يجري الحديث في العلوم التجريبية عن الفروض، وهذه كي تصبح قانونا أو قاعدة، لا بد من إخضاعها للتجريب. وعنوان هذا المقال بالنسبة للمتدينين المفترضين
يجري الحديث في العلوم التجريبية عن الفروض، وهذه كي تصبح قانونا أو قاعدة، لا بد من إخضاعها للتجريب. وعنوان هذا المقال بالنسبة للمتدينين المفترضين عندنا، ليس فرضا ذا دلالة علمية، وإنما هو في نظرهم مجرد محاولة مني لتقديم صورة سيئة عن واقع مثالي ينتصب أمامنا شامخا في بلد، أسفرت الدراسات الميدانية المزعومة عن كونه يحتل المرتبة الثالثة عالميا في التدين! بعد كل من مصر وبانغلاديش! (تنظر الخريطة الصادرة عن معهد “غالوب” الأمريكي منذ أعوام).
والفروض في هذا المقال ليست هي الواجبات الدينية الفقهية كما يتبادر إلى الأذهان، وإنما نقصد بها مفرد الفرض، أو الفرضية التي هي تفسير مؤقت لوقائع أو لأحوال. إنها في البداية ظنية، وإن أيدتها التجربة أصبحت قاعدة عامة، وإن لم تؤيدها، بقيت رهينة الظن والتخمين. فصح أن يتم رفضها خاصة متى كان موضوعها ظاهرة اجتماعية عامة كالتدين!
ففي “المدخل إلى الطب التجريبي” يقول كلود برنار: “فرضت أن منع الأرانب من الأكل مدة من الزمان، يحولها إلى حيوانات آكلة للحوم”! وما افترضه هنا لن تقبل به العقول بدون ما أدلة مخبرية قوية! كما أن القول بكون سقوط جسمين من على برج، أحدهما ثقيل وثانيهما خفيف، سوف يصلان إلى الأرض في نفس اللحظة، لن يقبل به الناس العاديون، حتى ولو كانوا مثقفين، إن لم تكن لهم بالعلوم الفزيائية صلة. بينما الواقع التجريبي داخل المختبرات العلمية، يعطينا براهين على أن ما بدا لنا بالعين المجردة مستحيلا، هو الواقع الذي حال دوننا ومعرفته تدخل الهواء لعرقلة سير الأجسام في اتجاه معين!
فعنوان مقالي هذا “كل الطرق الصوفية على غير المذاهب الفقهية” هو بالنسبة لي فرض، أجريت عليه اختبارات تلو أخرى منذ عهد بعيد، فكان أن تحققت من صحته، وإلا ما أدليت به، لإمكان تعرضي للمخاطر التي سوف تنجم عن محاصرتي بانتقادات شديدة من طرف الطرقيين قبل أية أطراف أخرى! خاصة وأن مدلوله في النهاية، هو الحكم بأنه لا وجود لأي طرقي تابع لأي مذهب فقهي على الإطلاق!
وهذا الحكم الذي أتوقع أن يلقى احتجاجات مستنكرين كثر من جهات عدة، لا بد لي من البرهنة على صحته، وحتى إذا ما انتهى إلى من يهمهم أمره، كان عليهم نقلا وعقلا تفنيذه بأدلة قاطعة ، وإلا فإنهم كما وصفت، غير ملتزمين باتباع أية مذاهب فقهية! وإليكم أدلتي على ما أدعيه:
1- ما الأفضل في الدين: قول الرسول وفعله وتقريره؟ أم قول وفعل وتقرير غيره فيه؟
2- ما الذي تعنيه الإجابة عن السؤال الأول بالنفي؟ وعن السؤال الثاني بالإيجاب؟
3- أولا نستخلص من الإجابتين كلتيهما ميل المجيبين الصريح إلى الاستهانة بالسنة النبوية من جهة! وإلى الدعوة المفضوحة إلى تجاوزها لتقديم مبتدعات في الدين غير مسموح بها عقلا ونقلا من جهة ثانية.
4- هل أمرنا الله عز وجل باتباع الكتاب والسنة؟ أم إنه أمرنا بتشويه أو بتحريف ما ورد فيهما كمصدرين أسايين للدين؟
5- هل الأئمة الأربعة جميعهم، ملتزمون بما أمرنا به الله ورسوله؟ أم إنهم غير ملتزمين به؟
6- وعلى افتراض أنهم غير ملتزمين به، فهل لنا أن ننتمي إلى مذاهبهم الدينية على العموم، وإلى مذاهبهم الفقهية على الخصوص؟
7- هل يمكن أن ننسب إلى الأئمة الفضلاء بدعا معروفة لدى الطرقيين في مجالي المعتقدات والعبادات؟ أم إن العكس هو الصحيح؟
8- هل نحن مقتدون بهم كما ندعي؟ أم إن ما ندعيه لا يعدو أن يكون مجرد أكذوبة، واقع التدين عندنا يفضحها ويفضحنا معه؟
وحتى نجيب على كل هذه الأسئلة المطروحة بوضوح تام، نسوق أولا بعض صفات أهل العلم. ثم نسوق ثانيا علاقة الأئمة الأربعة بكتاب الله وسنة مجتباه:
أولا: قال عبد الله بن مسعود: “ليس العلم بكثرة الحديث، ولكن العلم الخشية” (= التقوى والورع بدليل قوله عز وجل: “إنما يخشى الله من عباده العلماء”).
وقال الترمذي في جامعه: “كان العلماء من السلف الصالح أهل نسك وعبادة وورع وزهادة. أرضوا الله تعالى بعلمهم، وصانوا العلم فصانهم، وتذرعوا من الأعمال الصالحة بما زانهم. ولم يشقهم الحرص على الدنيا وخدمة أهلها. بل أقبلوا على طاعة الله التي خلقوا لأجلها، فأولئك هم الذين عناهم الشافعي بقوله: ” إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فما لله ولي”!!! (وهل مشايخ الطرق الصوفية فقهاء حتى يكونوا لله أولياء)؟
وقال وهب بن منبه: “كان العلماء قبلنا قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى دنياهم. وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم في علمهم (= شراء الذمم والضمائر!). فأصبح أهل العلم منا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم، رغبة في دنياهم (= واقع علمائنا في عصرنا الماثل). وأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم. (اللهم) فجنبنا طريقة قوم لم يقوموا بحق العلم! وأرادوا به الدنيا! وأعرضوا عما لهم به في الآخرة من الدرجة العليا! فلم يهنئوا بحلاوته، ولم يتمتعوا بنضارته، بل خلقت عندهم ديباجة ورثت حاله، وعرف مقداره جماعة من السادة فعظموه ووقروه واستغنوا به، ورأوه بعد المعرفة أفضل ما أعطي البشر، واحتقروا في حينه كل مفتخر وتلوا “فما آتاني الله خير مما آتاكم”. وكيف لا يكون الأمر كذلك والعلم حياة، والجهل موت، وما بينهما كما بين الحياة والموت”!!!
ثانيا: قال مالك بن أنس: “إنما أنا بشر، أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافقهما فاتركوه”! وقال كذلك: “كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر”. يقصد النبي صلى الله عليه وسلم. وكان كثيرا ما يردد هذا البيت:
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
وقال أبو حنيفة: “آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد فيه، فبسنة رسول الله، وإن لم أجد في كتاب الله وسنة رسول الله، آخذ بقول أصحابه، ثم آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم. فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، وابن سيرين، والحسن، وعطاء، وسعيد بن المسيب – وعد رجالا من التابعين – فقوم اجتهدوا وأنا أجتهد كما اجتهدوا”!
وقال الشافعي رحمه الله: “ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها جهدا، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول: “ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا”. فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه”! وقال: “من تبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقته، ومن غلط فتركها خالفته. صاحبي اللازم الذي لا أفارقه: الثابت عن رسول الله”.
وقال أحمد بن حنبل: “لا تقلد في دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين”. ثم إن الرجل بعد ذلك حر في الاختيار. ثم قال: “لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا، وقال : من قلة فقه الر جل أن يقلد دينه الرجال”!
وهذه نصوصهم رضي الله عنهم كما سمعتها أيها القارئ المهتم بالتحقق من واقع من يمارسون السنة ويدافعون عنها، ومن واقع من يمارسون المبتدعات ويروجون لها “وأقوال أئمة العلم – في النصوص المتقدمة للأئمة الأربعة – كثيرة جدا، على أنه معلوم من صفات العالم أنه لا يرتضي أن يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صحته أو حسنه قول نفسه ولا قول غيره! وإلا لم يكن عالما متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم!!!
إنها إذن مواقف مشرفة بخصوص التعامل مع سنة رسول الله. إنها مواقف من كبار أئمة الفقه، وإن لم نقم سوى بذكر أربعة منهم مشهورين. إلا أنه يهمنا التركيز أكثر على عالم المدينة الذي تقتدي به الملايين في العالم الإسلامي، على حد زعم حكامه العلمانيين في الوقت الراهن! وعلى حد زعم السائرين في ركابهم من العلماء الرسميين! فقد كان مالك حقا مصباحا لم تستطع سياسة أولي الأمر إطفاءه، ولا كان ممن تؤثر فيهم الهدايا والهبات! فقد خاطب هارون الرشيد بقوله: “يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأمر بطاعته واتباع سنته. وأن نرعاه حيا وميتا. وقد جعلك في هذا الموضع لعلمك (لكونك عالما)، فلا تكن أنت من وضع العلم (= من ضيعه)، فيضعك الله… الله الله! لقد رأيت من ليس في حسبك ولا نسبك من الموالي وغيرهم، يعز هذا العلم ويجله ويوقر حملته، فأنت أحرى أن تجل علم ابن عمك” (ترتيب المدارك. 2/22. من مطبوعات وزارة الأوقاف المغربية)!
وورد في باب “ذكر عبادة مالك وورعه وخوفه وعزلته وإجابة دعائه” ما سجله القاضي عياض في الصفحة 53-54 من المرجع المذكور للتو: “قال التنيسي (= راوي الحكاية): كنا عند مالك وأصحابه حوله. فقال رجل: عندنا قوم يقال لهم الصوفية! يأكلون كثيرا! ثم يأخذون في القصائد! ثم يقومون فيرقصون! فقال مالك: أصبيان هم؟ قال الرجل: لا. ثم قال مالك: أمجانين هم؟ أجاب الرجل: هم قوم مشايخ وغير ذلك (هم) عقلاء! فقال مالك: ما سمعت أن أحدا من أهل الإسلام يفعل هذا!!!
فقال له الرجل: بل يأكلون ثم يقومون ويرقصون دوائب! (= يبذلون قصارى الجهد)، ويلطم بعضهم رأسه وبعضهم وجهه!!! فضحك مالك ثم قام فدخل منزله. فقال أصحاب مالك للرجل: لقد كنت يا هذا مشؤوما على صاحبنا. لقد جالسناه نيفا وثلاثين سنة، ما رأيناه ضحك إلا في هذا اليوم!!!
يعني أن ما استهجنه مالك، واستنكره واستقبحه، أبعد كما قال عن أهل الإسلام! فالذكر على هيأة الاجتماع مقرونا بالرقص الذي يأتي بعد تناول الطعام، أو غير مقرون به، لم ينص عليه كتاب الله، ولا دعا إليه رسول الله ولا مارسه! إنه إما من فعل الصبيان! وأما من فعل المجانين! أي أنه أبعد ما يكون عن فعل العقلاء!!! وإلا فليتصور القراء رسول الله وأصحابه الكرام في حلقة أشبه ما تكون بحلقة الدرقاويين والعيساويين! حيث تسدل اللحى وتتمايل الأجساد يمنة ويسرة إلى حد أن الراقصين يتبادلون الدفع اللاشعوري في أغلب الأحيان!
وعلى نفس نهج مالك في التصدي للبدع – وللذكر الجماعي مع الرقص بالخصوص – سار كبار علماء المالكية الذين يقدرون ما للسنة النبوية من مكانة في الدين الحق، إذ هالهم تشويهه وتحريفه بإضافات أو بتعديلات، تتقاطع في الآن ذاته مع العقل والنقل! فقد سئل الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي المذهب عن فعل الصوفية – وهم يذكرون الله على حد ما يزعمون – فقال: “مذهب هؤلاء بطالة وضلالة وجهالة… وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار”!
وقال العلامة ابن عقيل: “وهل شيء يزري بالعقل ويخرج عن سمت الحلم والأدب، أقبح من ذي لحية يرقص؟ (الرسول وأصحابه كلهم ملتحون!!!)، فكيف إذا كانت شيبة، ترقص وتصفق على توقيع الألحان والقضبان”!
والأذكار المؤداة جماعة كلها لم تثبت عن رسول الله؟ ولا صح قط أن الصحابة يؤدونها كذلك؟ ولا ورد من أي مصدر موثوق بأن واحدا من كبار أئمة الفقه والحديث، كان يعقد حلقات للذكر على هيأة الاجتماع، مع أناس يوصفون بكونهم مريديه أو تلامذته أو أتباعه؟ فقد تساءل صاحب “الإبريز” عبد العزيز الدباغ – وهو شاذلي الطريقة – عما إذا كانت “الحضرة” أو “العمارة” من فعل الرسول؟ أو من فعل الخلفاء الأربعة الراشدين؟ أو من فعل الصحابة؟ أو من فعل التابعين؟ أو من فعل أتباع التابعين؟ فكان أن انتهى إلى هذه النتيجة المنطقية : “علمنا أن ما لم يفعله هؤلاء القرون الثلاثة لا خير فيه”!!! يقصد ما لم يفعله من عاشوا في القرن الأول، والثاني، والثالث للهجرة النبوية!!!
وما لا خير فيه، هو الذي أصر المبتدعة على العمل به! وإصرارهم على العمل به (مؤيدا رسميا)، هو إصرارهم على انتقاد نهج الرسول في التعبد (وهذه من أكبر البدع والضلالات)، مقدمين أنفسهم عليه في اختيار كيفيات أحدثوها للتقرب إليه سبحانه كما زينت لهم نفوسهم ما هم عليه يواظبون!
ولم يقف الأمر عند إحداث المبتدعين لكيفيات في الذكر الجماعي قصد التعبد، وإنما هم توغلوا كذلك في إحداث نوع الأذكار التي يرددونها لعشرات أو لمئات المرات! غافلين أو متغافلين عما عليه رسول الله وهو يؤدي واجب العبادة لله عز وجل! فما قاله المشايخ الصوفيون ودعوا إليه وفرضوه على من انضم إليهم كأتباع مخدوعين، متقدم هكذا ظلما وافتراءا على المسنون الذي يجب أن يكون عليه من يدعون أن مالك بن أنس إمامهم في الدين؟ أو يدعون أن إمامهم فيه هو الإمام الشافعي؟ أو يدعون أنه هو أبو حنيفة النعمان أو الإمام أحمد بن حنبل؟
وما تم لشيوخ الطرق ابتداعه من صيغ للأذكار، لا يمكننا حصره في عجالة من الكلام، وبالتالي حصر ما يحويه من ضلال نظير ما يعبر عنه مسمى “الصلاة المشيشية” أو “المسبعات العشر” المضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم زورا من طرف الحالمين المصدقين بوجود مسمى الخضر!!!
وليفتح من أراد التوسع في الوقوف على الأذكار الشاذلية المبتدعة كتاب “النفحة العلية في أوراد الشاذلية”. فسوف يجد أول ما يجده “حزب البر” الذي قال عنه صاحبه أبو الحسن الشاذلي: “من قرأ حزبنا فله ما لنا وعليه ما علينا”!!! وقال: “ما كتبت منه حرفا إلا بإذن من الله ورسوله”!!! وهو ورد الصبح. ولا يتكلم (المريد) حال تلاوته. وله سر عظيم في كل شيء لا يعلمه إلا الله”!!!
مما يعني أن الرجل قبل أن يكتب ما يكتبه، لا بد أن يحصل على إذن من الله ورسوله! إنما كيف؟ وهذا الزعم عند أهله غير قابل للمناقشة! إنه لا يخضع لمنطق العقل! وإنما لمنطق التسليم! إن كان مسموحا لنا أن نصف التسليم بكونه منطقا يقبله العقل السليم!
ثم نمضي في تعداد بقية أوراد الشاذلية لنقف عند ” مناجاة ابن عطاء الله السكندري” و”المنظومة على سفينة النجاة” لسيدي أحمد زروق (مجدد الشاذلية الثاني بعد الجزولي صاحب “دلائل الخيرات”). فيكون من بين الظلام الذي تشتغل به الفرق الصوفية المنتمية إلى الشاذلية – وهي كلها كذلك ما عدا القادرية والتجانية – ما ورد في منظومة زروق المشار إليها قبله. ومن ضمنها قوله: “
وملكت أرض الغرب طرا بأسرها وكل بلاد الشرق في طي قبضتي!
فأرفع قدرا ثم أخفض منصبــــــــا بأرفع مقدار وأرفع همـــــــــــــة
وأعزل قوما ثم أولي سواهــــــــــم وأعلي مقام البعض فوق المنصة
أنا لمريدي جامع لشتاتـــــــــــــــه إذا ما سطا جور الزمان بسطوتي
فإن كنت في كرب وضيق وشـــدة فناد أيا زروق آتي بسرعـــــــــة!!!
ثم نمضي للوقوف على مزيد من أنواع الظلاميات التي هي بالنسبة للفرق الشاذلية أذكار تفعل في أصحابها فعل “الإكسير” المتدفق من عين الحياة إن هم حصلوا عليه!!! دون أن نحصي كل الأذكار الشاذلية لكثرتها! تكفي الإشارة إلى أن خاتمتها هي ذكر عبد الوهاب الشعراني صاحب “الطبقات” التي تزخر بخرافات وأضاليل وترهات لا حد لها ولا حصر! وأعد بتقديم بعض منها في المقبل من الأيام!
وهل نقول – بعد كل ما قدمناه موجزين -: إن المنتمين المغاربة إلى الطرق الصوفية الشاذلية مالكيون؟ والحال أن مالك قد تبرأ منهم مسبقا من خلال مواقفه المشهورة من مختلف البدع! (انظر ترجمته في ترتيب المدارك)، فكيف لو قيل له: إن مجدد الشاذلية المزعوم أحمد زروق، ادعى في منظومته أنه يمسك في طي قبضته مشارق الأرض ومغاربها! وأنه يرفع قدر من يريد ويخفض قدر من يريد! وأنه يعزل من يريد عزلهم عن مكانهم ليولي قوما آخرين بدلا عنهم كما يحلو له! وأنه جامع لشتات أتباعه إن هم تعرضوا لجور الزمان! وما عليهم إن وجدوا أنفسهم في ضيق وشدة، سوى أن ينادوا باسمه فيحضر لإنقادهم في لمح البصر! وكأنه ينكر قوله تعالى: “إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين”!!!
هذا عن شريط أذكار الشاذلية. أما عن شريط أذكار القادريين، فعلى القراء الأفاضل بكتاب “الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية”، فسوف يجدون في أوله مسمى “الغوثية”! أو مسمى “خطاب الحق لسيدنا عبد القادر”! وهو حوار جرى بين الله وبين الجيلاني (أصبح كلم الله بعد موسى عليه السلام)! على خلاف الحوار الذي جرى مباشرة بين التجاني والنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة. ولا بأس إن نحن قدمنا بعضا من الحوار الذي قل نظيره بين العابد والمعبود! أو بين النسبي والمطلق! “الحمد لله كاشف الغمة، والصلوات خير البرية (أما بعد). قال الغوث الأعظم (= عبد القادر) المستوحش عن غير الله، والمستأنس بالله. قال الله تعالى: يا غوث الأعظم!!! قلت: لبيك يا رب الغوث. قال: كل طريق بين الناسوت والملكوت فهو شريعة!!! وكل طور بين الملكوت والجبروت فهو طريقة!!! وكل طور بين الجبروت واللاهوت فهو حقيقة!!! (هذا كلام الله أيها العقلاء!!!). ثم قال: يا غوث الأعظم! ما ظهرت في شيء كظهوري في الإنسان (= تجلى في صورته!!!). ثم سألت: يا رب هل لك مكان؟ قال لي: يا غوث الأعظم! أنا مكون المكان وليس لي مكان!!! ثم سألت: يا رب هل لك أكل وشرب؟؟؟ قال لي: يا غوث الأعظم: أكل الفقير وشربه أكلي وشربي! ثم سألت: يا رب: من أي شيء خلقت الملائكة؟ قال لي: يا غوث الأعظم! خلقت الملائكة من نور الإنسان، وخلقت الإنسان من نوري (ما مصدر هذا الهراء؟)… ثم قال لي: يا غوث الأعظم: جسم الإنسان ونفسه وقلبه وروحه وسمعه وبصره ويده ورجله ولسانه وكل ذلك طهرت له نفس! لا هو إلا أنا ولا أنا غيره”!!!
فنصل هكذا إلى الطامة الكبرى التي طالما وجدناها لدى الطرقيين الشاذليين والتجانيين ولدى غير هؤلاء! إنها وحدة الوجود! فالله هو الإنسان، والإنسان هو الله! والأدب الصوفي المتصل بالتقسيم المتداول بين المشايخ، وجدنا الله عز وجل يؤكده لنا على لسان عبد القادر! نقصد الحقيقة والشريعة والطريقة! والملكوت والجبروت واللاهوت! دون أن نحدد هنا كل أنواع أذكار القادرية، منسوبة إلى مؤسس طريقتهم عبد القادر الجيلاني، أو منسوبة إلى غيرهم كالمسبعات العشر! وصلوات الكبريت الأحمر (= ابن عربي الحاتمي)! وورد الحزب الصغير، وحزب النصر، ودعاء الجلالة، إلى آخر ما يشتغل به المريدون القادريون على مدى الأيام والشهور والسنين!
فيصح لدينا أن من أراد معرفة أوراد التجانيين الرجوع إلى “جواهر المعاني”. وأن من أراد معرفة أوراد القادريين، أن يرجع إلى الكتاب المذكور قبله. ومن أراد معرفة أوراد الشاذليين بمختلف طوائفهم أن يرجع إلى كتاب “النفحة العلية في أوراد الشاذلية”. فنكون قد حصرنا أوراد ثلاث مجموعات من الطرقيين بمغرب الأمس واليوم: الشاذليون الذين يمثلهم الدرقاويون، والكتانيون، والناصريون، والعيساويون، والحمدوشيون، والوزانيون، وغيرهم ممن لا ينتمون إلى الطريقتين: القادرية والتجانية! مع أن الاشتغال بالبدع يجمع بينها كلها بغض النظر عن أذكار مبتدعة ضلالية تعمل بها كل الفرق الصوفية بدون ما استثناء يذكر!
بل إن لدينا أكثر من دليل على أن الطرقيين غير ملزمين باتباع أي مذهب من المذاهب الفقهية! مما يعني أنهم في الوقت ذاته – وبصريح العبارة – غير ملزمين باتباع الكتاب والسنة! لأن جماهير المسلمين ما اقتدوا بكبار أئمتهم إلا لكونهم بكتاب الله وبسنة نبيه متشبثين. بينما يصر الطرقيون على التحرر من أية ضوابط يحددها هذا المذهب أو ذاك على الصعيدين: النظري والتطبيقي، فضلا عن كونهم يزعمون بأنهم يأخذون مباشرة عن الله! (= الجيلاني والغوثية)، أو مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وفي اليقظة (= المسبعات العشر+ صلاة الفاتح).
ورفض الطرقيين للإنتماء المذهبي يترجمه قول الدباغ في “الإبريز”: :واعلم وفقك الله أن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب، ولا يتقيد بمذهب من المذاهب، ولو تعطلت المذاهب بأسرها لقدر على إحياء الشريعة! وكيف لا وهو الذي لا يغيب عنه النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين! ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلاله لحظة! وحينئذ فهو العارف بمراد النبي صلى الله عليه وسلم، وبمراد الحق جل جلاله في أحكامه التكليفية وغيرها، وإذا كان كذلك فهو حجة على غيره وليس غيره حجة عليه، لأنه أقرب إلى الحق من غير المفتوح عليه، وحينئذ فكيف يسوغ الإنكار على من هذه صفته“!!!
ونفس هذه القناعة الدباغية أكد عليها التجاني الطريقة عمر الفوتي صاحب كتاب “رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم” المطبوع على هامش كتاب “جواهر المعاني” حيث كتب يقول: “الفصل الثامن في إعلامهم أن الله تعالى لم يوجب على أحد التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين لا يتجاوزه. وأن كل واحد من أئمة هذه الأمة رضي الله تعالى عنهم أجمعين تبرأ من ادعاء وجوب اتباعه هو وحده في كل مسألة من مسائل الدين دون غيره من الأئمة لعلمهم بأن الاتباع العام لا يجب إلا للمعصوم”!
وهذا الكلام في ظاهره هو الحق الذي لا بد من اعتباره لدى كل من له من علوم الدين نصيب لا بأس به. لكن تطبيقه تعترضه صعوبات. فالغالبية العظمى من المسلمين ليسوا علماء. والعلماء باعتبارهم ورعين أتقياء، لا بد أن يحاولوا جهدهم التحلي بصفات الأنبياء الأربعة: الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة. بحيث يكون بمقدورهم التمييز بين أقوال الأئمة المعتبرين، ومدى ارتباطها بكتاب الله وسنة رسوله، فيختارون حينها عن وعي وتبصر، من من الأئمة يتخذونه قدوة. أي أنهم أحرار في الأخذ بهذا المذهب أو ذاك، بحيث إنهم يحذرون من الاقتداء بمن تأكد لديهم أنه يكتم ولو بعضا مما أنزل الله من البينات والهدى، إلى حد عنده يخالف أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته؟
ها هنا يفرض علينا هذا السؤال نفسه: هل يصح الاقتداء بمن ثبت أنه يشتغل بالمبتدعات المتقاطعة تماما مع سنن نبي الله ورسوله؟ أم إن علينا ان نستنكر استنكارا شديدا ما يشتغل به، ونقتدي بمن يرفضون صراحة وبصرامة كل مبتدع يخالف المسنون الذي عليه العلماء الغيورون حقا على الدين؟
لم يكن صلى الله عليه وسلم يذكر ربه على هيأة الاجتماع! ولا كان الصحابة والتابعون وكبار العلماء والأئمة يذكرونه كذلك! ولا كان يذكر ربه جماعة بالإسم المفرد “الله الله”، وبضمير الغائب “هو هو”، و”يا لطيف” إلى غيرها من الأذكار التي هي من وضع مشايخ الطرق المبتدعة؟ ولا كان الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمة البارزين، سيجيزون الادعاء بأنه صلى الله عليه وسلم يحدث أولئك المشايخ في المنام وفي اليقظة؟ بل إلى حد الادعاء بأنه صلى الله عليه وسلم يلقنهم أذكارا ذات أغراض مختلفة؟ فالتجاني – كما قلنا – زعم أن الرسول في اليقظة هو الذي رتب له أوراده؟ ونفس ما ادعاه، ادعاه مؤسس الطريقة الكتانية؟ مما يعني أنه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، زاول مهمة اختيار الشيوخ وترتيب الأذكار التي عليهم الاشتغال بها بالكيفية التي حددها لهم إن في المنام وإن في اليقظة؟ فضلا عما يدافع عنه الشيوخ الصوفيون من قناعات يندى لها الجبين! كادعاء ابن عربي الحاتمي بأنه صلى الله عليه وسلم أعطاه كتاب” فصوص الحكم” وأمره بتقديمه للناس كي ينتفعوا به! وكأن الرسول لم يبلغ كل ما أمر بتبليغه! كما ادعى ابن عربي أنه خاتم الأولياء! وهو نفس ما ادعاه غيره كالتجاني والكتاني! وكأن لدينا خواتم الأولياء لا خاتم واحد! وهذا الخاتم المزعوم الذي ابتدعه “الحكيم الترمذي” مجرد ضلالة!!!
والنتيجة المنطقية لما قدمناه باختصار، هي أن الطرقيين بالفعل بعيدون عن التمذهب بمذهب إمام سني ورع تقي. إن شيوخهم – كما قال الدباغ – ليسوا في حاجة إلى أي إمام في الفقه خاصة، وفي الدين عامة، ما داموا يتحدثون إلى الرسول مناما ويقظة! وما داموا يأخذون عن الله مباشرة بدون ما واسطة! كحال الجيلاني الذي دخل في حوار مع الله، قدمنا بعضه في مسمى “الغوثية”! فيصبح من حقنا ومن واجبنا أن نحذر المسلمين – وفي مقدمتهم الحكام – من اتخاذ مشايخ الطرق أئمة، لأن في اعتبارهم كذلك، إساءة مباشرة إلى سنة الرسول الأمين من جهة، وإلى الدين كله من جهة ثانية!
وأنا هنا لا امك غير مخاطبة المبتدعة والمروجين لبدعهم بقوله عز وجل: “فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد”!!!
إرسال تعليق