نظرية نظام الحكم السياسي لدى الفقهاء والمتكلمين – دراسة فقهية نقدية – (الحلقة الأولى)

  • بتاريخ : 14 أكتوبر، 2022 - 13:18
  • الزيارات : 29
  • الشيخ عبد الكريم مطيع – فايسبوك

    مدخل وتمهيد : انتقاض عُرَى الحكمِ لدى المسلمين.  

    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وبعد:   

    فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا وقد أقام للإسلام بنيانه متكاملا، وشيد له أركانه متراصة، ووثق له عراه متماسكة مترابطة عروة عروة، وترك فينا الدين جامعا، عقيدة وسياسة واقتصادا وحصانة وتحصينا ودفعا ومدافعة، في الفرد والمجتمع، شأنا عاما وأمرا منتظما في عروة وثقى كبرى وشاملة قال عنها الحق تعالى:{قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة 256، وقال:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} لقمان 22. عروة وثقى جامعة هي الإسلام دينا قيما وصراطا مستقيما لا يزيغ عنه إلا هالك، قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَام} آل عمران 19، وقال{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران 85، وقد حرص صلى الله عليه وسلم على تبليغه تاما واضح المعالم متماسكا، ثم حذر من انتقاض بنيانه وانهدام أركانه، وأرشد إلى سبيلٍ يرضاه الله تعالى لرَتْقِ ما قد ينتقض من عراه وإعادة تشييد ما قد ينهدم من حصونه، فقال صلى الله عليه وسلم:( إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)[ ] ، ثم زاد البيان بيانا فقال عليه الصلاة والسلام: (لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتُقِضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ)[ ]. ومعناه أن هذه العرى التي انتظمت في عروة وثقى واحدة جامعة هي الإسلام، سوف يبدأ انتقاضها وتفككها وعدم العمل بها واحدة بعد أخرى، بدءا بالتخلي عن عروة نظام الحكم فينهدم بنيانه، ويستبدل بنظم أخرى غيره، ثم تنحل العرى الأخرى متتابعة واحدة بعد الأخرى، إلى أن تكون الصلاة آخر ما ينقض من الإسلام فتترك أو تؤدى على غير حقيقتها.

    وهذا الحديثِ الشريف ليس مجرد علامة مِن علاماتِ النُّبوَّةِ فقط إذ أخبَر بما وقع ويقع من يوم وفاته صلـى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وإنما هو تذكير بأن الإفساد والفساد يكون بنقض بناء نظام الحكم وعروته، والإصلاح حتما يكون بإعادة رتق العرى المنتقضة وبناء ما انهدم من الحصون على ما أسست عليه أول مرة من صلاح وانصلاح وإصلاح على يد رسول الله صلـى الله عليه وسلم ثم خيار الصحابة رضـي الله عنهم بعد وفاته، بما شرحته في دراستي السابقة المنشورة بعنوان “الخلاقة الراشدة الأولى نشأة وتجربة”، وقبل أن ينقلب عليها معاوية بن أبي سفيان ويحولها ملكا عضوضا بقوة السيف، ثم يجعلها ملوكية وراثية على رغم تحذير الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضـي الله عنهم من ذلك وعدم عملهم بها، حتى إذا استتب له الملك رغب بتخليد السلطة في أسرته تقليدا لنظم الفرس والروم في شرق الجزيرة وشمالها، فقرر أن يأخذ البيعة لولده يزيد بحد السيف وكتب إلى مروان بن الحكم عامله على المدينة كتاب البيعة وأمره أن يقرأه على المسلمين في المسجد، ففعل مروان ما أمر به وبرر معقبا بأن هذه البيعة (سُنَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ رضي الله عنهما). فلم يكد يفرغ حتى نهض عبد الرحمن بن أبي بكر وقال: “أهِرَقْلِيَّة ؟ ! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده”[ ]. ثم استمرت مسيره الملك الجبري الوراثي الأموي بعد معاوية على هذا النهج إلى أن سقطت دولته على يد العباسيين وساروا بسيرته سيوفا في أيمانهم ودرهما ودينارا في شمائلهم، وخيار العلماء يجأرون بالنصح فيبتلون صابرين، إلى أن ظهر فقه الفلاسفة المسلمين في محاولاتهم التخلص من الاستبداد الملوكي بالتراث اليوناني مما شرحناه في الدراسة السابق نشْرُها بعنوان:”الفكر السياسي ونظرية الحكم لدى فلاسفة المسلمين”، ثم ظهر فيما بعد ما أطلق عليه فقه “الأحكام السلطانية” على يد الفقهاء والمتكلمين وفي مقدمتهم القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوَردي (364 – 450 هـ / 974 – 1058 م) أكبر قضاة آخر الدولة العباسية، وكتابه:”الأحكام السلطانية والولايات الدينية”، ومعاصره القاضي الحنبلي ابن الفراء، أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف المتوفى سنة 458هـ، وكتابه “الأحكام السلطانية”؛ حينئذ تميز الفقه السياسي المصنف لدى المسلمين، وسار على نهجه وبمصطلحاته فقهاؤه ومتكلموه إلى عصر الصحوة المعاصرة، وقادة صحواتها وحركاتها الدعوية والسياسية من أمثال: رفاعة الطهطاوي (1216- 1290 هـ / 1801 -1873م)، وجمال الدين الأفغاني (1254 – 1314 هـ / 1838 – 1897 م) و محمد عبده (1266 – 1323 هـ / 1849 – 1905 م)،و عبد الرحمن الكواكبي (1271 – 1320 هـ / 1855 – 1902 م)، ومحمد رشيد رضا (1282 – 1354 هـ / 1865 – 1935 م)، والدكتور عبد الرزاق السنهوري كبير خبراء القانون المدني في عصره (1312 – 1391 هـ / 1895 – 1971 م)، ثم الشيخ حسن بن أحمد البنا الساعاتي في مصر(1324هـ – 1368ه/1906م-1949م) مؤسس حركة الإخوان المسلمين عقب سقوط الحكم العثماني في تركيا، ثم الشيخ القاضي تقي الدين بن إبراهيم بن مصطفى بن إسماعيل النبهاني في فلسطين (1332هـ-1398هـ/ 1914م – 1977م) مؤسس حزب التحرير الإسلامي وصاحب أول محاولة لإعادة صياغة فقه الماوردي في دستور معاصر بعنوان: (مشروع دستور لدولة الخلافة التي يسعى إليها حزب التحرير).

        ثم بعد أن عجز هذا الفقه السلطاني عن مسايرة تطور الأنظمة السياسية الديمقراطية في الغرب، انطلق مفكروه المعاصرون إلى محاولة جديدة من أجل “دَمَقْرَطَةِ” الفقه السلطاني، باستعارة مصطلحات النظم الديمقراطية وحشوها بمفاهيم الفقه السلطاني، فلم يحققوا ما طلبوه ولم يحصلوا على ما رجوه، وليس في عرض محاولاتهم هذه من جديد، ولا فائدة من الإطالة بها، وإنما نركز على ما نحن بصدده، وهو ما صنفه الفقهاء والمتكلمون المسلمون حول نظم الحكم والدولة من منطلقهم الفقهي والكلامي، مدرجين ضمنهم كتاب السير والتاريخ فيما أُطلق عليه “الآداب الملوكية” و”مرايا الملوك”، ومؤثرين أن يكون الفقهاء والمتكلمون في سياق واحد، لأن الفقهاء عادة يشتغلون بعلم الكلام إلا ما ندر؛ والفقه يجمع الفريقين، وإنما علم الكلام يميز مراتبهم، ولئن كان مصطلح “فقيه” يختص بعلماء الأحكام الشرعية العملية إيجابا وحظرا وإباحة وندبا وكراهة، فإن “المتكلم” يتميز عن الفقيه بمعرفة علم الكلام المبني على المنطق ومدارك العقول، وبالنظر حدا وبرهانا ومقدمات ونتائج، ومن لا إحاطة له بهذا العلم عندهم فلا ثقة له بعلومه أصلا، كما قرر ذلك أبو حامد الغزالي في مقدمة كتابه “المستصفى”.

    ولئن كان المتكلمون قد بحثوا فقه الإمامة الكبرى في سياق دراستهم للعقيدة وأصول الدين، مجاراة لفقهاء الشيعة الذين يعدون الإمامة من أصل الدين، فإن غالبية الفقهاء أفردوا لها مصنفات خاصة، وفصلوا أحكامها الكلية والجزئية، ما تعلق منها بصلاحية الإمام اختيارا وعزلا واستنابة واستخلافا، وما تعلق بالوزارة والقضاء وإمارة الجيش وجباية الأموال زكاة وخراجا، وشؤون الإدارة والدواوين والحسبة.

    إلا أن هذه المصنفات كثيرا ما تتشابه مواضيعها وتتقارب أساليبها، إلى حد يكاد يجزم المرء فيه بأن بعضها منقول عن بعض، مثلما هو الحال في كتابَيْ “الأحكام السلطانية” للماوردي وأبي يعلى الحنبلي؛ إذ عاش المؤلفان في عصر واحد، وتوفي أحدهما – الماوردي – سنة 450 هـ ، والثاني – الحنبلي – سنة 458 هـ؛ وعبارات الكتابين تكاد تكون متطابقة، لولا أن أبا يعلى يذكر فروع الحنابلة ورواياتهم، والماوردي يذكر فروع الشافعية وخلافهم مع المالكية والحنفية.

    لقد استحدث الفقهاء والمتكلمون في مباحثهم هذه عددا من المصطلحات التي أصبحت مفاتيح لهذا الفن من التصنيف مثل “الأحكام السلطانية” و”الإمامة الكبرى”، أو “الخلافة” و”إمارة المؤمنين” وغيرها، إلا أننا نؤثر أن نتخذ مصطلحات أكثر شمولا ومطلقية ومناسبة لمفاهيم العصر، بما يسع المعاني التراثية إلى جانب ما يتعلق بجوهر تدبير أمر الأمة شكلا ومضمونا،تأسيسا وتقنينا ورعاية لجميع أوجه السير العام في مرافقها، من القمة إلى القاعدة عموديا، ومن أقصى السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية والتربوية إلى أقصى مؤسسات المراقبة والمحاسبة أفقيا؛ والمصطلحات التي ابتدعت في الفقه السياسي لدى الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة قبلهم لا تتسع لكل هذه المعاني، وإن كانت بالنسبة لما صنفوه مفاتيح لما ذهبوا إليه من شروح وأحكام ونظم، من أجل ذلك ينبغي البدء بدراسة مدلول كل من هذه المصطلحات التراثية والمستحدثة والمتداولة في الفقه السياسي لدى الفقهاء والمتكلمين، لنتبين مدى كفايتها أو قصورها عن الأداء السياسي بشموليته التدبيرية عموديا وأفقيا، إدارة واقتصادا وسياسة واجتماعا وأحكاما شرعية.

    على أن صعوبة تعترض سبيل هذه الدراسة، لأن بحثنا فيها شرعي وإن كان اعتمادنا فيها على اللغة، والشرع مُتَلَقّى من الكتاب والسنة، ولكون الكتاب والسنة عربيين فلا بد من الرجوع إلى العربية في صميمها. إلا أن العربية لم تنقل إلينا بالتواتر؛ فمعاني ألفاظها ظنية في غالب الأحيان إلا ما أثبت الوحي معناه أو نقله إلى معنى آخر، واللفظ كثيرا ما يوضع لعدة معان أو ينقل إلى معنى غيره، وليس لدينا ما يؤكد أنه وضع لهذا المعنى ثم نقل إلى الآخر، أو أنه وضع لجميع معانيه وضعا واحدا لنعتبره مشتركا. لذلك لا بد من الجمع بين طريقة استخدام اللفظ في الكتاب والسنة وبين استقصاء أصوله اللغوية التي لا شك أنها تومئ إلى بعض معناه من قريب أو بعيد، وهو ما نسير عليه في دراستنا التالية لأهم مصطلحات هذا الفقه. (يتبع)