الزمان: دقائق قليلة قبل غروب شمس أحد أيام الصيف الحارة، المكان: كثبان “مرزوقة” الرملية في الصحراء الشرقية الجنوبية المغربية، الحدث: سياح من أثرياء أوروبا،
– المشهد الأول:
الزمان: دقائق قليلة قبل غروب شمس أحد أيام الصيف الحارة، المكان: كثبان “مرزوقة” الرملية في الصحراء الشرقية الجنوبية المغربية، الحدث: سياح من أثرياء أوروبا، تخَلّوا عن كل ملذات الحياة ووسائل التكنولوجيا الحديثة التي توفر لهم رغد العيش، وتوجهوا إلى صحراء قاحلة، فقط ليخوضوا تجربة مشاهدة غروب شمس طبيعي، ويستمتعوا بواحد من أجمل مشاهد الغروب في العالم.
– المشهد الثاني:
الزمان: صباح منعش يشي ببداية يوم موفق، المكان: باحة فندق فخم من فنادق إحدى دول آسيا الاستوائية، يطل على شلال مجاور يتطاير رذاذ مائه على الجميع بنفس منعش، الحدث: مجموعة من الأزواج من أعمار مختلفة، يؤطرهم أحد مدربي التنمية الذاتية، ليخوضوا تجربة إعادة اكتشاف ذواتهم، ويعززوا مهاراتهم على التواصل، ويحرروا طاقة النجاح عندهم، ويقضوا على آخر معاقل السلبية والإحباط في نفوسهم.
– المشهد الثالث:
الزمان: الثامنة ليلا، المكان: قاعة سينمائية فخمة، الحدث: خليط غير متجانس من الناس، من أعمار ومستويات اجتماعية وثقافية مختلفة، جاؤوا في الموعد، ليشاهدوا الفيلم الأخير، وليخوضوا تجربة دينية فريدة؛ حيث سيستطيعون لأول مرة مشاهدة النبي نوح (عليه السلام) رأي العين، ومقاسمته تعب بناء السفينة الشهيرة وهَمَّ إنقاذ المؤمنين من الناس، والتعرف إلى الطوفان الهائل الذي أفنى كل شيء!
وهكذا تتوالى المشاهد وتتنوع في كل بقاع العالم؛ من سواح أجانب يستقبلهم المنتجع السياحي في إحدى الدول العربية برقصات شعبية محلية، إلى أفلام ضخمة تقدم تجارب ثقافية خاصة: براكين وكوارث طبيعة، أو عالم البحار، أو حياة الديناصورات المنقرضة؛ مرورا عبر جلسات “اليوغا” في صالة رياضية فخمة، تنساب عبر أروقتها موسيقى يابانية قديمة، تمتزج مع رائحة بخور هندية زكية…
قد لا يجد البعض من رابط منطقي بين هذه المشاهد، وقد يتوقع مني بعض القراء الحديث عن السياحة… لكن الأمر يتعلق هذه المرة بالثقافة. وبعيدا عن كل التعريفات الأنثروبولوجية لمفهوم الثقافة، وما نجم عنها من إشكالات الترجمة، وقضايا التبعية الفكرية، والحداثة والجهل والتنوير و… بعيدا عن كل ذلك، بدأت الثقافة تعرف كسلعة تجارية!
إذ يمر الاقتصاد الدولي حاليا بتحولات جوهرية، والفاعلون الكبار، يتحولون تدريجيا من الاقتصاد المادي إلى اقتصاد الشبكات.. فيستأجرون كل وسائل الانتاج، من مواد أولية تُستورد، إلى يد عاملة رخيصة في بلدان نامية ونائية، إلى وسائل نقل مؤجرة من شركات النقل المتخصصة؛ ولا يمتلكون فعليا في المقابل سوى الطاقة الإبداعية، لتقليص تكلفة الإنتاج، وأيضا لتقليص هامش المخاطرة في عالم من المنافسة بحيث تصبح السلعة قديمة تلقائيا بمجرد طرحها في الأسواق.
ويورد “جيريمي ريفكين” أمثلة عديدة، آخذ عنه بعضها بتصرف: تظهر الإحصائيات أن نسبة التجديد في مجال صناعة السيارات تتجاوز الـ 50% من خلال نظام التأجير، بينما لا تتعدى النسبة 25% في حالة شراء السيارة. لذا تفضل شركات تصنيع السيارات أن تؤجرك سياراتها وتبتكر صيغا متعددة لتبيعك خبراتها وعروضا متنوعة لتغير سيارتك المؤجرة أو صيغة التأجير من حين لآخر، بدل أن تبيعك سيارة جيدة لن تضطر معها إلى شراء أخرى إلا بعد مدة طويلة، وفي الغالب لن تربح معك الشركة سوى مرة واحدة فقط.
أما في صناعة الأدوية، فمن الطبيعي أن حجم أرباح شركات الأدوية يتضاعف كلما مرض الناس أكثر، لكن تحولات الاقتصاد الدولي، دفعت شركات الأدوية إلى ابتكار صيغ تجارية غريبة لتواكب بها التحول: فعلى سبيل المثال، أطلقت شركة “غلاسكو – سميث كلاين” في بريطانيا، منتوجا جديدا يحمل اسم “إدارة المرض”، حيث يحرص خبراء الشركة على تقديم خدمة الصحة الجيدة لزبنائهم، وضمان الحماية التامة لهم من الخمسة أمراض الخطيرة: الاضطرابات العصبية، والجلطة القلبية، والجلطة الدماغية، والسرطان، والسكري. وتمتد الحماية كل أيام الأسبوع وعلى امتداد الحياة.. لكن أليس هذا البرنامج جنونيا؟ ألن يؤدي إلى الانهيار التام لشركة صناعة الأدوية؟
السر يكمن في تحالف الشركة مع شركة أخرى متخصصة في مجال التأمين، لذا فالصفقة مربحة لكليهما: فالزبون يدفع لشركة الأدوية اشتراكا دائما لتبقي عليه في صحة جيدة، وهذا يعني من جهة أخرى أنه لن يقع في مشكلات صحية معقدة، تتطلب تكلفة علاج باهظة، وهذا مريح لشركة التأمين التي ينخرط فيها، بحيث تستلم شركات التأمين مبالغ الاشتراك من زبنائها مقابل لا شيء تقريبا، لأن خبراء شركة الأدوية يحرصون على التنبؤ المبكر بأي مضاعفات، وعلى اتباع الزبون نمط حياة صحي، هكذا يصبح من الأوفر على شركة التأمين اقتسام جزء من أرباحها مع شركة “غلاسكو – سميث كلاين” للأدوية، عوض أن تخسر جزءا أكبر أثناء تكفلها بنفقات علاج الأمراض المزمنة أو المستعصية لبعض الزبناء.
والإنتاج الصناعي والفلاحي أصبحا بدورهما ضمن نطاق القدرات الاقتصادية للبلدان النامية؛ أما الاقتصاد الجديد، فيتاجر في الخبرات الثقافية… وعلى رأي “جيريمي ريفكين” فإن الأثرياء لم يعودوا يهتمون باقتناء منزل فخم، لأنهم يمتلكونه أصلا، إنهم يهتمون الآن بدفق الخبرات الذي يمكنهم الحصول عليه. وهم يصرفون على “الخبرات” بقدر ما يصرفون لشراء المقتنيات المتنوعة. والنتيجة: اقتصاد جديد يتشكل على تجارة مواردها الأساسية هي الأسفار، والتجارب الروحية المدفوعة الأجر، ومجمعات الترفيه…
فما هي تأثيرات هذه التجارة الجديدة التي تتخذ من الثقافة سلعة لها؟
ألن تكون لها مضاعفات كبيرة على الثقافات نفسها؟ ما هي الآثار الثقافية لتسليع الثقافة؟
ما أذهب إليه في هذا المقال، هو أن الثقافة تتعرض الآن لتهديد هو أشبه بالتهديد البيئي؛ إذ بالغنا في استهلاك الموارد الطبيعية التي أصبحت مهددة بالنضوب بشكل فعلي؛ وبشكل مماثل، نحن نبالغ الآن في استهلاك الموارد الثقافية، ولا شك أن “تعليب” المضامين الثقافية وبيعها كتجارب سيؤثر سلبا على الحضارة الإنسانية عموما، وعلى الحضارات التي مازالت تحافظ على قدر من الرصيد الروحي خصوصا. وهي التأثيرات التي يمكن استشرافها كما يلي:
حينما تتحول الثقافة إلى سلعة، يكتسب المستهلك مفهوما جديدا، فهو مستهلك يتحلى بمواصفات خاصة، لأنه يستهلك دفقا من الخبرات، وهذه الخبرات ليست مادية، لذا فهي لن تستجيب لحاجيات “تقليدية” عند المستهلك… هنا تتحدث آخر الأدبيات الاقتصادية عن “القيمة العمرية” للزبون، أي عن القيمة التجارية لكل ثواني ودقائق حياة الزبون.
سابقا، ينظر إلى الإنسان كمستهلك حينما يقصد الأسواق التجارية، أو ينفتح على وسائل الاتصال فتغزوه الإعلانات؛ لكن يظل إنسانا عاديا يحظى بقدر من الخصوصية في لحظات معينة من حياته، خصوصا داخل البيت رفقته أسرته، أو أثناء ممارسة شعائره الدينية. لكن مع تسويق الموارد الثقافية، لم تعد هناك حياة خاصة للإنسان، بل تصبح كل ثواني حياته الخاصة جزءا من عملية تجارية، وبالتالي يتحدد الإنسان كمستهلك في كل لحظات حياته:
المعاشرة الجنسية بين الأزواج مجال لبيع الخبرات الثقافية: من الأغذية التي تساعد على بناء أداء واستعداد جنسي ملائمين، إلى الكتب أو الخدمات الاستشارية المدفوعة التي تعرفك على العادات الجنسية لزوجك (وكأنه لا يمكنك سؤاله!)، مرورا بعتاد ملائم من الخبرات المادية: كيف تختار الإضاءة وتصميم الغرفة وغيرها من الشروط…
العطلة ووقت الفراغ الذي يهرب فيه الإنسان من دوامة حياته الإنتاجية/الاستهلاكية مجال لبيع الخبرات الثقافية: يمكنك أن تدفع لتعيش تجربة أي ثقافة محلية من ثقافات العالم لكن طبعا في صيغة تجارية سطحية: فيلبسك مرشدك السياحي مثل السكان المحليين لإحدى المناطق الصحراوية، وتقضي ليلتك بالعراء، على أنغام رقصة محلية، تشارك فيها بكل تواضع، وروائح الشواء تداعب معدتك، لتفتخر أمام زملائك في العمل بأنك عشت حياة القبيلة الفلانية أو الشعب الفلاني، وكأن كل ثقافة تلك القبيلة تتلخص في جلسة طرب وشواء.
الامتحان الدراسي أو التقدم لوظيفة أصبح مجالا لبيع الخبرات: فلكي تنجح في امتحان التخرج، عليك على الأقل اقتناء كتاب: “كيف تنجح في مقابلة العمل”، لكن يستحسن أن تسجل في دورة تدريبية، ليعلمك خبير متخصص، كيف تستعد للامتحان، وهو الاستعداد الذي يبدأ من اختيار الأطعمة الملائمة، والغنية بالفوسفور والمغنيزيوم، اللذان يساعدان على التركيز والاسترخاء، ثم يعلمك الخبير مهارات الحفظ والتذكر، كما يعلمك مهارات الاتصال ومواجهة لجان الامتحان.
بل حتى لحظات الحزن وفقدان الأحبة، أصبحت فرصة لبيع الخبرات في الدول الغربية، فتعبر عن مقدار حزنك ودرجة حبك للفقيد، من خلال جودة النعش الذي تختاره له، وفخامة السيارة التي ستنقل جثمانه إلى المقبرة، وطبعا المكلف بالتواصل في الشركة سيعلمك كل ما ينبغي فعله وكل ما ينبغي تجنبه، حتى يحظى قريبك بمأتم راقٍ.
وسأتجنب عمدا إيراد أمثلة لتعليب التجربة الدينية وبيعها، حتى لا أزعج البعض؛ وأذكر فقط بالنتيجة: كل تفاصيل حياتنا، النفسية والاجتماعية والروحية والبيولوجية، أصبحت ثوان ولحظات مربحة تجاريا. وتدريجيا، سنبدأ بالنظر إلى الموارد والخبرات الثقافية على أنها خبرات وظيفية، نحصل عليها بمقابل مادي، لتجلب علينا منافع معينة؛ وهذا ما ينتج عنه تلقائيا تفويض كل الشأن الثقافي إلى “الخبراء والمتخصصين” الذين يعيدون تعليبه في تشكيلة منوعة تبعا لحاجياتنا. كما ينتج عن ذلك أيضا إدراكنا السطحي للخبرات الثقافية، والتعامل معها إما فلكلوريا بحرصها في منظور ترفيهي أو فرجوي، وإما نفعيا بحصرها في خبرات وظيفية لإدارة أزمات معينة أو التعامل مع حالات طارئة.
هذا في ما يتعلق بنا كمستهلكين، أما في ما يرتبط بالتجار الجدد، الذين يتاجرون بالخبرات الثقافية، فهم يفككون كل تاريخنا الثقافي ويحولونه إلى خبرات وتجارب للبيع، وهم بلا شك سيجتثون تلك الموارد من سياقها الحضاري كمعين تشكل عبر قرون طويلة من خبرة الأجداد وحكمتهم، ثم سيعيدون تقديمها في صيغ ترفيهية وفرجوية فولكلورية، والأخطار كثيرة لا تقف فقط عند إفراغ الثقافة من محتواها القيمي والحضاري، بل يتم اقتلاعها من سياقها الاجتماعي الذي يشكلها ويغذيها، ويجعل منها مواكبة للحياة الإنسانية ومستجيبة لها ومعبرة عن حاجياتها، فتصبح مجرد طقوس مناسباتية.
وتدريجيا، يبدأ البسطاء والمستثمرون، والشعوب لاحقا إلى النظر إلى ثقافاتهم كموارد اقتصادية لإغراء السياح الأجانب، وجلب الرواج الاقتصادي، في حين تخلو تلك الثقافة في نظرهم من الحلول الواقعية لمشكلات عصرهم، فيتبنون في المقابل الثقافة “العصرية” الوافدة.. وعوض أن يحيى كل شعب وفق ثقافته الأصيلة، سيحيى بالثقافة الغربية المعولمة، وكنوع من إبراء الذمة، “سيمارس” طقوس ثقافته الأصيلة من حين إلى آخر.
أما الثقافات المصنعة والمقدمة تجاريا، فستستنفذ بريقها مع الوقت؛ هنا سيتدخل المستثمرون بخبرتهم التسويقية، لصنع تهجينات ثقافية غريبة، تبرز بعض مسوخها من حين إلى آخر في بعض عروض الأزياء والأغاني المصورة؛ وبعد أن تستنفذ كل تلك التهجينات، سنكون قد استنفذنا كل مواردنا الثقافية…
حينها، وبعد القضاء على التنوع الثقافي، ونضوب مواردنا الثقافية، هل يمكن للحضارة الإنسانية أن تستمر؟ وبأي شكل؟!