عبد المجيد الشرفي أستاذٌ معروفٌ في الدراسات الإسلامية بالجامعة التونسية منذ الثمانينيات، كتب دراساتٍ متميزة منذ أُطروحته للدكتوراه: “الفكر الإسلامي
عبد المجيد الشرفي أستاذٌ معروفٌ في الدراسات الإسلامية بالجامعة التونسية منذ الثمانينيات، كتب دراساتٍ متميزة منذ أُطروحته للدكتوراه: “الفكر الإسلامي في الرد على النصارى”، وإلى “الثورة والحداثة والإسلام” (2012). وكتاب د. الشرفي الأخير “مرجعيات الإسلام السياسي” الصادر عن دار التنوير في لبنان مارس 2013 ، مثل كتبه السابقة، ما عدا أُطروحته للدكتوراه في “الرد على النصارى”، فكتبه تنصبُّ على نقد ونقض أفهام الفقهاء والمتكلمين (الأشاعرة فقط) للكتاب والسنة، وحلولهم للمشكلات بعقلية القرون الوسطى الظلامية أو السابقة على الحداثة، والتي ما تزال سائدة.
يبدأ الشرفي بالتصور التقليدي للدولة الإسلامية، وأنها ما كانت دولةً دينيةً، وما نشأت أيام النبي صلى الله عليه وسلم، بل أيام أبي بكرٍ وعمر كما تنشأ الدول والإمبراطوريات، وقد انقضى زمانُها فلا يجوز اتخاذها مثالاً لأيام الراشدين، ولا أيام الأمويين والعباسيين والعثمانيين، ومن وجهة نظره أنّ فكرة الإخوان عن الدولة إنما أخذت من مصدرين: الخلافة القديمة، وردود الفعل على إلغاء الخلافة، وينتقل الشرفي إلى أسباب انتشار أفكار الإسلاميين رغم خروجها على الزمان والمكان، فيذهب إلى أنّ الذين اتبعوها إنما كانوا من أنصاف المتعلمين، ويستدلُّ على غرام هؤلاء بالقديم، وتناقُضهم في الأخذ بالصيغ الحديثة أنه كان عليهم لو كانوا من أهل الاتّباع بالفعل أن يؤْثروا الحمار والجمل على السيّارة، وألا يستخدموا وسائل الاتصال الحديثة!
و يرى الشرفي أنّ الإسلام السياسي في شكله الحديث يعود إلى تأسيس حركة الإخوان المسلمين في مصر على يد حسن البنا عام 1928، هذه الحركة هي التي ولدت من رحمها سائر حركات الإسلام السياسي لاحقاً، تأسست حركة الإخوان بداية، ونظرياً، جواباً عن إلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة في تركيا، هذه الخلافة كانت ترمز في الوجدان الديني إلى دولة المسلمين، رغم أنّ وقائعها وممارستها لم تكن تمت بأي صلة لدولة إسلامية دينية لا وجود لها سوى في الخيال. لكنّ حركات الإسلام السياسي شهدت ازدهارها في معظم العالم العربي نتيجة لعوامل متعددة، لعل أبرزها فشل مشروع النهضة العربية التي مثلتها حركة القومية العربية وخصوصاً منها المشروع الناصري، والذي شهد أبرز تجليات فشله في هزيمة حزيران 1967، هذه الهزيمة لم تكن هزيمة عسكرية فقط، بل كانت هزيمة مشروع حضاري على جميع المستويات، توّج فشلاً لأنظمة الاستقلال في تحسين مستوى معيشة المواطن العربي، وفشل مشاريع التنمية الاقتصادية، إضافة إلى الهيمنة والتسلط الذي مارسته الأنظمة الحاكمة وكرست فيه ديكتاتوريات لا حدود لمستوى القمع الذي فرضته، قدمت الهزيمة العربية متعددة المستويات المبرر ليطرح الإسلام السياسي مشروعه البديل القائم على نظرية “الإسلام هو الحل”، مقترنا برؤيا سياسية وأيديولوجية ترى أنّ أسباب هزيمة العرب والمسلمين إنما تعود إلى تخليهم عن الإسلام وعن الالتزام بمقوماته، ونتيجة أيضاً لاعتماد نظرية الدولة الحديثة ودساتيرها، استقطب الإسلام السياسي جماهير واسعة خاصةً من أجيال شابة لم تقدم لها الأنظمة القائمة سوى البطالة والفقر والتهميش وما يرافقها من يأس وإحباط، فرأت في شعار الإسلام السياسي منارة الخلاص وحلاً لمشاكلها.
الامام الشافعي مرجعا أساسيا
ويؤكد الشرفي بين طيات كتابه أن كتابات الإمام الشافعي تمثل مرجعاً أساسياً في المنظومة الأيديولوجية للإسلام السياسي، وهو الذي جعل الأحكام الفقهية تعلو أحياناً كثيرة النص المقدس، بحيث بات الاستشهاد بكتاباته المصدر الأول للتشريع، فمقولة “إنّ كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم” طغت على آراء الفقهاء فاستخدموها في كل صغيرة وكبيرة، خاصةً أنّ هؤلاء الفقهاء كانوا يعتبرون أنفسهم مستبطنين لحكم إلهي ديني وليس كمجتهدين في تعيين دلالات النصوص، واستندت السلطات إلى اجتهادات هؤلاء الفقهاء لنيل المشروعية والتثبيت.
يقول الشرفي تفسيرًا لمقولات الشافعي: “إنّ كل فعل من أفعال المسلمين، في أي مجال، سواء الدينية أو السلوك العام أو الفردي، لا بد أن يخضع لحكم من الأحكام الفقهية.. إنّ أحكام الشريعة، في الحقيقة، هي الخضوع لحكم من الأحكام الفقهية، أي رفض أن يكون الإنسان مسئولاً عن التشريع”،وعلى الرغم من أنّ الإسلام السياسي يعتبر أنّ مرجعيته تستند إلى القرآن والحديث، إلاّ أنّ الغالبية العظمى من أحكام الفقهاء تتجاهل النص القرآني وتبني أحكامها على الأحاديث النبوية التي سبق للشافعي أن وضعها في مصاف النص القرآني.
تطرح مسألة اعتماد الحديث مرجعية رئيسية في إصدار الاجتهادات والأحكام، مشكلات كثيرة، فبالإضافة إلى أنّ الأحاديث متصلة بظروف إطلاقها والحاجات التي كانت تجيب عنها، وهي أمور مرتبطة بمكان وزمان محددين، فإن الأحاديث تطرح أكثر من علامة استفهام حول صحتها ووثوقيتها، فلم يكتب الحديث زمن الرسول، بل كتب بعد أكثر من 150عاماً، ونقلا عن قيل وقال، وتجاوز عددها أحيانا مئات الآلاف لدى بعض الفقهاء والرواة، شكك كثير من الفقهاء أنفسهم في صحة أحاديث مروية ومكتوبة، مما يطعن في مصداقيتها كمرجع للتشريع، يضاف إلى كل ذلك ما هو معلوم في التاريخ الإسلامي من أن الأحاديث كانت تتواتر وتزدهر في سياق الصراع السياسي والاجتماعي بين الفرق والقبائل على السلطة، بحيث تستحضر كل قوة وطرف جملة أحاديث تدعم عبرها موقفها في وجه الخصم. كما أن المذاهب الأساسية التي انبثقت عن الصراعات والانشقاقات ترفض الاعتراف بأحاديث المذهب الآخر وتراها منحولة أو مزورة.
إشكاليات المنظومة الفكرية للإسلام السياسي
تطرح المنظومة الفكرية للإسلام السياسي جملة إشكاليات، تفترض إعادة النظر في قيمها وأهدافها، ويصر الإسلام السياسي على الإقامة في الماضي واعتبار ما أتى به هذا الماضي هو الصحيح الواجب التزامه راهناً، قد تكون أحكام السابقين مناسبة لظروف المجتمع وعاداته وتقاليده ودرجة تطوره، لكن الإسلام السياسي يقف على درجة من المعاداة الواسعة للتاريخ وللتطور البشري، ما يجعله رافضاً لقيم الحداثة ولمنطق التقدم الذي تعرفه المجتمعات البشرية، وقد يكون تقديس هذا الماضي وموروثاته من أكبر العقبات في وجه التغيير، فإلباس تقاليد معينة ثوب الدين يجعل منها استعصاء على التغيير خصوصاً إذا ما كانت النظرة إلى الدين مشوهة بحيث لا تميز بين جوهر الدين المتصل بالأخلاق والروح الأخوية والتسامح ومحبة الآخر، وهي أمور يمكن القول أنها تتجاوز الزمان والمكان، وبين ما هو متصل بالحياة اليومية وحاجات المجتمعات إلى قوانين وأحكام، وهي من القضايا التي تتغير بتغير الظروف وزمانها ومكانها. “إن عدم الوعي بالتغير الجذري الذي طرأ على مختلف نواحي الحياة، وبضرورة مواجهة الصعوبات الناشئة عنها، هو تعبير عن صعوبة حقيقية يجدها الإسلام السياسي، ومن ورائه الضمير الجمعي، في قبول ما لم تتعود عليه المجتمعات الإسلامية في تاريخها” على ما يقول الشرفي.
لعل الأمر يعود، في حيز كبير منه، كما شأن الفكر الديني عموما، إلى كون هذا الفكر قد ظهر في مرحلة من التاريخ القديم حيث لم تكن الحداثة ومقولاتها قد بزغت بعد، مما يجعله في صعوبة كبيرة للتأقلم مع الأوضاع التي فرضها التطور البشري على جميع المستويات، والتي جعلت العولمة من العالم كله “قرية صغيرة”، فاجتاحت قيمها ومنظوماتها المجتمعات من دون استئذان، ودخلت إلى “البيت الإسلامي” مزعزعة أركانه التقليدية الموروثة، دخلت المنظومة الفكرية للحداثة التي تعلي من شأن الفرد بوصفه شخصًا قائمًا بذاته في تناقض مع منظومة المجتمعات التقليدية المستندة إلى بنى القبيلة والعشيرة حيث تنعدم قيمة الفرد الحر بحكم الالتزام بالجماعة وقوانينها.
الإسلام السياسي والممارسة اليومية
يبدو الإسلام السياسي مهووسًا بالمرأة، ينظر إليها دوماً من موقع الدونية، يرى فيها مصدرًا للفتنة لا كائناً يملك الحقوق والواجبات المعطاة للرجل، المهر في الزواج ليس سوى “تكريس للقيم الأبوية والذكورية التي كانت موجودة في المجتمعات القديمة”، ما جعل الفقهاء يعتبرون الزواج نوعًا من العقود التجارية، والمرأة كأنها تشترى وتباع”، ومن الأمور الشكلية التي يحولها الإسلام السياسي إلى ما يشبه المقدسات قضية اللحية لدى الرجل ووجوب عدم حلاقتها تمثلاً بالرسول الذي كان ملتحياً، وهو أمر يتجاهل انعدام وسائل الحلاقة في الزمن القديم، وكون اللحية موجودة لدى كل الرجال، ولدى كل الشعوب، في أزمان قديمة جدًا قبل الاسلام. ومن المسائل التي يجري الاحتيال في ممارستها قضية الفوائد البنكية التي يرى فيها منظرو الإسلام السياسي نوعاً من الربا المحرم، كل مدقق في ممارسات البنوك المدعاة إسلامية، يلمس الطرق الملتوية وغير الشرعية التي تلجأ إليها البنوك لتحصيل الفوائد، وفي قضية شرب الخمر التي يحرمها الفقهاء ويعتبرون شاربها مرتكباً للكبيرة التي تستوجب الجلد، فإن هذا التحريم لا وجود له في النص القرآني، وإنما هو من قبيل اجتهاد الفقهاء، فالتحريم في النص يطال الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والقرابين للآلهة، وفي السياق نفسه يمكن المرور على مسائل الصلاة وعددها الذي ليس في النص ما يحددها بخمسة، أما في ما يخص الصوم، ففي القرآن نصوص واضحة على أنه يمكن للمسلمين ألا يصوموا، وأن يتم التعويض عن ذلك بالصدقات وإطعام المساكين، كما أن الحج، الذي هو من موروث الجاهلية، والذي جعله الإسلام من القواعد الأساسية، هذا “الحج ليس مرتبطاً بيوم معين حسب القرآن.. يتشبث به الفقهاء من باب التقليد وعدم الجرأة على إعادة النظر في الموروث“.
الإسلام السياسي ومواجهة الحياة
كما يؤكد الشرفي أن حركات الإسلام السياسي تقف اليوم على طرفي نقيض مع المعطيات الجديدة للمجتمعات التي تقيم فيها، يغلب عليها معاداتها للاجتهاد وللتحرر من المقولات الموروثة من عصور الانحطاط، يرمز موقفها من الإرهاب، فكرًا وممارسة، إلى إحدى المعضلات المستعصية، فهي تقرأ نصوص العنف والجهاد الواردة في النص الديني بمنطق الماضي الثابت غير الخاضع لرؤية الآيات في زمن نزولها ومكان استخدامها، هذا الإسقاط الحرفي للقراءة يجعلها ترى نفسها المدافع عن الإسلام والساعي إلى تطبيق نصوصه وفق ما أتت به الرسالة، عندما يسود مثل هذا المنطق، ولا يتدخل الفقهاء والمؤسسات الدينية للجهر بتقادم هذه النصوص وعدم صلاحيتها للزمن الراهن، لكونهم يعتبرون القرآن نصاً محكماً صالحاً بمجمله لكل زمان ومكان، عندها ليس مستغرباً وبعيدًا عن الواقع اتهام الإسلام بتشجيع الإرهاب واحتضانه، وهل من مجال لإصلاح الإسلام السياسي ودخوله في العصر وابتعاده عن العنف إلا بإنتاج ثقافة جديدة تتسم بصفات متعددة أبرزها “أن تكون ثقافة تاريخية، أي لا يتم فيها الإدلاء بمعلومات مفصولة عن الظروف التي أنتجتها والرهانات التي كانت موجودة والمعاني المخصوصة لها، وأن تكون ثقافة علمية تتقبل المعرفة الحديثة، وأن تكون ثقافة ديمقراطية”.
أثبت التاريخ سابقا، ويثبت كل يوم خطأ مقولة “أسلمة المجتمع”، فالذي يعتبره الإسلام السياسي خروجاً عن تعاليم الإسلام في مجمل النظر والممارسة في المجتمعات الإسلامية، إنّما هو في حقيقته المعضلات التي تواجه هذا الإسلام وتطرح عليه تحديات في مواكبة العصر الحديث بكل ما يثيره من مشكلات، لا مجال للإسلام السياسي إلا أن يقف أمامها والجواب عن الكثير منها، كشرط لانتسابه إلى العصر.