاشي السلطة وتجنب الاصطدام بها.
في مقابل ذلك، أدت سلوكات المخزن ومجموعة من الممارسات السلطوية في الواقع السياسي على جعل الاهتمام بقضايا الجمعيات المدنية شكلي وغير منتج، فضلا عن شيوع نظم المبدأ الواحد والبديل الواحد وموسمية العمل وهذا يرجع بالخصوص إلى تلك الانحرافات في عملية اختيار القضايا التي لها ارتباط بهموم المواطن العربي وتأثيرها على عيشه ومحيطه اليومي وان هذه الجمعيات والهيئات المدنية أصبحت تغرد خارج سرب المواطنين وهمومهم دون الإجابة على سؤال المرحلة، حول الأسباب الأساسية الكامنة، لا مجرد التركيز على مجموعة من الأسباب الوسطية والثانوية، وترك السبب الأصيل، فغياب المجتمع المدني داخل المنظومة المجتمعية العربية ساهم في غياب وجود شبكة من المؤسسات التي تتوسط الفرد والدولة، ولقد كان هذا الغياب الاجتماعي هو الذي أبدع أو هيأ المناخ للاستبداد والتحكم السلطوي على مستوى أجهزة الحكم، الذي كان الفرد في ظله يجد نفسه عبدا للسطوة ومعرض بشكل مقنن للمستبد والمتسلط وبالتالي كانت النتيجة الحتمية، فشل البنى الثقافية والسياسية والاقتصادية وتكريس التبعية بكل تجلياتها، وغياب حتى الديمقراطية، وبالتالي كانت حتمية هذا التوجه أن تفرز الربيع العربي الذي علا صوته كاسرا جدار الغطرسة والاستبداد تريد الحرية والحرية والحرية!
الاستبداد والتسلط في العرق السياسي هو ذلك الشرخ بين الفرد والدولة، لان في ظل التسلط يكون الفرد معرضا كليا لسطوة الحاكم أو الطاغية، لأنه لا توجد قناة اجتماعية في الوسط، وبالذات الهيئات المدنية والتي تقوم بدور الرقابة أحيانا بين الحاكم والمحكوم وبالتالي يكون الفرد والمجتمع ضحية نزوة تسلطية لا ترقب في مؤمن إلا ولا ذمة، وحيث يكون غياب المجتمع المدني أو إنتاجيته أقل تطورا، يكون الإكراه السياسي والإرهاب الفكري للأفراد هو أساس حكم الحاكم والمستبد، بدلا من التوافق والتلاؤم الإيديولوجي المميز للمؤسسات الاستبدادية والسياسات الإقطاعية، وحتى داخل النظام الديمقراطي نجد هناك حكم الأغلبية القائم على نظام حق الاقتراع العام، يمكن أن يؤدي إلى إجماع عقيم عظيم الخطر على الفردية وحقوق الأفراد ومن هنا كان لزاما على تجديد آليات المجتمع المدني، لان الرقابة الوحيدة ضد استبداد الأغلبية الديمقراطية، هو من خلال مجتمع مدني قوي يحمي الفرد من غلو وسيطرة الأغلبية، وحماية التنوع والاختلاف الثقافي والتعدد السياسي.
بدون وجود هيئات مجتمعية قادرة على لعب الوساطة وليس الوصاية في المفهوم الديمقراطي الغربي بين الفرد والدولة، فإننا سنصل إلى ذلك الجمود الاجتماعي وباختصار فالمشكلة اليوم في العالم العربي هي غياب المجتمع المدني الذي يعمل على مواجهة قوة الدولة المستبدة على حساب الفرد المعزول، فكانت النتيجة ثورات على الأنظمة الاستبدادية ومحاولة إسقاطها لأنها أصبحت وجها لوجه مع الفرد المقهور تحت ضغط الواقع المادي، وان كانت بعض الأنظمة الاستبدادية الذكية قد لجأت منذ حين إلى وساطة المجتمع المدني فيما بينها وبين الفرد، لكن سرعان ما يذوب جبل الجليد ويكشف عوار هذه الهيئات، التي تأتمر بأمر هذه الدول وتنتهي بنهيها، لأنها جيوش وجيوب للقوى التسلطية وليست ممثلة للشعب المقهور، لأن هذه السلط المتجبرة، أدركت أن ضمير الفرد يمثل تهديدا للاستقرار ولعروش ورئاسيات الاستبداد بكل أنواعه وتجلياته، وثم كان لزاما بإعادة القراءة في مؤسسات المجتمع المدني وتقويمها.
إن الوضع القانوني الراهن لمؤسسات المجتمع المدني لا يقوم على أساس من قواعد الشرعية الأممية بقدر ما يقوم على أسس مادية وضعية، سواء كان هذا الوضع ميراثا من الداخل أو تقليدا خارجا صرفا دون مراعاة الإنسان وبيئة الإنسان ومجتمع هذا الإنسان، وكذلك نرى ضرورة مناسبة البناء المؤسساتي للواقع وضوابطه في ضوء تفعيله من جهة، ومفعوله وفاعليته، إذ تختلف الظروف والأحوال وتتغير الأولويات مما يتطلب وضع بناءات مؤسسية تستجيب لتلك الظروف ملتزمة بأصول الاجتهاد النظامي الشرعي، مع عدم إغفال ما قد يكتنف هذا الاجتهاد النظامي من احتمال الخطأ، وهو أمر يمكن تداركه من خلال القراءة الواعية لمتطلبات المجتمع العربي وخصوصيته الإسلامية، وثقافته المحافظة، وكذلك نرى ضرورة المراجعة المرتبطة على مستوى الحركة الفعلية لها بعد التكوين ومدى تحقيقها لوظائفها وبلوغها للمقاصد الشرعية بما يشكل عملية مراقبة فعالة مستمرة للحركة.
إن استمرارية مؤسسات، وربط غياب المجتمع المدني في مفاهيم الدولة الإسلامية، أنتج تخلف في التنمية الاقتصادية ناهيك عن الاستبداد السياسي، لأن أفكار الحقوق السياسية والعقد الاجتماعي ليس لها مؤسسات تدعمها، بحيث ينظر بعض المستشرقين إلى غياب هيئات المجتمع الأهلي داخل فلسفة الدولة الإسلامية بوصفها حكرا على البلاد، بحيث أصبح مفهوم المجتمع المدني أساس الاقتصاد الرمزي، بحيث اعتمدت الفلسفة السياسية العربية على أهمية المجتمع المدني في الحفاظ على حرية الفرد من السيطرة العشوائية للدولة، بحيث أن حماية الفرد في النظام السياسي الإسلامي هو ركيزة أساسية، في صيانة حقوق المجتمع والرقي به نحو تكريس العدالة الاجتماعية والنمو الطبيعي للإنسان الفرد، من أجل إنتاج الإنسان المجتمع، بحيث يمارس هذا الفرد ويضطلع بدوره السياسي في الأمة، ولاشك أن هذه المعطيات والتصورات الأساسية السابقة لابد وأن تعكس قيمها التي تتضمنها في توجيه العملية السياسية وطبيعة حركتها في الواقع العربي المعاصر، وتعبر عن استجابة متميزة على المستوى النظري والحركي لقوى المجتمع المدني بحيث في ظل قاعدة التساند والتكامل بين الفكر والنظم والحركة تبدو لاستجابة كعملية مركبة بحيث تقدم الرؤية الإسلامية في النسق القياسي فضلا عن الإطار التحليلي المتعلق به مجموعة من الإسهامات في تقويم مختلف الجوانب سواء على مستوى التأسيس أو النقد التحليلي فضلا عن تقويم واقع الممارسة ذاتها.
إن اليوم أكثر من أي وقت مضى، أضحى المجتمع المدني داخل رقعة العالم العربي في حاجة إلى قطيعة مع مفاهيم المجتمع المدني الغربي والاستشراقي، خصوصا بعد هبوب رياح “الربيع العربي”، التي أدت إلى زلزلة قواعد الفكر الغربي مما أبرز إعادة النظر في كثير من الثوابت التي أسس لها المجتمع المدني واضحي البحث من جديد عن معالم النظام السياسي بشكل عام، واحدا من المهم الملحة الملقاة على عاتق المفكر المعاصر نتيجة لبروز متغيرات جديدة، كما أدى تصدر بعض الملتحين في شكل حكومات داخل الوطن العربي إلى دخول معطيات جديدة في دائرة وعيهم أثرت بالغا في تطورات المنطقة المسلمة على امتداد الوطن العربي والإسلامي وتمحورت مواقف المفكرات العربية المعاصرة حول توجهات ثلاثة:
ـ اتخذ التوجه الأول إلى تبني معطيات التجربة المدنية الغربية بحذافيرها، واستبطان الفكر الغربي بكافة جوانبه، والرفض المطلق للتراث الفكري الإسلامي.
ـ بينما تحدد الوجه الثاني: في الدعوة إلى إعادة صياغة الحياة الأهلية المدنية وفق نموذج المدرسة التقليدية واعتبار النظريات الأهلية التي طورها فقهاء السياسة في القرن الرابع هي الأساس المرجعي والصياغة النهائية للقواعد المعيارية والبنية التأطيرية للفعل السياسي.
وأما التوجه الثالث: فينحوا إلى الجهود الرامية إلى إدخال تعديلات على النظيرة الأهلية في المفهوم الإسلامي التاريخي لجعلها أكثر استجابة للمتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة اليوم في عالم المادة والعولمة والحداثة…بيد أن هذه التعديلات اتصفت بالتوفيق غير المنضبط لعناصر منتقاة من النموذج الغربي وأخرى مستمدة من التراث الإسلامي، بمعنى أن التعديلات المقترحة تفتقر إلى القاعدة النظرية المتماسكة كما تفتقد إلى التأطير المطرد، ومن هنا كان لزاما من وجود حلول آنية تواكب التغيير وتحرتك الهوية الإسلامية انطلاقا من المشروع الإسلامي، وتلافي القصور المنهجي للتنظير المعاصر، والتأصيل لنظام سياسي أهلي يعتمد المعيار الإسلامي ويؤطر له في محيط اجتماعي وسياسي مختلف في بنيته ومتطلباته عن المجتمع الذي واكب بروز الفقه السياسي في تاريخ الفكر الإسلامي، ولأن إعادة التنظير تتطلب عملية تفكيك وتركيب، فان البحث الحالي لا يكتفي برسم معالم نظام سياسي انطلاقا من نصوص منفكة عن محيطها الاجتماعي والسياسي، بل يعتمد إلى دراسة المشاكل والمعضلات الاجتماعية والخصوصيات البيئية بغية عزل العام عن الخاص واستخلاص قواعد تروم مأسسة المجتمع المدني بنفس إسلامي، لان تجاهل الأساس المقصدي للبنية السياسية، والاقتصار على تحليل وظائفها، يؤدي إلى انحرافات فاحشة في فهم العلاقة بين بين مبدأ الأهلي وتطبيقاته في المجتمع العربي المعاصر، وإلى خلط بين القاعدة العامة في التنزيل، والتجليات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، المخصوصة بالظرف الاجتماعي، والتقني في مرحلة معينة من تطور الأمة التاريخي.
من ناحية أخرى، نلاحظ أن عدم التمييز بين الفعل الأهلي ذي الطبيعة الغربية والاستشراقية الخاصة، والقاعدة الكلية العامة التي تحكم العمل الأهلي المدني وتوجهه، أدى إلى قبول بعض المنظرين الاجتماعيين والسياسيين على درجة عالية من المعرفة بالمجتمع الأهلي وقضاياه السياسية لممارسات تنظيرية أفرزتها أوضاع تاريخية خاصة، وإعطائها صفة العموم واللزوم رغم تعارضها مع خصوصيات المجتمعات العربية الإسلامية، كقضايا الشذوذ الجنسي والفكري (العلمانية) وغيرها، والسؤال الذي يعترضنا هنا هو التالي: ألا تنضوي الدعوة إلى تطوير نموذج عام وتحديد المبادئ الكلية للنظام السياسي على خطر انفكاك النظيرة الحاصلة عن ملابسات الواقع العملي لهيئات المجتمع المدني والاهلي وبالتالي النزوع إلى المثالية الاستشراقية التي تقدم نماذج غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع؟
للإجابة هنا: يجب التفريق بدءا بين المثالية الاستشراقية والمثالية الهوياتية (يعني النظرية التقليدية في النظام السياسي الإسلامي) إذ تتجلى المثالية الاستشراقية في تطوير منظومة من الأفكار المبنية على مسلمات لم تخضع تاريخيا للتجربة العملية أو لا تتفق مع المعطيات الاجتماعية والنفسية للمجتمعات العربية والمسلمة، ولعل ابرز الأمثلة على الفكر المثالي الغربي والاستشراقي: النظام الاهلي و السياسي الذي جاء به الفيلسوف الإغريقي أفلاطون في كتابه ” الجمهورية ” فبعد أن قسم المجتمع الى ثلاث طبقات متمايزة، تتخصص الثانية في الشؤون والقضايا الأمنية والعسكرية وتتولى مهمة الدفاع عن الدولة ضد أعدائها، بينما تتكفل الطبقة الثالثة، والتي تشكل أغلبية السكان في العمل الإنتاجي من زراعة وصناعة وخدمات أهلية عامة ويتابع أفلاطون تنظيره الطوباوي فيقرر حرمان الطبقة الحاكمة آصرة الزواج، داعيا إلى إبقاء العلاقات بين الجنسين مفتوحة، بحيث يمنع أفراد هذه الطبقة من إنشاء أسر واتخاذ أطفال وذرية، ويعلل أفلاطون هذا بالاحتكام إلى الضرورة السياسية، فإلغاء مؤسسة الزواج في صفوف الطبقة الحاكمة في رأيه إجراء لابد من حصوله للحيلولة دون انقسام هذه الأسرة إلى أسر صغيرة، وما يتبع من هذا حصول احتكار السلطة في إحداها، وبالتالي إلغاء التقسيم التخصصي لمهمات المجتمع ووظائفه، ويعلل كذلك هذا الأمر بالحظر على أبناء الطبقة الحاكمة حق الملكية الخاصة خشية افتتان الحكام بالثروة، والعكوف على جمعها والاستمتاع بها، واستخدام إمكانياتهم السلطوية لانتزاع أموال الشعب واستغلال خيرات البلاد لتحقيق مآرب خاصة وبما أن الواقع الأهلي والسياسي اليوم لأغلب المجتمعات الإسلامية والعربية قد تم تشكيله وفق النموذج الغربي، فان دعاة الفكر الارتهاني هم من قيادات الفكرة الغربية أو التغريبية، فلا بد للأمة الإسلامية اليوم وقياداتها الفكرية والسياسية من رفض منهج الارتهان وتبني منهج المثالية وذلك لاعتبارين:
أحداهما: أن قبول النهج الواقعي الاستشراقي الارتهاني التغريبي في التعامل مع القضايا الاجتماعية والسياسية يعني تكريس الوضع الراهن للعالم الإسلامي، وهو وضع يتصف بالفوضى السياسية وتغليب التسلط على التعقل والقهر والتغلب على الحرية و المساواة، بدليل ما نراه اليوم من ثورات أسقطت تيجان السطوة والتسلط نابذة ولو بشكل نسبي مفاهيم الاستيلاب الثقافي والاقتصادي.
ثانيا: أن تبني منظومة من القواعد والمبادئ الكلية والعمل لتحقيقها في ارض الواقع هو عمل يتصف بماهية بالطوباوية، إلا أن تبني نهجا مثاليا لا يعني استنساخ التجربة الغربية الطوباوية المتعارضة في أسسها ومقاصدها مع معطيات الوحي والهوية الإنسانية الإسلامية.
ومن هنا نرى أن تبني قواعد للعمل المدني والأهلي وحتى السياسي اليوم، لابد فيها من عدم تجاهل المعطيات التاريخية والنفسية للخبرة الإنسانية الإسلامية خلال عملها الاجتماعي، بل تعمد إلى تطوير منظومة أهلية من خلال: الأنا والنحن، وتحاول استيعاب التطبيق بالرجوع إلى أسسه المبدئية وبالتالي عدم القيود الوجودية التي تحدد إمكانية وحدود تطبيق النموذج على أرض الواقع، كما تتفادى تفريط الواقعية الارتهانية التي تتعامى عن أهمية المثال في تطوير الواقع وتحسينه.
من هذا المنظور، فإن التوجه الأهلي من المنظومة الاسلامية، لا يرى العلاقة بين النموذج السياسي والأهلي وتجلياته التاريخية على أنها علاقة أحادية ينعكس عبرها التطبيق الاستشراقي التغريبي للمثال بحذافيره، أو ينبثق خلالها النموذج بكامله من التجربة الاستشراقية بل لا يعتبرها علاقة جديلة ليتم عبرها وخلالها تطوير الواقع ليقارب الهوياتية التاريخانية، بل لابد من تعديل النموذج بناء على معطيات التجربة ودروسها وخصائصها البيئية وتجلياتها الاجتهادية.
وعليه ختاما فإننا لا نرى مانعا من العمل الأهلي، بل نراه حتما وضرورة لصياغة المناهج السياسية انطلاقا من المشروع الإسلامي: الذي هو اليوم في حاجة إلى شمولية مفهومه حتى تعود الأمة إلى دولة الإنسان في عالميتها وفي عدالتها ومساواتها لكل الأعراق والإثنيات والتجليات، الثقافية والسياسية والاقتصادية.