الكاتب : محمد الكناوي
بتاريخ : 4 مايو، 2025 - 11:44
ريحانة برس
يمر يوما 8 و9 ماي كباقي الأيام العادية في المغرب، لا عطلة ولا تظاهرات ولا أنشطة تخلد لانتهاء أكبر مأساة مرت بها البشرية في القرن العشرين، وكأن احتفالات النصر على النازية الألمانية ومن كان معها فيما يعرف بـ”دول المحور” لا تعني المغاربة في شيء، غير أن الحقيقة التاريخية تكمن في كون المغرب، وإن لم تجر على أراضيه أحداث الحرب العالمية الثانية إلا أنه كان فاعلاً فيها، سواء من خلال مشاركة أبنائه كجنود فيها إلى جانب قوات التحالف أو من خلال تسخير موارده الطبيعية والاقتصادية لدعم القوات الفرنسية.

كان للملك محمد الخامس رحمه الله الأثر الكبير على انبراء المغاربة للدفاع عن فرنسا بالانضمام إلى جيشها ومن تم إلى جيوش التحالف. فمنذ اندلاع الحرب الكونية في شتنبر من سنة 1939 اعتبر الملك من الواجب على المغاربة الدفاع عن فرنسا وتقديم الدعم لها بقوله: “من الآن وإلى اليوم الذي تُكلل فيه جهود فرنسا وحلفائها بالنصر يجب علينا، أن نقدم لها كل المساعدة دون أي تحفظ ولن نشح عليها بمواردنا، ولن نتردد في تقديم أي تضحية”. وكان موقف الملك بمثابة نداء للمغاربة لمؤازرة فرنسا في حربها ضد النازية والفاشية، ومباركة منه للراغبين في الوقوف في وجه الشر المطلق وتشجيعا لهم للانخراط في صفوف القوات الفرنسية.

تتضارب المعطيات حول عدد المغاربة الذين شاركوا في حرب تحرير أوروبا من براثين النازية، فبعض المصادر تتحدث عن مشاركة حوالي 85.398 جنديا مغربيا في المعارك ضد النازية فوق الأراضي الأوروبية، قُتل منهم 15 ألف، وبلغ عدد الجرحى منهم حوالي 26.400 فرد. وقدر المؤرخ المغربي عبد الحق المريني، في كتابه “الجيش المغربي عبر التاريخ”، عدد القتلى المغاربة في الحرب العالمية الثانية بما يزيد عن 80 ألف قتيل و28 ألف جريح و7000 أسير.

وإن اختلف المؤرخون في عددهم، يشهد الباحثون في تاريخ الحرب العالمية الثانية أن المغاربة أبلوا البلاء الحسن، وعرفوا بشجاعتهم وشراستهم في القتال بالرغم من معداتهم التقليدية في مواجهة الفيرماخت المدجج بأحدث الأسلحة.
وما تزال مقابر عدة فوق التراب الأوروبي شاهدة على التضحيات الجسام التي قدمها المغاربة في سبيل عتق الأوروبيين من أغلال النازية والفاشية، كمقبرة “شاستر” ضواحي العاصمة البلجيكيّة برُوكسِيل، ومقبرة “دووا” في فيلوربان، على الحدود مع مدينة ليون الفرنسية، ومقبرة “كابيل” في هولندا، ووصل الجنود المغاربة ضمن القوات الفرنسة حتى مدينة فورالبرغ في النمسا. ومقبرة فينافرو بإيطاليا وهي مقبرة فرنسية فوق الأراضي الإيطالية، معظم من يرقد فيها جنود مغاربة لقوا حتفهم في معركة كانت فاصلة في الحرب العالمية الثانية، لأنها أدت إلى إسقاط خط غوستاف الألماني المنيع. حيث كُلف المغاربة بالسيطرة على قمة كاسينو الاستراتيجية، المحصنة بحواجز إسمنتية ومواقع مدفعية وأسلاك حديدية شائكة.
ونظرا لكون المنطقة جبلية ووعرة شبيهة بجبال الأطلس، دُفع بالفرقة المغربية إلى الصفوف الأمامية من أجل السيطرة على هذه القمة، باعتبارها قلب دفاع خط غوستاف، واستغلت الفرقة المغربية خبرتها الحربية في الجبال التي اكتسبها افرادها في المغرب في مناوشاتهم ضد الاستعمار الفرنسي والاسباني، واستعملت الدواب لتجاوز المسالك الوعرة المنيعة على وسائل النقل الحديثة لإيصال المعدات العسكرية، واستطاعت خرق دفاع الألمان وفتح المجال لقوات التحالف للتقدم وإلحاق الهزيمة بالألمان وتعقبهم حتى الوصول إلى مدينة روما، وهناك خاض المغاربة آخر معاركهم في إيطاليا ضد النازيين والفاشيين.
وعلى عكس الجنود الأفارقة والمغاربيين من الجزائر وتونس الذين أُجبروا من طرف سلطات الاستعمار الفرنسي على الاتحاق بقواتها العسكرية، فإن المغاربة انخرطوا في الحرب إلى جانب فرنسا والحلفاء ضد النازية تلبية لنداء الملك محمد الخامس الذي دعا فيه المغاربية لمؤازرة فرنسا، وتُليَ هذا النداء في المساجد يوم الجمعة فوجد. وأُريد لهذه المشاركة ألّا تكون مجرد انخراط مقاتلين مغاربة في صفوف الجيش الفرنسي أملته الظرفية القائمة في المغرب المتمثلة في الحماية الفرنسية، بل ليشهد العالم على أن المغاربة قوم ذو مبادئ هب ليحارب ضد العنصرية، واضطهاد الشعوب في سبيل الحرية والانعتاق كقيم إنسانية، بالرغم من أن بلده لا تعنيه هذه الحرب، وبالتالي يحق لهذا القوم الذي يضحي من أجل حرية غيره أن ينعم بدوره بالحرية والاستقلال. وقد أبلغ هذا المغزى ملك المغرب محمد الخامس الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أثناء انعقاد مؤتمر أنفا في الدار البيضاء ما بين 14 و24 يناير من العام 1943 الذي جمع كل من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل والجنرال الفرنسي شارل دوغول والملك محمد الخامس.
وحتى من الناجية الشكلية، تميز المغاربة بزيهم المغربي الأصيل، المتمثل في الجلباب القصيرة، وأطلق عليهم اسم “الگوم” المشتاق من كلمة “قوم”، وذاع صيتهم في صفوف العدو على أنهم مقاتلين أشداء وشرسين لا يعرفون الاستسلام ولا يهابون الموت، ولقبوهم الجنود الألمان بـ«مبتلعي الموت». واستغلت فرنسا سمعتهم لصالحها، إذ عملت دعايتها على الترويج لهم على أنهم شرسين للغاية ومتوحشين جاؤوا من أفريقيا، مما جلب إليهم انتباه الأعداء والحلفاء ورسخهم في أذهانهم.
تضحيات المغرب في سبيل حرية الأوروبيين لم تقتصر على الإنسان بل شملت حتى المتاع والحيوان، أولا تلبية لنداء ملك البلاد، ثم قسراً بعدما عمدت سلطات الحماية إلى توجيه كل خيرات البلاد لتلبية حاجيات جبهات القتال بفرنسا في إطار ما عرف بـ”المجهود الحربي”، فسادت المجاعة في المغرب وتفشت الأمراض المختلفة وتراجع عدد سكان المغرب وأصبح سنة 1944 و1945 فترة سوداء في تاريخ المغرب، بل مرجعاً للفصل بين الأحداث، ما قبل وما بعد هذه الفترة، التي سميت بأسماء كثيرة تشير إلى القلة والندرة والخصاص في المواد الغذائية، مثل عام “الجوع” وعام “بوهيوف” وعام “البون”…
ها نحن الآن على بعد أيام قليلة من تخليد الذكرى 80 للنصر على النازية ولم يبق من تلك الذين ساعفهم الحظ وعادوا لأهلم أحياء إلّا القليل. ويحز في النفس أن نرى كل التضحيات الجسام التي قدمتها شعوب العالم والمعاناة الكبيرة التي تكبدتها البشرية أثناء الحرب وبعدها مهددة بأن تذهب أدراج الرياح. فتخليد ذكرى الانتصار على الشر المتمثل في الأيدولوجيات المتطرفة مثل النازية والفاشية لم يعد من أجل ألّا ننسى ونتقي مسببات حدوث هذا الشر. العالم الغربي يسير تدريجيا لإعادة التجربة النازية أو الفاشية، وهو يعمل على هذا المخطط منذ مدة. أولا من خلال محاولة نسب النصر لنفسه وانكار تضحيات غيره. وتظهر بجلاء هذه المحاولة في كتب المقررات المدرسية، سواء في ألمانيا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا، حيث بالكاد يتم الإشارة مثلا إلى دور الاتحاد السوفييتي الحاسم في هزم هتلر وحلفائه، بل يُكاد يُسوّى بين الشيوعية والنازية والفاشية في هذه الكتب، باعتبار كل هذه الإيديولوجيات شر لاديمقراطية وشمولية لا تحترم حقوق الانسان. الفضل في نهاية الحرب يعود للأمريكيين، حسب هذه الكتب، باستعمالهم القنابل الذرية على اليابان، ولا إشارة إلى أن الحرب انتهت بدخول الجيش الأحمر برلين، فما بالك بدور الشعوب الصغيرة التي كانت هي نفسها تحت رحمة الاستعمار. فحتى جنودها الذين ساروا في الصفوف الأمامية ليخترقوا الحواجز الدفاعية المنيعة وكتبت لهم الحياة بقوا طوال حياتهم يطالبون بمساواتهم مع زملائهم الأوروبيين في المعاش دون جدوى، وجلهم رحل وفي حلقه غصة.
والغريب في الأمر، بعد مرور 80 حولا يظهر في دول عديدة من يمجد الشخصيات التي آزرت النازية ويحولها من مجرم إلى أبطال وطنيين ويقيم لهم التماثيل في الساحات العمومية، كما هو الحال في أوكرانيا التي أقامت عشرات التماثيل والمجسمات لـ ستيبان بانديرا، الذي حارب ضد الجيش السوفييتي إلى جانب النازيين، وحولته لبطل قومي، وصار بعض السياسيين الأوروبيين يشيدون بأفعاله في المحافل الدولية.
فرنسا على الخصوص وأوروبا بشكل عام على حافة هاوية التطرف وإعادة انتاج السياسات العدائية تجاه الغير، حتى لا نقول نازية جديدة. هتلر بنى سياسته على العداء لليهود وربط كل المشاكل بهم، والآن في أوروبا يتكرر نفس السيناريو، فالأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة تمعن في العداء للمهاجرين وتربط كل المشاكل بهم، وجعلت هذا العداء في قلب برامجها الانتخابية، والورقة الرابحة في سباقاتها السياسية وتفوقت في محطات عديدة على الأحزاب اليسارية والليبرالية أو اليمينية المعتدلة. والطامة الكبرى تكمن في كون هذه الأحزاب المعتدلة بدأت بدورها تميل شيئا فشيئا لاستعمال ورقة الهجرة في الانتخابات. وهتلر نفسه وصل للحكم عن طرق الانتخابات.
للتوضيح، تخلد الدول الغربية ذكرى الانتصار يوم 8 ماي بينما كان المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي يخلد هذا الحدث في اليوم الموالي 9 ماي. وبعد انهياره واصلت روسيا ومن معها في “رابطة الدول المستقلة” الاحتفال بيوم النصر، وتطلق عليه روسيا أيضا “يوم النصر في الحرب الوطنية العظمى” يوم 9 ماي من كل سنة، باستثناء أوكرانيا التي أصبحت منذ 2023 تحتفل به مع الأوروبيين.
المصدر : موقع ريحانة برس
إرسال تعليق