بين يدي هذا المقال من الضروري توضيح قضية مهمة؛ تتمثّل في إدراك مدى خشية الإسلاميين من تحوّل الحديث عن “أخطاء الإخوان” في المرحلة الماضية في مصر إلى
د. محمد أبو رمان –
بين يدي هذا المقال من الضروري توضيح قضية مهمة؛ تتمثّل في إدراك مدى خشية الإسلاميين من تحوّل الحديث عن “أخطاء الإخوان” في المرحلة الماضية في مصر إلى “شمّاعة” تستخدم لتبرير ما حدث في مصر من تدخل الجيش وتعطّل المسلسل الديمقراطي، وسلسلة الإجراءات والسياسات التعسّفية بحق الجماعة والتيار الرافض لذلك، وهي بالضرورة من وجهة نظري مرفوضة، ومضرّة تماماً بالمسار الديمقراطي، وكان الخيار السليم الصحّي هو انتظار الانتخابات النيابية بضعة أشهر، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
مع الإقرار بذلك، إلاّ أنّه من الضروري أن يتزاوج ويتوازى موقف الإخوان في الدفاع عن الشرعية مع عملية “النقد الذاتي” المطلوبة، لأنّ هذا بحد ذاته بمثابة “رسالة مهمة” وضرورية للأطراف السياسية المختلفة، بأنّ الجماعة تعلّمت من أخطائها، التي وقعت فيها، ما ساهم في جرّ الجميع إلى المربعات الحالية، وسهّل عملية الاقتحام العسكرية لأروقة اللعبة الديمقراطية.
مثل هذا النقد الصريح الواضح يطمئن الآخرين بأنّ المرحلة القادمة ستشهد تحولاً في خطاب الجماعة وممارستها، ليس على الصعيد المصري فحسب، بل العربي عموماً.
يطرح بعض الإخوان السؤال بصيغة معكوسة؛ أي لماذا الحديث عن أخطاء الإخوان، طالما أنّ هنالك سيناريو معدّا سلفاً للإطاحة بهم، وإفشالهم، والتآمر عليهم، داخلياً وإقليمياً، وهو مسلسل بدأ في مصر، ويمتد اليوم إلى تونس وليبيا، ودول أخرى؟..
ربما يكمن الجواب الأفضل على هذا السؤال عبر سؤال آخر؛ وهو إلى أيّ مدى ساهمت أخطاء الإخوان في تسهيل مهمة الجيش وخصومهم في الانقضاض على العملية الديمقراطية بأسرها، واستثمار الأجواء السياسية التي خلقتها فترة حكم الرئيس مرسي في تعبئة الشارع والإعلام والقوى المختلفة ضد الجماعة، وإيجاد مبرّرات أمام المجتمع الدولي للإطاحة بالرئيس؟ فهل كان الأمر سيبدو على الحالة نفسها لو فرضنا أنّ الإخوان لم يتورّطوا في استلام الحكم في المرحلة الانتقالية، وتركوا جزءاً كبيراً من “الكعكة السياسية” (بعبارة أدق المصيدة السياسية) لشركاء آخرين من القوى المختلفة؟!
ربما هذا يقودنا إلى الذريعة الثالثة التي تستخدم للتقليل من أهمية “النقد الذاتي” والمراجعات، وتتمثّل بالقول بأنّ الجميع يخطئ، وأنّ الإخوان غير معصومين، ولا يدّعون ذلك، وهل هنالك حاكم أو حكومة لا يخطئان؟! بالطبع الجواب: لا، الكل نعم يخطئ، والفشل والنجاح مسألتان نسبيتان، لكن الحديث عن الخطأ في ظروف المرحلة الانتقالية وخصوصيتها وطبيعته الدقيقة والخطرة، ليس كالخطأ في الأنظمة الدكتاتورية أو الديمقراطية المستقرة، فالخطأ هنا أقرب إلى الخطيئة، وتترتّب عليه تبعات على الجميع، قد تؤدي إلى تغيير المسار كاملاً، وهو ما حدث فعلاً مع الإخوان في المرحلة السابقة، هذا أولاً.
أمّا ثانياً، فترتبط بخصوصية الحركات الإسلامية وبرنامجها السياسي، إذ أنّ هنالك مخاوف مسبقة كامنة منها ومن برنامجها، بوصفها قوى تتبنّى المرجعية والهوية الإسلامية، وهي مخاوف تسكن التيارات العلمانية والأقليات الأخرى، وتمسّ قلقهم بما يتجاوز اللعبة السياسية إلى أسلوب الحياة وحرياتهم الفردية والعامة، وخسارة مكتسباتهم “العلمانية” السابقة؛ وهي مخاوف كان من المفترض أن تتفهّمها جماعة الإخوان وتتجنّب الوقوع في “رسائل خاطئة” تعزّزها، وهو ما يضاعف من حجم التأويل لكل خطوة أو كلمة تصدر عن الإسلاميين ويضخّم فاتورتها السياسية والإعلامية.
على الصعيد الأردني؛ تبدو المراجعة المطلوبة للمرحلة السابقة والتفكير النقدي فيها، مع عدم التخلّي عن دعم الشقيقة المصرية، أكثر إلحاحاً وضرورة، ويتمثّل ذلك بأهمية أن يعزل الإخوان معادلتهم الداخلية وعلاقتهم بالدولة عما جرى في مصر، وأيضاً تقديم رسائل سياسية للأطراف الأخرى في المعادلة الداخلية، والأهم من هذا وذاك أنّ يتجنب “إخواننا” أنفسهم الوقوع بما وقع فيه إخوان مصر، وأن يستفيدوا من التجربة المصرية إيجابياً، ويطوّروا خطابهم على هذه القاعدة النقدية المهمة.
إذاً يمثّل هذا المقال محاولة أوّلية لاستكشاف بعض الأخطاء التي وقعت فيها الجماعة في مصر، وترسيم معالم “الممارسة النقدية” لدى إخوان الأردن، بما يخدم مسارهم وخطابهم الإصلاحي والوطني..
1- بماذا أخطأ الإخوان؟
يحتّج بعض الإخوة والأصدقاء، وربما القراء، على تكرار عبارة “أخطاء الإخوان في الحكم”، ويرون فيها ظلماً وجوراً على حكم الرئيس مرسي، الذي (برأيهم) تعرّض لمؤامرة من الداخل والخارج، وتمّ إفشاله وتأليب الرأي العام عليه، والعمل على إسقاطه عبر العسكر.
قد يكون جزء كبير من هذا صحيح، لكنه لا يعني -في المقابل- أنّ الجماعة والرئيس محمد مرسي لم يرتكبوا أخطاءً، بل إن عدم تقدير مثل هذه الجهود المعادية للإخوان والثورة المضادة والقوى الأخرى، بحد ذاته بمثابة “سوء تقدير” موقف، وهو الخطأ الكبير الذي وقع فيه الإخوان!
ربما التساؤل الذي سيقفز إلى أذهان كثير منكم الآن: كيف كان يمكن أن ينجح الرئيس أو الإخوان وسط هذا الحجم من العداء والخصومة من داخل “السيستم” ومن خارجه ومن أنصار النظام السابق..، وكيف يمكن تحميل الرجل مسؤولية دور الآخرين من جهة، وتراكمات سابقة من جهة أخرى تجعل من أي عملية إصلاح طويلة الأمد تحتاج إلى وقت طويل؟
الجواب بأنّ المشكلة الكبرى التي وقع فيها الإخوان، أو كلمة السرّ لما حدث، تتمثّل بـ”المرحلة الانتقالية”، وهي مرحلة لا هي بالدكتاتورية ولا بالديمقراطية، أي هي جسر العبور والانتقال نحو ديمقراطيات مستقرة وتوطيدها، مع مرور الوقت، وهي في الوقت نفسه مرحلة، كما تنبئنا الثورات العالمية في التاريخ، في غاية الدقة والخطورة، قد تؤدي على المدى القصير إلى نتائج عكسية مضادة، وما يترتب على أخطائها هي كوارث كبيرة!
الخطأ الرئيسي للجماعة يتمثّل بأنّها تعاملت مع المشهد المصري، وكأنّها أمام ديمقراطية ناجزة أو مستقرة، يحتكم الناس فيها إلى “صناديق الاقتراع”، والتنافسية السياسية، وهذا بالضرورة غير صحيح، فالمرحلة التأسيسية تحتاج إلى “توافق” عام، لا إلى مغالبة عبر الصناديق، وتحكم بالتنسيق والتفاهم لا بـ”الأغلبيات”، وكان من المفترض أن تصرّ الجماعة على ألا تسير إلا مع شركاء آخرين يداً بيد، حتى تتجنب أن تواجه وحدها المنعرجات العديدة في هذه المرحلة.
على النقيض من ذلك؛ حرص الإخوان على تحقيق أكبر قدر من القوة والنفوذ في الانتخابات التشريعية، وبعد أن كانت الجماعة قد أعلنت عدم نيّتها تقديم مرشّح رئاسي، عادت لترشّح خيرت الشاطر، ثم محمد مرسي، وبعثت بذلك رسائل غير مطمئنة للقوى السياسية الأخرى بأنّها تريد الهيمنة على النظام السياسي الجديد، أو ما يسميّه الباحثون شهوة الإخوان إلى “التمكين السياسي”، وهي المرحلة التي طال انتظارها لدى أجيال الجماعة، منذ عقود طويلة.
يعزّز من هذه الدعوى، أنّ النظام المصري السابق، انهار، ووقعت الثورة والاقتصاد المصري في وضع كارثي، من زاوية العجز والمديونية، وما هو أهم من ذلك إمكانية النهضة والتغيير والإعمار، فنسبة الأميّة مرتفعة، والخدمات مترديّة، والضغوط السكانية في أوجها، وأيّ خطة استراتيجية تحتاج إلى وقت طويل وكاف، حتى تبدأ نتائجها الإيجابية بالظهور، مع وجود “سقف توقعات” مرتفع لدى الشارع من الثورات، ما كان يفترض معه بأن تتجنّب قيادة الجماعة الوقوع في “فخ الحكم” وحدها خلال الفترة القصيرة.
كان يفترض بالجماعة، أيضاً، أن تدرك أنّ الثورة وإن قضت على رأس النظام لم تقض على أطرافه، التي بقيت فاعلة وبقوة، والمسألة أكثر أهمية وعمقاً في المعادلة المصرية تحديداً، إذ أنّ المركز البيروقراطي كبير جداً وعريض، والمؤسسات التي ارتبطت بحكم الرئيس مبارك، وتشابكت مصالحها مع النظام السابق هي مؤسسات واسعة وعريضة، وربما من يضع يده على هذه النقطة بعمق هو الباحث الأميركي، ناثان براون، الذي يرى أنّ المشكلة في مصر لا تتمثل فقط بـ”الدولة العميقة”، كما درج الباحثون والخبراء على القول، بل أيضاً بـ”الدولة الواسعة- العريضة”، إذ إنّ كل مؤسسة من المؤسسات المصرية بمثابة دولة قائمة بذاتها، تشكّلت لها صورة وسلطة خلال العقود الماضية، وأصبح النظام المصري أشبه بالجزر أو ما يطلق عليه “البلقنة” المؤسساتية والسلطوية، ومن الطبيعي أنّ هذه المؤسسات لن تتقبل بسهولة أن تفرض عليها إرادة حزب أو جماعة دفعة واحدة، وتحتاج إلى وقت طويل متدرج، للقيام بالإصلاحات الإدارية المطلوبة.
بدلاً من مراعاة هذه الظروف والحيثيات التي تشكّل محكّاً للنجاح والفشل؛ ماذا حدث؟..
بدا الأمر، أيّا كانت المبرّرات، بأنّ الجماعة تريد أن تفرض هيمنتها على الدولة، عبر الأغلبية البرلمانية والرئاسة، ودخلت في صراع مع القوى الأخرى على لجنة كتابة الدستور، وعلى العديد من الصلاحيات والسلطات مثل الإعلان الدستوري، واصطدمت بالإعلام والقضاء والفنانين ونخبة واسعة من الكتاب والمثقفين والأكاديميين، بل وخسرت تياراً واسعاً من هذه النخبة المهمة والفاعلة في المجتمع المصري، وجزء كبير منها كان يدافع عن الجماعة في العهود السابقة، أيّ أنّ الجماعة فشلت في الصورة الإعلامية واصطدمت بأغلب “القوى الناعمة” في المجتمع.
الاستئثار بالحكم هو الانطباع السائد لدى تيار سياسي واسع، سواء كان صحيحاً أم خاطئاً، سواء عززته دعاية إعلامية سياسية أم جزء كبير منه واقعي، المهم أنّ هذا هو الانطباع وهو أقوى من الحقيقة، ومع دخول مرسي في صدامات وصراعات مع القوى السياسية الأخرى، ومع المركز البيروقراطي والأمني، تعطّلت مصالح الناس وتراجعت، وبدأت الدولة تعمل ضد الرجل والجماعة، حتى تمكّنت خلال الأشهر الماضية من التأليب عليه والتلاعب بعقول شريحة واسعة من الناس والتخويف من الجماعة ومشروعها، وتعبئة جزء كبير من الشارع بانتظار اللحظة المناسبة.
المشكلة الأخرى، وهي على درجة من الأهمية، تتمثل في أنّ الجماعة تورّطت في صراع على قاعدة الإسلامي- العلماني، وعزز دخول التيار السلفي من فوبيا الأقليات المسيحية والقوى العلمانية، واختلط الحابل بالنابل لدى الجمهور ورجال الأعمال والنخب ما بين خطاب الإخوان والتيار السلفي، بل تقاطع الخطابان في كثير من الأوقات، وتورّط الإخوان في خلط الناس ما بين الأجندة الاجتماعية والثقافية للسلفيين وبين مشروعهم السياسي!
***
هذه الأخطاء لم تكن الجماعة لتقع فيها لولا أنّ هنالك عوامل داخل الجماعة دفعت بهذا الاتجاه، وعزّزت من هذا التوجّه وسهّلت مهمة الخصوم، ويتمثّل أول هذه العوامل بأنّ الجماعة لم تكن مؤهلة لمرحلة الحكم السياسي، فهي عاشت العقود الماضية تحت وطأة السجون والاعتقالات والتعذيب والنفي والعمل السرّي والمطاردات، ونشأت كوادرها ونمت أفكارها في ظل هذه الظروف، فلم يكن الانتقال إلى العلن والعمل السياسي المكشوف والإعلام المنفتح ومواقع السلطة بالأمر الطبيعي لكوادرها وثقافتها السياسية العملية، فظلّت تعمل في ثوب التنظيم لا الدولة، ما ولّد قناعات لدى أطراف أخرى في الملعب السياسي بأنّ الإخوان يريدون وضع الدولة في عباءة الجماعة.
بالضرورة تمتلك الجماعة أكبر خزّان سياسي للطاقات التكنوقراطية البشرية، لكنّها تفتقد في المقابل إلى النخبة السياسية المحترفة، وربما إذا كانت هذه النخبة موجودة فهي مهمّشة ليست صاحبة اليد الطولى، تعاني من تداخل الجماعة بالحزب وهيمنة القيادة التنظيمية على القرار السياسي (كما سيأتي لاحقاً)، وهذا ما يفسّر خروج مجموعة من الشباب الناشطين، الذين ساهموا في تأسيس الجماعة في نهاية السبعينيات وتطوير نشاطها السياسي والنقابي.
على النقيض من ذلك أمسك التيار التنظيمي الداخلي الحديدي بمقاليد الأمور، وهو التيار الأكثر تشدداً وميلاً إلى الانغلاق تقليدياً، وقاد الجماعة في هذه الفترة التي كانت تحتاج إلى قيادة براغماتية واقعية تمتلك لغة سياسية محترفة، قادرة على إدراك تضاريس المرحلة الانتقالية ومنعرجاتها ومخاطرها.
تعاملت الجماعة مع وصول الرئيس مرسي وكأنّها هي الحاكم الفعلي في مصر، لا الرئيس نفسه، وبالرغم من أنّ الرئيس عيّن عدداً من المستشارين إلا أن أغلبهم استقال لاحقاً احتجاجاً على عدم الاهتمام برأيه، وينقل عدد من السياسيين المصريين قصصاً صارخة عن تدخل مكتب الإرشاد في شؤون الحكم بصورة مباشرة وواضحة، وهي الملاحظة التي أخبرني بها مسؤول عسكري كبير في مصر، خلال فترة حكم مرسي عندما قال لي “نحن كمؤسسات نقبل أن نحكم برئيس منتخب، حتى وإن كان من الإخوان المسلمين، لكن لا تستطيع هذه المؤسسات أن تتحمل بأن تحكم عبر مكتب الإرشاد”!
2- معالم المراجعة النقدية المطلوبة
إلى الآن تتمثّل ردود الفعل الأوّلية لدى الجماعة في الدفاع الشرس عن إخوان مصر والرئيس مرسي تحت بند رفض الانقلاب وعودة الشرعية السياسية، وربما التصريح الأبرز ردّاً على أي حديث عن مراجعة نقدية للجماعة صدر عن المراقب العام للجماعة، بتأكيده على عدم الحاجة إلى مراجعة لأفكار الجماعة ومسارها، طالما أنّ ما حدث هو انقلاب عسكري على الشرعية والديمقراطية!
صحيح أنّ جزءاً من الأخطاء تتحمّلها الجماعة، وجزءاً آخر يمثّل سيناريو محكماً التف حول عنقها، شاركت فيه أطراف داخلية وخارجية متعددة؛ لكن على الصعيد الأول، واستناداً إلى الأخطاء السابقة؛ فمن الضروري أن تقرأ الجماعة التجربة المصرية قراءة نقدية لتجنّب الانزلاقات والإخفاقات، أو بعبارة أدق للتحضير بصورة جيّدة للمستقبل واستحقاقاته القادمة؟..
جزء رئيس من العملية النقدية مطروح في الفقرات السابقة نفسها؛ بمعنى أنّ إدراك أخطاء الإخوان في الحكم كفيل بحد ذاته باجتراح جوانب النقد الذاتي المطلوبة؛ لكنّ إذا كان من الضروري أن نؤسّس “القراءة النقدية” على قاعدة صلبة ترتّب الأولويات وتقدّم تصوّراً متكاملاً للنقد الذاتي، فإنّ الجملة المفتاحية بضرورة وأهمية الفصل ما بين الدعوي والسياسي، أو بين الجماعة والحزب، أسوة بالتجربة المغاربية المتقدّمة في هذا المجال.
التمييز بين الدعوي والسياسي والجماعة والحزب في غاية الأهمية والضرورة، فهو:
(أولاً) يؤطّر التمايز بين الحقلين الديني والسياسي، وليس بالضرورة الفصل بينهما (وهنا أستخدم عبارة الدكتور سعد الدين العثماني- أحد قادة حزب العدالة والتنمية في المغرب).
و(ثانياً) يحرّر الحزب من القيود المختلفة، ويعطيه فرصة سانحة ومساحة واسعة في العمل والمناورات والاستقلالية.
و(ثالثاً) يخلق فواصل مهمة بين الحقلين المدني والسياسي بصورة واضحة، فتقع الجماعة باهتماماتها وأولوياتها في المجال المجتمعي والخدماتي والوعظى خارج سياق الصراع السياسي مباشرةً، بينما الحزب يهتم بدرجة رئيسة في الجانب السياسي وتطوير خطابه وبناء نخبة سياسية متميزة محترفة.
ربما يقودنا ذلك إلى الفرق بين التجربة المغاربية والمشرقية، وهي وإن بدت في المرحلة الانتقالية عبر قدر أكبر من البراغماتية السياسية لدى المغاربة وعمق أكثر في قراءة طبيعة المرحلة الانتقالية وشروطها وصعوباتها، إلاّ أنّ الاختلاف أكثر تجذراً وعمقاً من ذلك ويعود إلى الجانب الأيديولوجي والفكري نفسه، أو حتى إلى جانب الفقه السياسي، ويمكن ملاحظة هذه الفروق الدقيقة والمهمة من خلال قراءة الورقة المذهبية للعدالة والتنمية أو كتاب الدكتور سعد الدين العثماني “الدين والسياسة تمييز لا فصل”، إذ يكشف عن وعي مبكّر بضرورة التمييز بين الجانبين الديني والسياسي، والدعوي والحزبي، والتحول من خطاب الهوية (الذي هيمن على الإسلاميين المشارقة في شعاراتهم وبرامجهم) إلى المرجعية أو ما يسميه العثماني بتدبير الشأن العام، والاهتمام بشؤون التنمية والمجتمع والاقتصاد بدرجة كبيرة من سؤال الهوية، الذي يتحول في البرنامج السياسي إلى “قضية مرجعية”، أو مبادئ عامة موجّهة، لا أكثر لحزب مدني سياسي، كما يصف نفسه.
يتأسس، إذاً، على فصل الدعوي عن السياسي، أو بعبارة أخرى يتأسس فصل الدعوي عن السياسي على قاعدة فقهية وفكرية رصينة متينة تؤسس لعمل سياسي محترف مستقل، يقوم على الاهتمام بدرجة رئيسة بقضايا المواطنة والإصلاح والتنمية والاقتصاد والمجتمع، وفق أجندة لحزب مدني واضح في أطروحاته، كما يصرّ العدالة والتنمية بالقول “نحن حزب مدني لا ديني”، وحتى يقطع الحزب الطريق يتخلّى تماماً عن شعارات الإسلاميين المشارقة، أي الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، حتى في الاسم لا يضع عنواناً إسلامياً عن قصد، وكرسالة سياسية واضحة.
ينعكس ذلك، في استلهام التجربة المغاربية، على صعيد البنية التنظيمية ذاتها للحزب، التي تكون مرتبطة بالعمل السياسي وبرنامجه السياسي والاقتصادي، وشعاراته والقيادات التي تتولّى إدارة الأزمة والصراع السياسي الداخلي والخارجي.
يقول سعد الدين العثماني موضّحاً أهمية وتداعيات هذا التمييز “ومن تطبيقات ذلك أن الحزب قام مبكرا باختيار عدم الجمع بين مهام الخطابة والوعظ والانتماء إلى هيئاته المسئولة على كل المستويات وذلك قبل سنة 2002. كما قرر عدم ترشيحهم في الانتخابات منذ الانتخابات التشريعية لنفس السنة، أي منذ ثاني انتخابات يخوضها في انطلاقته الجديدة، وانطلق في ذلك من اعتبار أنهم يشرفون على مؤسسات دينية يجب أن تظل ملكا لجميع المغاربة، وألا تكون حكرا على حزب سياسي معين أو تستغل لصالحه.
ومن تطبيقات ذلك أيضا أن الحزب معني بتوسيع عضويته ضمن الكفاءات والمتخصصين المؤهلين لمتابعة مختلف الملفات السياسية والذين يمكن أن يسهموا في تدبير الشأن العام المحلي أو الوطني، وهو ما بذل فيه الحزب جهودا مقدرة لا تزال في حاجة إلى دعم وتطوير”.
بالضرورة ثمّة مساهمات فكرية وأطروحات شبيهة لدى الإسلاميين المشارقة، وإخوان الأردن، لما طرحه العثماني، لكنّ الفرق أنّها هنالك أصبحت هي المراجع المعتمدة والمنهج الذي يحكم الحركة الإسلامية، بينما في الأردن ما تزال العلاقة بين الجماعة والحزب متداخلة، وما تزال الأطروحات المدنية ضعيفة، والاهتمام بالشأن الاقتصادي والتنموي البرامجي ضامر..
في الخلاصات..
ما حدث في مصر يمثّل نقطة تحول مهمة في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة، وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين، وبالضرورة فإنّ تداعيات ذلك ستكون كبيرة على الجماعة، لكن في المقابل المطلوب هو عدم الارتهان لذلك، بل التحرّك على مستويات متعددة لقراءة ما حدث في التجربة المصرية على صعيد الأيديولوجيا ومسار الجماعة العام، وأيضاً على صعيد الحركة في الأردن ومستقبلها وما هو مطلوب منها في المرحلة القادمة..
الإخوان على مفترق طرق، فإمّا الاستسلام لمنطق الصدام والصراع والأزمات وتحميل المسؤولية على شمّاعة الآخرين، وإمّا الإفادة والعظة والحكمة من الأحداث الجارية، لتجنّب الوقوع في أخطاء مشابهة والنظر إلى المستقبل برؤية إيجابية.
وإذا كان الإسلاميون يحتجون بالتجربة التركية كدلالة على التطوّر والتطوير في الخطاب والممارسة، فإنّ هذه التجربة لم تولد من فراغ، كما تعرفون، بل جاءت بعد مخاضات فكرية وحركية عديدة، أسفرت عن جنوح التيار الإصلاحي نحو خطاب منفتح براغماتي واقعي إلى أقصى مدى، ولم ينقلب الإسلاميون الأتراك إلى العمل المسلّح والعنف أو الصدام بعد كل عملية انقلاب، بل كانوا يستثمرون ذلك لتطوير رؤيتهم ولمزيد من الإصرار على كسر الحلقات المفرغة.
“ربّ ضارّة نافعة”، ولعل ما حدث في مصر يكون محطّة مهمة لتطوير خطاب الحركة الإسلامية وممارستها، عبر النقد الذاتي والتطوير، والتكيف مع التحديات الجديدة، طالما أنّ خيار الصدام والعنف تمت تجربته وذقنا مرارته، ولم يأتِ بخير لا للإسلاميين ولا للمجتمعات العربية، بل هو أفضل استثمار لعسكرة الحياة السياسية العربية.