لوهابية وإخوان من طاع الله وداعش.. هل أعاد التاريخ نفسه؟/عبد الله المالكي – التقرير‎

0

بعد فتور وضعف تعرضت له الحركة الوهابية، إثر سقوط الإمارة السعودية الثانية وسيطرة آل الرشيد -الحليف التاريخي للدولة العثمانية- على منطقة نجد، سنة (1308هـ

بعد فتور وضعف تعرضت له الحركة الوهابية، إثر سقوط الإمارة السعودية الثانية وسيطرة آل الرشيد -الحليف التاريخي للدولة العثمانية- على منطقة نجد، سنة (1308هـ – 1891م)، فقدت الدعوة الوهابية السلطة السياسة الداعمة والمناصرة، التي تمكنها من استمرار النفوذ والهيمنة وبسط المذهب بين عموم الناس.

ولكن تجدد أمل علماء الدعوة من جديد، حين انبرى أحد أحفاد الأمير فيصل بن تركي، وهو الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، لكي يعيد بناء سلطة العائلة الحاكمة، مع أوائل القرن العشرين.

ولإدراكه الأهمية الأيديولوجية للمذهب الحنبلي الوهابي، فقد سارع الملك عبد العزيز، إلى تجديد التحالف التاريخي، الذي ربط أسلافه من الأسرة بعلماء الدعوة وأتباعها، وقد تم التعبير عن هذه الرابطة عبر إحياء الصفقة التاريخية التوافقية بين السلطة السياسية والسلطة الدينية بلغة المصاهرة؛ إذْ تزوج الملك عبد العزيز من ابنة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، شيخ علماء المذهب(1) الوهابي حينها.
وقد عبر الملك عبد العزيز عن هذا التحالف بقولته الشهيرة: “ما هو بخافيكم (بخافٍ عليكم) أولا نشأة هذا الأمر وتقويمه من الله، ثم أسباب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأوائلنا رحمهم الله تعالى، وما جرى على المسلمين من اختلاف ولايتهم مرارا، وكلما اختلف الأمر وشارف على نقض دين الله وإطفاء نوره، أبى الله فأخرج من الحمولتين (آل سعود وآل الشيخ) من يقوم بذلك”(2).

لقد حشد علماء الوهابية، كل إمكاناتهم الرمزية والروحية، لمباركة ودعم النهج السياسي للملك عبد العزيز، وللوقوف معه بكل إخلاص في بناء الدولة، عبر التهيئة الدينية الشعبية والتحريض للقتال معه، في مقابل توظيف الملك كل إمكاناته السلطوية في سبيل تمكين شركائه الأوفياء من فرض خطابهم الديني ونشره بين الناس.

وقد كتب الشيخ القاضي عبد الله العنقري (ت1373هـ)، وهو من أبرز علماء الوهابية حينها(3)، أنه “قد منّ الله على المسلمين بولاية عادلة دينية، وهي ولاية إمام المسلمين عبد العزيز بن عبدالرحمن آل فيصل، ما زالت رايته منصورة، وجنود الباطل بصولته مكسورة مدحورة، أقام الله به أود الشريعة، وأزال به الأفعال المنكرة الشنيعة”(4).

وكتب الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ (ت1367هـ) موعظة قال فيها: “… فاذكروا يا إخواني نعمة الإسلام، وما منّ الله به عليكم من الانتقال، من عوائد الآباء والأجداد وسوالفهم، التي خالفوا في أكثرها ما جاء في الكتاب والسنة، واشكروه أيضا، على منَّ الله به في هذا الزمان، من ولاية هذا الإمام (الملك عبدالعزيز، الذي أسبغ الله عليكم على يديه من النعم العظيمة، ودفع به عنكم من النقم الكثيرة… فالذي يطلب الأمور على الكمال، وأن تكون على سيرة الخلفاء، فهو طالب محالا، فاسمعوا وأطيعوا، وراعوا حقه وولايته عليكم… فوالله ثم والله، إنا لا نعلم على وجه الأرض شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، شخصا أحق وأولى بالإمامة منه، ونعتقد صحة إمامته وثبوتها، لأن إمامته إمامة المسلمين، وولايته ولاية دينية”(5).

photo_2014-08-14_05-19-37

الملك عبد العزيز مع بعض أبنائه ومعاونيه

ولم يتوقف الأمر عند تكريس مبدأ الطاعة للملك، وإنما امتدّ إلى التحريض على الجهاد وحثّ النفوس على الاستشهاد وبذل النفوس في تحقيق هدفه المنشود. يقول الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ: “فالله الله، في المبادرة والمسارعة، فإن الله يحب من عباده، أن يسارعوا إلى ما أمرهم الله به، وإذا استنفر الإمام الرعية، كان الجهاد فرض عين على كل من أقدره الله عليه… فاسمعوا وأطيعوا لمن ولاّه الله أمركم، وأجيبوه إلى ما دعاكم إليه من الجهاد… وعليكم بالجد والاجتهاد، ومساعدة إمام المسلمين على قتال أعداء الملة والدين”(6)؛ “أعني به البطل الهمام، والشجاع المقدام، قائد جموع أهل الإسلام، الإمام: عبدالعزيز بن الإمام عبدالرحمن آل فيصل، حفظه الله وأطال بقاءه، فإذا دعاكم أيها المسلمون إلى الجهاد والنفير، فاسمعوا وأطيعوا، واحذروا أن تكونوا كالذين قالوا سمعنا وعصينا، فإن القيام معه ونصرته من الواجبات الدينية، لأنا لا نعلم أحدا على وجه الأرض اليوم، شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، تجب طاعته، ويجب الجهاد معه أولى منه”(7)، “وترك الجهاد من الإلقاء باليد إلى التهلكة، قال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة: 195)”(8)، “فلا يتخلف عن الجهاد إذا دعى إليه، إلا منافق معلوم النفاق، فالحذر الحذر، من الإصغاء والالتفات إلى المخذلين والمثبطين، وما يلقونه من الشكوك والريب، وإساءة الظن بأهل الدعوة الإسلامية”(9).

كما كتب الشيخ القاضي عبدالله العنقري: “وبالجملة، ففضائله كثيرة لا تحصى (أي الملك عبدالعزيز)، وعدّ ما منّ الله به على يده على أهل نجد غزير لا يستقصى، وقد تعيّن على المسلمين وجوب الجهاد معه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا استنفرتم فانفروا)، يعني استنفر الإمام رعيته، وجب عليهم النفير إلى الجهاد معه بأموالهم وأنفسهم؛ لأنه يجاهد عن حوزة الدين، وعورات المسلمين، ويحوطهم من كل من رامهم بسوء من الكفار المعتدين”(10).

– 2 –

هذه الخطابات الدينية المحرّضة للطاعة وللجهاد بشكل ملحّ، كانت تخفي وراءها إشكالية (سياسية/ عسكرية) يشعر بها الملك عبد العزيز، وعلماء الوهابية من ورائه، وهي أن حاضرة نجد، بطبيعة استقرارهم، الاجتماعي والاقتصادي، قد عافت نفوسهم الغزو والقتال الذي ينشب دائما بين القبائل البدوية طمعا في الغنائم أو النهب كمصدر رئيس للعيش ولاستمرار الحياة. أما أهل المدن الذين قد انخرطوا في الزراعة والتجارة والصناعة، فلم يكن دافع القتال والغزو ملحًا عليهم، إلا إذا اقتضت الضرورة للدفاع عن النفس أو المال.

نعم، كان من بين الحضر مقاتلون أشداء، ويخرجون مع الأمير إلى الغزو إذا اقتضت الحاجة والضرورة، ولكن عادة ما يكون ذلك مؤقتًا ولغرض محدّد، ثم لا يلبثون أن يعودوا بعده إلى حواضرهم ويستقروا فيها، وقد شاركوا بالفعل مع الملك عبد العزيز في بداية معاركه لطرد الأتراك من حواضر نجد، ومع خروج الأتراك واعترافهم بخسارتهم للمدن الواحدة تلو الأخرى، اكتفى السكان بموالاة عبد العزيز، والاستعداد للدفاع عن أنفسهم، في شكل حامية عسكرية محلية(11)، ولم تكن لديهم نية جازمة في التوسع والامتداد والذهاب بعيدا إلى أكثر من مناطق حواضرهم.

ولكن مع اتساع مسرح عمليات عبد العزيز وابتعادها عن الرياض والمدن الموالية له، أصبح من الواضح أن القوة العسكرية التي استطاع من خلالها السيطرة على نجد، لم تعد تناسب الغزوات والعمليات العسكرية التي أعدّها وخطط لتنفيذها في أجزاء بعيدة من شبه الجزيرة العربية، وبالرغم من إخلاص السكان الحضر وولائهم لعبد العزيز، لم يكونوا على استعداد كامل لترك حقولهم، وتجارتهم ومصانعهم، من أجل القتال في تلك المناطق البعيدة من شبه الجزيرة العربية. نعم استعدّ بعضهم، وانخرط بالوقوف بجانب الملك لتحقيق مشروعه، ولكنهم ليسوا بتلك القوة الضاربة والكافية لتلبي طموح الملك(12).

كان الملك بحاجة إلى قوة عسكرية، تتصف بخفة الحركة، وبالشجاعة الباسلة، وبالزهد والإيمان العميق بالمشروع. كان البدو، هم المصدر البشري الوحيد والمتاح أمامه، ولكن تجربة أسلافه من الأمراء السعوديين مع البدو لم تكن حسنة، حيث إن هؤلاء ما تركوا فترة من فترات التأزم والتوتر في عهد الإمارات السعودية السابقة، إلا وتمردوا ضدها وتحالفوا مع خصومها لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب(13)، إضافة إلى موقف المؤسسة الوهابية منذ القرن التاسع عشر، التي كانت لا ترى في البدو سوى تجمعات بشرية، خارجة عن الإسلام، ومتمردة عن تعاليمه، وأنّه يجب إنقاذها من الخسران في الدارين(14).

من هنا، برزت أهمية فكرة توطين قبائل البدو، وإعادة تأهيلها دينيا وسياسيا وعسكريا، وإدماجها في الحياة الحضرية وفي مشروع الدولة، وابتداءً من سنة (1330- 1912م)، أقامت السلطات عدة مستوطنات مبنية من الطين، حول منابع الماء، أطلق عليها اسم الهجر (جمع هجرة)، من أجل توطين القبائل البدوية فيها، واختيار مفردة (هجرة) لتسمية تلك المستوطنات، له دلالة رمزية؛ حيث يستدعي في المخيال الإسلامي، شعيرة الهجرة الدينية، والتي يكون فيها الانتقال من حياة الكفر ومجاله والالتحاق للعيش حيث يطبّق الدين الحق(15).

– 3 –

لقد تم ما بين عامي 1912 و 1926، إنشاء المئات من الهجر، وتوطين نحو مائة وخمسين ألفا من البدو فيها(16)، وقد ترافق مع هذا التوطين -وبدعم غير مشروط من الملك عبد العزيز- قيام علماء الوهابية بالانخراط في عملية جادة وكثيفة لغرس الأفكار الدينية، حيث تم إرسال دعاة دينيين يسمون بـ (المطاوعة)، مكلفين بتعليم أبناء القبائل قواعد الدين (الحق)، وتبني الحنبلية الوهابية واستبطان رؤيتها للعالم؛ كما قام العلماء بإجراء زيارات عديدة وكثيرة لمختلف أماكن التوطين بغية الإشراف والتأكد من عملية التعليم والتهيئة الدينية.

 

أحد كتائب الإخوان في طريقها للغزو (بكاميرا الرحالة البريطانيين)

ولأجل عملية التعبئة للجهاد والقتال، تم استدعاء المفاهيم الوهابية، التي كانت قد تبلورت أثناء التحديات السياسية التي رافقت تأسيس الدولة السعودية الأولى: كالتكفير، والجهاد، والولاء والبراء، وذلك لأجل التمييز ثقافيا وجغرافيا، بين مجتمعات الدين الحق ومجتمعات الدين الباطل. فعلى سبيل المثال، “كان العالم حسن بن حسين آل الشيخ (ت1339) المساهم بنشاط في بناء هجرة الأرطاوية، وهي واحدة من أهم وأكبر الهجر في البلاد، قد كتب رسالة، استعاد فيها كل تلك الأفكار التي تبنتها الوهابية في القرن التاسع عشر، إذ حرّم كل اتصال سلمي مع أراضي الكفار وساكنيها، وخصّ بالذكر جنوب العراق والكويت، وأنه لا اتصال معهم إلا في ميدان القتال في إطار الجهاد”(17).

واعتبر الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، أن آل الرشيد وأنصارهم كفّار مرتدون؛ لأنهم طلبوا العون العسكري والمالي من (المشركين العثمانيين)، ولهذا لا يكفي الحكم بتكفيرهم فحسب، بل يجب قتالهم أيضا في إطار الجهاد في سبيل الله: “ومن يعرف كفر الدولة (العثمانية) ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين، لم يعرف معنى لا إله إلا الله، فإن اعتقد مع ذلك أن الدولة (العثمانية) مسلمون، فهو أشدّ وأعظم، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله أو أشرك به، ومن جرّهم أو أعانهم على المسلمين بأي إعانة، فهي ردّة صريحة”(18)، وأكَّد أن “هؤلاء الذين قاموا في عداوة أهل التوحيد، واستنصروا بالكفار عليكم، وأدخلوهم إلى بلاد نجد، وعادوا أهل التوحيد وأهله أشدّ العداوة، وهم (الرشيد) ومن انضمَّ إليهم من أعوانهم= لا يشك في كفرهم، ووجوب قتالهم على المسلمين، إلا من لم يشمَّ روائح الدين، أو صاحب نفاق، أو شك في هذه الدعوة الإسلامية”(19).

كما أصدر مجموعة من علماء الوهابية، فتوى بتكفير الأشخاص الذين يدعون إلى ولاية الشريف على الحجاز، وجاء فيها: “فهؤلاء لاشك في ردتهم والحال ما ذكر، لأنهم دعاة إلى الدخول تحت ولاية المشركين، فيجب على جميع المسلمين جهادهم، وقتالهم، وكذلك من آواهم ونصرهم، فحكمه حكمهم”(20).

بل قرّر الشيخ سليمان بن سحيمان، وهو أحد كبار العلماء وقتها، بأن منْ هم تحت ولاية الملك عبد العزيز؛ الأصل فيهم أنهم مسلمون، بخلاف من هم ليسوا تحت ولايته، فالأصل فيهم أنهم ليسوا على الإسلام، يقول: “من في جزيرة العرب لا نعلم ما هم عليه جميعهم، بل الظاهر أن غالبهم وأكثرهم ليسوا على الإسلام! فلا نحكم على جميعهم بالكفر، لاحتمال أن يكون فيهم مسلم، وأما من كان في ولاية إمام المسلمين [أي نجد وما حولها]، فالغالب على أكثرهم الإسلام، لقيامهم بشرائع الإسلام الظاهرة… وأما من لم يكن في ولاية إمام المسلمين، فلا ندري بجميع أحوالهم وما هم عليه، لكن الغالب على أكثرهم ما ذكرناه أولا، من عدم الإسلام”(21).

هذه الأدبيات العقائدية، وقبلها الأدبيات السابقة لعلماء الدعوة، في مرحلة الدولة السعودية الأولى، والثانية، كانت هي المغذية لعقلية (الإخوان) المقاتلة. لقد نتج عن هذه التهيئة التثقيفية والتعبئة العقائدية الجهادية، أن تحولت القبائل البدوية خلال بضع سنين إلى السلفية الوهابية، بعد عقود من العداء وعدم الثقة والارتياح، وقد كان من أكبر دلائل هذا النجاح، هو إنشاء جيش عقائدي من البدو الموطّنين، أصبح يعرف باسم (الإخوان)، وسيساهمون بفعالية في عملية توحيد مناطق الجزيرة العربية تحت سلطان الملك عبد العزيز(22).

– 4 –

“لقد استفاد عبد العزيز، من خياله وجرأته، بأن غيّر البدو تغييرا جوهريا، خلال سنوات قلائل، ليحولهم إلى قوة خفيفة الحركة، تستطيع أن تجوب شبه الجزيرة العربية، بطولها وعرضها، كما جعل من البدو قوة مستقرة يمكن وضعها في مكان بعينه، إذا ما أراد لها ذلك، فعل عبد العزيز ذلك بدون جعجعة أو جلبة، إلى أن ظهرت هذه القوة على المسرح العربي، لأول مرة، جاهزة ومتشوقة لقتال، تحت اسم حركة (الإخوان)”(23).

 

وقد بدأ المسرح الدولي حينها، ممثلا في الحكومة البريطانية والعثمانية، يستشعر بخطورة هذه الحركة السرية التي أسسها الملك عبد العزيز، وقد كتب الشريف حسين 1918 إلى القائم بعمل المندوب البريطاني في جدة، يناشده قائلا: “… ومن ثمّ، فإن ما يقلقني قبل أي شيء آخر، هو أن صاحب جلالة الملك [البريطاني]، ينبغي أن يجبر الأمير [عبد العزيز]، على إلغاء وتسريح، ذلك التنظيم الذي يطلق عليه اسم (الإخوان)، تلك الجمعية السياسية التي ترتدي عباءة الدين”(24).

ويحتفظ مكتب السجلات العامة البريطاني، بتقرير كتبه ديكسون في اليوم الثاني من شهر سبتمبر/ أيلول من العام 1929، عندما كان مندوبا سياسيا في الكويت، حيث كتب يقول في ذلك الوقت: “الإخوان تأسست من ناحية أخرى على يدي ابن سعود، لتخوض له معاركه، وتنتصر فيها باسم الدين… ونظرا لأنهم كانوا إخوانا وتستعر داخلهم جذوة الدين، فقد أصبحوا بحق لا يقهرون، ويمكن تشبيههم بمدرعات كروميل، أو قوات العاصفة الألمانية”(25).

كما يحتفظ مكتب السجلات البريطانية لوزارة الخارجية، بتقرير مطول كتبه الرحالة جون فليبي، عن حركة الإخوان، وكان وقتها المسؤول البريطاني على المكتب السياسي ببغداد، ومما قال فيه: “وخلاصة القول هو، أن هدف ابن سعود من تقوية وإنشاء حركة الإخوان، هو زيادة قوته العسكرية، باستخدام أكبر عدد من رعاياه، حتى يمكن له تعويض الضعف الذي يكمن في الدولة البدوية وفي الجيش البدوي، والاقتصاد في موارده عن طريق إحلال الأمل في ثوب الآخرة محل الاعتبارات الارتزاقية”(26).

كما استنتج ريجنالد وينجات، المندوب السامي البريطاني في مصر، في تقرير كتبه سنة 1918، أن حركة الإخوان البدوية، جمعية سرية مغلقة، ذات طابع عقائدي وقتالي، ومما جاء فيه: “وليس لدي معلومات كافية عن قوة الإخوان وأهدافهم، حتى أتمكن من تقدير مدى تخوَّف الملك حسين من نفوذ الإخوان حق قدره، ولكني تعلمت من تجربتي في السودان، مدى الخطر الذي يشكّله تنظيم سرّي تحت عباءة الدين بين سكّان غير متحضرين، ففي وقت الشدة يلجأ مثل هذا المسلم إلى الدين، مثلما يلجأ بعض أفراد الدول النصرانية إلى المشرب الروحي، ويكون ذلك المسلم أيضا أكثر تعرضا لالتقاط الشرارة الأولى، من شرر التشدد الذي يتحول إلى حريق إذا ما أذكاه زعيمٌ غير حصيف، أو مضلل يستحيل السيطرة عليه، بأي حال من  الأحوال”(27).

وفي العام نفسه، كتب أحد الموظفين في وزارة الخارجية بلندن، الملاحظة التالية: “إن تقييم الملك حسين لحركة الإخوان تقييم صحيح، وسوف تكون هذه الجمعية معادية للحضارة في منطقة ما بين الرافدين وفي سوريا”(28).

وفي اليوم الثاني عشر، من شهر مايو/ أيار، لعام 1918، وصف الضابط السياسي البريطاني في بغداد، حركة الإخوان بأنها: “حركة اشتراكية، بمعنى أن الأغنياء يتعين عليهم أن يقتسموا بضاعتهم وسلعهم مع الناس”(29). وفي أواخر عام 1924، وصفت إحدى الصحف الأوروبية، حركة الإخوان بأنها: “حركة الإخوان الشيوعية تقريبا”(30).

لقد قال الملك عبد العزيز مرةً للرحّال البريطاني جون فليبي: “إنه يكفي أن أصدر النداء، ليهبَّ للقتال تحت رايتي ألوف، من بيشة  إلى نجران، ومن رنية إلى تثليث، ليس فيهم من لا يحب الموت في سبيل العقيدة، وكلهم يؤمنون بأن الفرار من الزحف يدخلهم النار”(31).

 

نحن إذن، أمام جيش عسكري عقائدي، يشبه إلى حدّ ما، ما كان يعرف في العصور الأوربية الوسطى بـ (فرسان المعبد)؛ أي الأشخاص العقائديين الذي تفرغوا للقتال المقدس، وانقطعوا عن كل ملذات الحياة. إذْ “لم تكن حياة البدو البائسة، تسمح لهم إلا بالقليل جدا من المباهج والملذات، ولم تكن هناك غرابة في أن يسعى البدو إلى الاستشهاد في ميدان القتال لكي يضمنوا لأنفسهم مكانا في الجنة”(32).

وبما أن الإخوان، اضطروا إلى بيع إبلهم وأغنامهم، المصدر الرئيس لحياتهم الاقتصادية، فقد صاروا يعتمدون إلى حدّ بعيد، إلى الإعانات التي كانوا يحصلون عليها من (بيت المال)، وتلك الإعانات الحكومية لم تكن نظير البطالة، وإنما هي أجر لتحقيق متطلب مهم من متطلبات الدولة، وهو الاستعداد العسكري والتعبئة الفورية، وتعرف هذه الإعانات بـ (العطايا)، وكان تصرف للشيوخ وأمراء القبائل وفرسانها وعموم المقيمين في المستوطنات (الهجر)، وكانت أسماؤهم مسجلة في ديوان الملك، تعرض عليه بشكل دوري، ويحدد فيها مقدار العطية والهبة لكل فئة.

– 5 –

لقد أصبح الإخوان، بعد سنوات قليلة، يشكلون نوعا من أنواع الطبقة المتميزة في الدولة الجديدة، فقد كانوا يعتبرون أنفسهم، أوصياء على أمن الدولة وعلى أخلاقها، وقد ولَّدت قوتهم السياسية والعسكرية المتزايدة بين صفوفهم شكلا من أشكال الغطرسة والتفوق الطبقي، الذي بدأ ينافس بل يتفوق أحيانا، طبقة الجماعات الأخرى مثل العلماء وأعيان المدن والقرى(33).

إضافةً إلى ما كان يتصف به الإخوان من التشدد، والحَرْفية في تطبيق المبادئ الوهابية، وعدم وجود الحلّ الوسط في ذهنيتهم، الأمر الذي تجلى في تنفيذ الأحكام القاسية على كل من يقصّر أو يتهاون في تطبيق السلوك الديني القويم(34)، كالتأخير في الحضور للصلاة، أو ممارسة بعض السلوكيات المحرّمة في نظر الوهابية، كالدخان والغناء وحلق اللحية وإسبال الثوب، أو عدم التزام المرأة بالحشمة ونحو ذلك، حيث كان يتم التعامل مع هذه (الانحرافات) بالضرب أو الجلد أو السجن.

وقد تصل العقوبة إلى القتل أحيانًا، إذا ظهر من المخالف ما يعتقد الإخوان بأنه ردة وكفر. إضافة إلى اعتقادهم بأنهم مسلمون، فثروة الكفّار المحيطين بهم، حلال وغنائم لهم.

ويبدو أن تشدد الإخوان، وتسلطهم على السكان، توسع وأصبح ظاهرة ملفتة، إلى الدرجة التي بدأت الحكومة البريطانية، والمتواجدة في أطراف المنطقة، ترصد ظاهرة ما تسميه في تقاريرها بــ(الهداية القسرية)، التي كان يمارسها الإخوان، ضد عامة المسلمين. فعلى سبيل المثال، رفع المفوّض البريطاني في الكويت هارولد ديكسون مذكرة يصف فيها الموقف على النحو التالي: “كانت الهداية القسرية إلى عهد قريب جدا أداة من أدوات الإيمان بين الإخوان، ومن المؤكد أن أداوتهم هي التي أحدثت تبرما بين أهل الحجاز والبلاد المجاورة”(35).

وكتب النقيب جارلند بأن هناك اعترضا شديدا “على الأساليب الوحشية التي يلجأ الإخوان إليها، لتنفيذ الهداية القسرية ومعاقبة المخطئين، أكثر من الاعتراض على مبادئ المذهب نفسه، وليس هناك من شك في أن البدو أنفسهم [الذين لم ينضموا إلى الإخوان] كان يتم ترويعهم بطريقة منظمة من خلال عملية الهداية القسرية، وأن ممارسة الهداية القسرية ومعاقبة المخطئين كانا يصلان إلى حدّ الموت”(36).

“لقد أصبح واضحا لعبد العزيز، أن الإخوان خرجوا عن السيطرة، وأصبحوا متغطرسين”(37)، ويستخدمون السلطة في فرض الشريعة بالقوة دون أخذ الإذن منه، خصوصا بعد إنجازاتهم العسكرية المبهرة، في إسقاط إمارة الشريف بالحجاز، وإمارة آل الرشيد بحائل، وإخماد بعض التمردات والانشقاقات التي كانت تحصل في الجنوب الغربي من الجزيرة، فكانوا دائما يعزون هذه الانتصارات لقوتهم وتضحياتهم وشدة بسالتهم في القتال.

 

وفي مثل هذا الوضع، من الطبيعي أن تذهب الأمور، إلى الاختلاف والتوتر والنزاع بين تنظيم الإخوان والسلطات المركزية في الإمارة، وقد بدأ الإخوان بالفعل يتذمرون من الملك شخصيا، وينكرون عليه سياساته الحديثة التي كان الواقع الجديد يفرضها عليه، كمسألة الحدود الجغرافية السياسية للدولة، حيث كان الملك حريصا على إنجازها من خلال اتصالاته وتفاهماته مع الحكومة البريطانية، التي كانت مهيمنة على المناطق المجاورة حينها… ولكن الإخوان يعتقدون بأن الدين الحق لا ينبغي أن يُحدّ بجغرافيا معينة تسمى الدولة، بل سلطة الدين القويم والعقيدة الصحيحة يجب أن تمتد وتتسع جغرافيا بحسب القدرة على القتال، ولهذا استمروا في الجهاد ضد البدو والمناطق المجاورة في جنوب العراق والكويت والأردن، يفرضون عليهم الجزية، ويغنمون منهم، بدون أخذ الأذن من الملك.

ويضاف إلى ذلك، إنكارهم استعمال الحكومة لبعض المخترعات الحديثة، كالتلغراف، والتليفون، والسيارة، والدراجة، والساعة ونحو ذلك، وبعضهم كان يعتقد بأنها قد تكون نوعا من السحر المحرّم(38).

إضافة إلى انخراطهم في تطبيق الشريعة على الناس في بعض المناطق، بصرامة وقسوة، وإنْ ترتب عليها الاعتداء على السكان، كما حكموا بالردة والكفر على كثير من رعايا الملك ممن دخلوا تحت دولته، علما بأنهم كانوا ينطلقون في ذلك من كتابات وفتاوى علماء الوهابية، قديما وحديثا، كما سبق معنا.

– 6 –

عندها اضطر كبار علماء الوهابية أن يتدخلوا، وقد أعلنوا سلفا تحالفهم وتضامنهم المطلق مع الملك ومباركتهم لدولته الحديثة، والتي رأوها امتدادا طبيعيا لحالة التعاقد بين (الأمير والشيخ). لقد كان تدخلهم حازما وسريعا، حتى لا تنفلت الأمور أكثر من اللازم، حيث وجدوا أنفسهم لأول مرة أمام تمرَّد ديني من داخل مجتمع الدعوة، من الأتباع الذين كانوا قد تتلمذوا على تعاليمهم وقاتلوا معهم ضد (الكفار والمشركين) وساهموا في إقامة دولة التوحيد، فكان لا بدَّ من فرض السلطة المركزية في إدارة المعنى الديني وتفسير التعاليم الوهابية، حتى لا تكون متاحة لكل من هبّ ودب، فالعلماء الكبار (من ذرية محمد بن عبد الوهاب أو من أتباعه المشهورين والمعترف بهم) هم المالكون الحقيقيون لإصدار التعاليم والفتاوى، ولا سبيل للنجاة في الدارين إلا باتباع تعاليمهم وتنفيذ أوامرهم؛ “فمن زهد في الأخذ عنهم، ولم يقبل ما نقلوه، فقد زهد في ميراث سيّد المرسلين، واعتاض عنه بأقوال الجاهلين الخابطين، الذين لا دراية لهم بأحكام الشريعة”(39)؛ إذ “ليس كل من انتسب إلى العلم، وتزيّا بزيّه، يُسأل ويستفتى وتأمنونه على دينكم”(40).

كما أنكروا عليهم، تطاولهم في مخاطباتهم للملك عبد العزيز، بل وعزمهم على خلعه والخروج عليه، قائلين: “ونحن نبرأ إلى الله من ذلك، وممن فعله أو تسبب فيه، أو أعان عليه، لأنا ما رأينا من الإمام عبد العزيز ما يوجب خروجكم عليه، ونزع اليد من طاعته، وإذا صدر منه شيء من المحرمات، التي لا تسوغها الشريعة، فحسب طالب الحق الدعاء له بالهداية، وبذل النصيحة على الوجه المشروع”(41).

كما قد لاحظ كبار العلماء، تطاول الإخوان عليهم شخصيا، والاستهزاء بهم، والتشكيك في نزاهتهم واتهامهم بالمداهنة، فعاجلوهم برد صارم في بيانات أصدروها، جاء فيها:

“ومما ينبغي التنبيه عليه: ما وقع من كثير من الجهلة، من اتهام أهل العلم والدين، بالمداهنة والتقصير، وترك القيام بما أوجب الله عليهم من أمر الله سبحانه، وكتمان ما يعلمون من الحق، والسكوت عن بيانه، ولم يدر هؤلاء الجهلة، أن اغتياب أهل العلم والدين، والتفكه بأعراض المؤمنين، سمّ قاتل، وداء دفين، وإثم واضح مبين”(42)، ثم إنكم “كنتم أولا في جاهلية عريضة، وحالة عن الحق بعيدة، ورؤساؤكم أكثرهم طواغيت كبار، وعوامكم جفاة أشرار، لا تعرفون حقائق دين الإسلام، ولا تعملون من الحق إلا بما تهوى به نفوسكم، مع ما كان بينكم، من سفك الدماء، ونهب الأموال، وقطيعة الأرحام، وتعدي حدود الله، وغير ذلك من المحرمات وعظيم المنكرات. ثم هداكم الله لمعرفة دينه، والعمل بتوحيده، وسلوك مسلك أهل الإسلام والتوحيد، وانتشرت بينكم كتب السنن والآثار، ومصنفات علماء الإسلام، ثم أنتم الآن انتقلت بكم الأحوال، إلى أنكم تحاولون الخروج على الإمام، ومنابذة أهل الإسلام ومفارقة جماعتهم”(43).

إلى آخر ما أصدره علماء الوهابية، وتحديدا ما بين سنتيْ 1919 و 1920(44)، من الفتاوى الجماعية التي بسطوا فيها الخطاب الوهابي الجديد الذي يتناسب مع الاشتراطات الجديدة لطبيعة الدولة السعودية الحديثة.

 

ولكن (الإخوان) لم يرضخوا ويُذعنوا لهذه الفتاوى الجديدة، التي رأوا فيها انقلابا وانتكاسة لما كانت عليه الوهابية الحقيقية من وجهة نظرهم، وأخذوا يجادلون العلماء بنفس الكتابات والتعاليم التي أصدرها سابقا أئمة الدعوة في العهدين القديمين: الأول والثاني للإمارة السعودية.

حينها اضطر العلماء، إلى تكفير حركة (الإخوان) وإخراجهم من الإسلام، ووجوب قتالهم وجهادهم، فأصدروا الفتوى التالية: “وأما قول السائل، إنهم (أي الإخوان)، يرون أن جميع المسلمين وولي أمرهم، ليسوا على حق، فهذا من ضلالهم، ومن الأسباب الموجبة لكفرهم، وخروجهم من الإسلام… أما من أجاب دعوتهم، وساعدهم من أهل نجد، فحكمه حكمهم، يجب على جميع المسلمين قتاله وجهاده، وأما من أبى عن جهادهم، وادّعى أنهم إخوان له، وأنهم على حق، فهذا حكمه حكمهم”. (انظر الدرر السنية:9/210).

ويبدو أن الإخوان كانوا يشعرون بمرارة (الانقلاب) من علمائهم الكبار؛ ففي حين كان العلماء وأتباعهم يصدّعون الأسماع، وفقا لمبدأ الولاء والبراء، بتحريم كل أنواع الاتصال السلمي بالمشركين، بل وتكفير كل من رضيَ سياسيا بالتحالف والانضمام للدولة العثمانية، نرى الآن الملك ومستشاريه وبمباركة علماء الوهابية الجديدة، يقيمون علاقات دبلوماسية مع هذه القوى الأجنبية الكافرة، هكذا يرى الإخوان كيف تسير الأمور، وفق رؤيتهم للعالم التي غذَّتها التعاليم الوهابية القديمة، أو كما فهموه من تلك التعاليم(45).

وفي حين كان العلماء يصدّعون الأسماع بالبراءة والمعاداة لكل الطوائف والمذاهب التي تمارس الكفر والبدع أو تتصالح معها، نجد كبار علماء الوهابية الآن يجيزون للملك التسامح معهم واستيعابهم في الدولة، وتركهم وعدم إجبارهم، والاكتفاء بمجرد دعوتهم بالحكمة والرفق والتدرج، ولكن الإخوان يرفضون هذه (المداهنة) و(الميوعة) و(الليونة) في الحق بحسب تصورهم الذي تم تغذيتهم به أثناء تكوّنهم الفكري في الهجَر الوهابية. وحين حاول الإخوان أن يفرضوا العقيدة الصحيحة والسلوك القويم على الناس بالقوة، في بعض المناطق، خاصة في الحجاز، استنكر علماء الوهابية أفعالهم ودعوهم إلى اعتماد وسائل أكثر لينا وحكمة، بعد أخذ الإذن من السلطات.

 

ومهما كان أمر هذا السجال والصراع الديني، وكيف انتهى سياسيا وعسكريا، إلّا أننا نشهد فيه أول تمرد وانشقاق للسلفية الوهابية بصورة ظاهرة وجلية، أو بالأصح صرنا أمام وهابيتين: وهابية العهد القديم، ووهابية العهد الجديد: وهابية ملتزمة بحرفية نصوص الآباء المؤسسين، ووهابية تتعاطى نصوصها بنظرة أكثر واقعية وذرائعية.

هذا الانقسام والانشطار لم ينتهِ بمجرد الحسم العسكري للجماعات المتمردة، بل بقيت أفكار الوهابية القديمة تنتقل جيلًا بعد جيل، إلى يومنا هذا، فالجماعات الجهادية -على سبيل المثال- والتي تتبنى نهج العنف والتكفير والقتال، تستمد مقولاتها العقائدية، من تعاليم (وهابية العهد القديم)، بل رأينا معظم منظّري القاعدة ينطلقون في أطروحاتهم وتأصيلاتهم من كتابات ذلك العهد. وحين يقوم أتباع الوهابية (اليوم) أو ما يعرف بالسلفية الحركية، بمواجهة تلك الجماعات، أو الوهابيات المتطرفة، والانخراط في صراع معها، فهم لا يفعلون شيئا مؤثرا سوى أنهم يعيدون نفس التاريخ الذي حدث بين الوهابية المتصالحة والمتحالفة مع الدولة، والوهابية الجامدة والمتمردة والمقاتلة!

 

إنه (صراع التأويلات)، الصراع على تأويل نصوص العهد القديم للوهابية، وهو صراع مستمر، بين وهابيتين: وهابية تؤمن بالواقعية والبراجماتية، ووهابية تؤمن بالوفاء لتعاليم العهد القديم، وكلا الوهابيتين تدعي بأنها الممثل الشرعي للدين الحق.

ففي حين كان الإخوان يكفِّرون الدولة، بسبب اتصالها بالحكومة البريطانية، وعقد الاتفاقات معها، اتباعا منهم لتعاليم وهابية (العهد القديم) وتطبيقا لنصوصها القديمة في تكفير كلّ من تحالف مع العساكر التركية؛ نجد أن هؤلاء الإخوان أنفسهم، أجازوا لزعمائهم فيما بعد، التواصل مع الحكومة البريطانية، ومحاولة عقد الاتفاقات معها، واللجوء إليها، والاستجارة بها، عندما ضاقت عليهم الأرض، جراء الخسائر والهزائم المتتالية التي تعرضوا لها من عساكر الملك عبد العزيز(46). ولكي لا يبدون متناقضين أمام أتباعهم، كانوا يبررون لهم هذا السلوك السياسي، بأنهم مقتدون بالصحابة، حين هاجروا إلى الحبشة النصرانية، وتركوا عشيرتهم الكافرة.

الأمر الذي دفع كبار علماء وهابية (العهد الجديد) إلى إصدار الفتوى بتكفير أولئك (الإخوان) بسبب اتصالهم بالحكومة البريطانية (الكافرة) ولجوئهم إليها؛ فــ “هؤلاء الذين ذكرهم السائل، وهم العجمان والدويش، ومن تبعهم، لا شكَّ في كفرهم وردتهم، لأنهم انحازوا إلى أعداء الله ورسوله، وطلبوا الدخول تحت ولايتهم، واستعانوا بهم، فجمعوا بين الخروج من ديار المسلمين، واللحوق بأعداء الملة والدين، وتكفيرهم لأهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم”(47). تصدر هذه الفتوى، في الوقت الذي كان أولئك العلماء يجيزون للملك التواصل مع ذات الحكومة البريطانية (الكافرة)، “لأنه إمام المسلمين، والناظر إلى مصالحهم، ولابدّ له من التحفظ على رعاياه وولايته، من الدول الأجانب”(48).

 

إن كلا الوهابيتين وجهان لنمط واحد؛ نمط يدّعي بأنه الوحيد الذي يملك الحقيقة الدينية بصفة مطلقة، وأنه الممثل الشرعي والوحيد للعقيدة الصحيحة، وأنه المرجع الوحيد في فهم السلوك القويم المؤدي للنجاة في الآخرة، وبالتالي يحق له إنتاج المعنى الديني وإدارته وتطبيقه وفرضه في الواقع دون الآخرين.

ولكن بالرغم من كل ذلك، وللموضوعية، والإنصاف، لا يمكن جعل الوهابية، في تجلياتها الجديدة، بعدما انخرطت في مشروع الدولة الحديثة ومتطلباتها، وأصبحت تساير ضغوطات الحداثة، لا يمكن وضعها في صف واحد مساوية للوهابية التقليدية، والتي ما زالت تلتزم، وبصورة حرفية، بتعاليم العهد القديم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.