ريحانة بريس : القاص والروائي- عبد الواحد كفيح.
أحيانا ينقض علي في كبد الليل ويخرجني من نومي العميق ليخبرني ان ما اتفقنا عليه صباحا تراجع عنه مساء وتنكر له ليلا .فأستيقظ مذعنا لرغبته الأكيدة وإرادته العتيدة في مشاكستي وإزعاجي، فأجلس إلى مكتبي، وافتح حاسوبي ، وتارة تمتد يدي في الظلام الدامس باتجاه مفكرتي كي اغير ما يراه قد اصبح غير مجد، وغير ذي بال، أو أضحى في نظره من زمن ولى، وبات نسيا منسيا. هكذا هو ساردي الأحول المخاتل لا يهدأ له بال ولا يرتاح ولا يستقر على رأي، فألجأ كل مرة تارة مكرها وتارة بتفاؤل جميل إلى تشطيب وتعديل وتنقيح مستمر في ما يشبه العملية الجراحية المعقدة من حيث إزالة الزوائد والأورام والشحوم والدهون التي تشوه جسم الرواية وترهّله حتى يتعبني هذا السارد المارد العنيد الأحول. هو لاينام ابدا ولا يهدأ له بال حتى أرضى- ليس كل الرضى طبعا -على ماجد في بنية الرواية ومسار أحداثها .
وفي مناسبات عديدة أجده يحرض عليّ الشخصيات التي تطاوعه هي الأخرى، فتنسلخ من جلدها دون سابق إنذار لتُمسخ في صور شتى، وعلى هيئات مختلفة، لاأكاد أعرفها وتكاد تخرجني عن طوعي ،وتفقدني صوابي. وهكذا دواليك من الأساليب البهلوانية المدهشة المرعبة التي تفقدني رأس الخيط، فتتخبّل لدي كبة الحكي والكلام، وتجعلني أعيد النظر في كل شيء .فأضطر مكرها لتجديد مسار الأحداث فيختلط علي الحابل بالنابل وتبدأ عملية الهدم والبناء والتدمير والإنشاء وإعادة البناء وتكسير هيمنة السرد الروتيني المستقيم في الزمان والمكان ذاك الذي يمشي بالقارئ بتؤدة خطوة خطوة كحمار كسول يمشي الهوينى في يوم قائظ ، فيعجن المستقبل بالماضي في مطبخ الحاضر في متواليات إبداعية غاية في الضبط و الصرامة والتعقيد ،وتندلع في إحدى الزوايا المعتمة والأركان المهمشة من الرواية بؤرة جديدة لأحداث جديدة تستدعي التدخل العاجل لاحتوائها قبل أن تتداعى علي مفاجآتها .كل هذا على مرأى ومسمع من الراوي الذي يصطف بجانبه متآمرين علي وأنا أحاول أن أشيد الطرق السريعة لبنية سردية فنية متينة وخلق شخصيات على هيئات مقبولة لا ممسوخة او مُهجّنة تلعب أدوارها بحرية تامة في حبكة سردية جديدة وفق رؤية جديدة تلائم اختياراته، مما يجعلني أحيانا أطلق له العنان ليعبر كيفما يشاء ويغير كيفما يشاء بل افكر فيما يفكر فيه كما يشاء في مناخ من التوافق و الحرية التامة التي أكيد اضحى يعرف حدودها الفنية والفكرية.وأحيانا وبخبث إبداعي جميل وفي منتصف الطريق يتخلى البطل عن طواعية ويخاتلني ويختفي دون سابق إعلام عن الانظار متخليا عن المهمة الموكولة إليه كعنصر فعال في الرواية ليتملص من مسؤولية البطولة ويسلم القيادة لشخصية ثانوية تنبعث من هامش أحداث الرواية لتتصدر البطولة أو قد يسندها للمكان ، ويصبح هذا الأخير هو البطل، وغيرها كثير من المراوغات الإبداعية الذكية المقبولة على العموم، في حرب استنزاف بل في لعبة حرب إجادة سردية متعددة الأوجه والوجهات.
أما مشاكساته العنيدة التي تجعلني أنقاد إليه وأذعن، فهي عندما ارسم له معالم الطريق السيار المعبد فيعاندني ويمشي هو في الطريق غير العادي،وغير المألوف،وغير المعبد .وهكذا دواليك عراك ومنافسة ومناقشة ومشادات وصدام وتآلف وائتلاف وتوافق واختلاف، وغالبا ما أسايره في ما ذهب إليه لأنه يعرف سلفا ان الطرق المعبدة والعادية والمكرورة لا توصل في نهاية المطاف إلا إلى محطات عادية ومألوفة ومكررة لأنني أنا أيضا انشد في كتاباتي،على الدوام، الوصول إلى محطات عذراء مدهشة غير معروفة ولا مألوفة واقتناص الذي لايقتنص ،واستغوار المناطق البكر التي لم يذهب إليها الآخرون.
ولهذا العراك المزمن الطويل الأمد بيني وبينه، أثر كبير جعلني أكون مقلا في إنتاجاتي الروائية والقصصية
إرسال تعليق