هل هو إجماع دولي لإلغاء صوت الشعوب الثائرة على الحكم الدكتاتوري عبر عقود، تقاس في الزمن النفسي بقرون وقرون؟ هل هو إجماع فرضه الاستكبار العالمي
هل هو إجماع دولي لإلغاء صوت الشعوب الثائرة على الحكم الدكتاتوري عبر عقود، تقاس في الزمن النفسي بقرون وقرون؟ هل هو إجماع فرضه الاستكبار العالمي حتى لا تصبح الشعوب العربية تحديدا مالكة لزمام أمرها، متحررة من طغيان المتجبرين الذين حكموها ويحكمونها بالحديد والنار، نيابة عمن يعنيهم الإبقاء على “الفرعونية”، ولو أنهم يتبجحون بضرورة إقامة ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير؟ يقصدون دولا عربية تحتكم شعوبها إلى الصناديق لاختيار رؤساء الدول والنواب الممثلين لها بالمؤسسات التشريعية المنتخبة، في أجواء من الشفافية والنزاهة؟
هذا الشرق الأوسط الكبير الجديد تريده أمريكا بشروط من جملتها:
1- وضع كافة العراقيل حتى لا يتم وصول الإسلاميين بأي وجه كان إلى السلطة، وكأن الإسلاميين مجذومون، من شأنهم إن وجدوا في مراكز القرار أن يصيبوا الشعوب التي اختارتهم عن طواعية بالجذام المميت!َ
2- تسخير كل الوسائل المعلنة والخفية لقطع الطريق أمام دعاة تفعيل الدين، حتى ولو على حساب التخلي عن القيم وعن مبادئ الإنسانية التي تزعم دولنا أنها وقعت عليها ورحبت بها كي يعيش مواطنوها في ظل دولة الحق والقانون؟
3- الإذعان لشروط الأمريكيين التي يضمن المذعنون لها حماية أنظمتهم من أية رياح عاتية يمكن أن تهب عليها، في حين أن عدم الإذعان لها يجعل إسقاط أنظمتهم أشبه ما تكون بإسقاط حبة تين من كرمة حتى قبل أوان نضجها الطبيعي! والمملي للشروط هذه هل يملك حسا أخلاقيا يتمحور حول الضمير؟ والذين يتلقون إملاءاته كأوامر صادرة من القيادة العليا، هل يتمتعون بضمير حي يجعلهم مؤهلين لتدبير شؤون ملايين من المواطنين والمواطنات؟ وهل نصدق المستكبرين المتلاعبين بالحكام، وهم الذين استمرأوا لعشرات السنين الإمساك بأنوف الجمال العربية الصحراوية التي لم تلجم شعبيا ولا قانونيا بعد! إلى حد أن كهوف الليل في مختلف عواصم العالم، قد كشفت عن سوءاتهم، وقتلت، أو كادت تقتل ما تبقى لهم من مروءة! هذا إن كان بالإمكان الحديث عن كونها كانت في يوم ما ذات مروءة، مصدرها أخلاق الواجب والعروبة التي طالما رفع النظام المصري بعد مسمى ثورة الضباط الأحرار عام 1952م رايتها. وذلك من خلال خطب عبد الناصر النارية التي تجاوزت الحدود. وفعلت فعلها في المعدودين من المثقفين التقدميين والثوريين الواعدين في كافة الدول العربية كما هو شأننا بالمغرب!
4- قبول الإسلاماويين الإبقاء على الوضع العلماني الذي سوف يتيح لهم فرص الوصول إلى السلطة كوزراء، وككتاب دولة، وكمدراء الدواوين، وحتى كولاة وكعمال على أكثر تقدير، لا كرؤساء الدول بأي وجه من الوجوه!
نعم إن قادة مسمى ثورة مصر لعام 1952م ضباط أحرار! لكن الشعب المقهور الذي كان حافزهم على قلب نظام الحكم القائم، سوف لن يكون حرا ما دام العسكريون يراهنون على عدم السماح بإقصائهم عن دفة السلطة بأي ثمن. كان ذلك على عهد عبد الناصر، وعلى عهد السادات، وعلى عهد مبارك. لقد تعلم عبد الناصر – وهو الحامل للواء النهج الاشتراكي الثوري – كيف يقضي على كل أمل لتمكين مصر من التعددية الحزبية. يعني أن الحزب الوحيد هو الذي له الحرية المطلقة في حكم البلاد. لأن أي تعدد حزبي تتطلع إليه الجماهير المصرية، لن يكون في الحقيقة سوى مد الأحزاب بسلاح به يتأتى لها القضاء على الاشتراكية التي هي في صالح الجماهير كما يدعي حينها حكامها العسكريون. حتى الدين الذي هو أفيون الشعوب عند أساتذة حكام مصر، سوف يتم إلجامه مشخصا في مشيخة الأزهر من جهة، وفي مفتي الديار المصرية من جهة ثانية. بينما الليبراليون و الإخوان المسلمون الرافضون لأي حكم استبدادي، حوصروا على مدى عقود متتالية، لكنهم مع ذلك عرفوا كيف يستقطبون الجماهير، وكيف ينالون عطفها وثقتها لفضح الدكتاتورية المتحكمة في رقاب العباد، والتي تعززت بالنهج الدكتاتوري السوفياتي!
أو لم يقل جمال عبد الناصر: “لقد مهدنا طريق الديمقراطية السليمة من أجل أن تكون الحرية للشعب كل الشعب. ولا حرية لأعداء الشعب. من أجل أن تكون الحرية الديمقراطية للشعب كله، لا للطبقة الرأسمالية، ولا للطبقة الإقطاعية، ولا للرجعية.. الخ”. وهذا الشعار: “لا حرية لأعداء الشعب” هو أول معول لهدم الحرية، لأن كل من يعارض الحكام الثوريين ينعم عليه بلقب “عدو الشعب” دون تردد. وكل جماعة تقول للثوريين: لا أو حتى لم؟ تجرد من الوطنية والتقدمية، ويخلع عليها خلعة الرجعية”. فالرجعية وما ماثلها كلمات مطاطة يمكن أن يوصف بها كل إنسان، فرد أو جماعة”!
والاكتفاء بتهمة الرجعية كرم عظيم، وتسامح كريم من القادة الثوريين، وإلا فعندهم تهم الخيانة والعمالة والتعاون مع الاستعمار وغيرها مما امتلأت به الجعاب الثورية؟
وإن تحدث الضباط الأحرار المستقلون وحدهم في مصر عن الحرية، فإنهم لا يقصدون بها ما تتطلع الجماهير إلى التمتع به، وإنما هي عندهم عدم تعرضهم لأي انتقاد من أي طرف،، لأنهم طليعة الطبقة الحاكمة، والطبقة الحاكمة من الاشتراكية الثورية هي الطبقة العاملة، باعتبارها أغلبية ساحقة من أي شعب. فباسمها يحكمون،، وإلا فلا مجال لحديثهم عن الاشتراكية التي اعتمدت على الماركسية عامة،، وعلى أقوال بعض شراحها خاصة (ماو تسيتونغ). إن عبد الناصر على خطى لنين الذي قال عام 1920م: “نحن لا نستطيع أن نأخذ بآراء المخبولين والأغبياء الذين يطالبون بالحرية، فنحن في ظل دكتاتورية البروليتاريا، لا نستطيع أن نمنح للمواطنين حريتهم السياسية، خشية أن يستخدم أعداء الشيوعية هذه الحرية في القضاء علينا”.
إنه نفس الشعار الذي تلقفه الانقلابيون العرب في مختلف العواصم! في دمشق، والقاهرة! وفي بغداد! وفي الخرطوم! وفي الجزائر! وفي ليبيا القذافي! فلا حرية لأعداء الشعب! وأعداء الشعب هم المنتقدون للنظام القائم!
ونفس شعار لنين الشيوعي الثوري الاشتراكي، هو نفس شعار خليفته ستالين الذي قال عام 1938م: “دعوني أوضح لكم بصراحة. إن نظامنا الشيوعي لا يؤمن بالحرية الفردية، فالحرية الفردية تعني القضاء على الجماعية. وتعني الانحراف عن الماركسية. وهذا النوع من الحرية هو أخطر ما يهدد نظامنا”! وهو نفسه ما كان يتأفف منه ويتبرم كل نظام انقلابي عربي يتبجح بالعروبة والاشتراكية، وينظر إلى الجماعات المعارضة نظرته إلى من سماهم لنين الأغبياء المخبولين. وسماهم القذافي الجردان!
ويؤكد ستالين مقولته المتقدمة عام 1939م حين قال: “أن يمنح البورجوازيون (- الطبقة الوسطى في المجتمع) الحريات العامة، لا يعدو أن يكون سماحا لهؤلاء البورجوازيين بالكيد لنا. والتآمر علينا. وتقويض نظامنا، ولهذا فإننا لا نمنح الحرية إلا للطبقة التي نحكم باسمها”!
ويضيف استالين موضحا معنى الحرية التي يجري الحديث عنها في النظام الشيوعي فيقول: “إن دستورنا السوفياتي ينص على منح الحرية للمواطنين، ولكن يجب أن يكون مفهوما، أن هذه الحرية لا تعني حق الوقوف في وجهنا، أو حق الثورة ضد النظام الشيوعي، أو حق انتقاد المبادئ الماركسية (= مبادئ مقدسة). أو حق تكوين الهيئات المناهضة لنا. إن هذه الحرية التي ينص عليها دستورنا، لا تعني إلا شيئا واحدا هو حق “دكتاتورية البروليتارية” في الاستمتاع بالحرية التي تكفل لها تحقيق الأهداف الشيوعية”!
فصح أن أي أحد من الانقلابيين العسكريين المصريين، لا يغرد خارج السرب. سرب من يعتبرون تعدد الأحزاب خطرا على النظام الشامل الذي لا يسمح صوريا إلا بحزب واحد. هو وحده الحاكم الذي لا يخضع لأية رقابة. ونفس رئيس النظام هو الوحيد المترشح للرئاسيات. وأن لا أحد يستطيع منافسته. وأن نسبة فوزه نسبة قارة هي بالتحديد 99 بالمائة. مع التأكيد الذي يكاد يكون مطلقا على استبعاد قيام أي انقلاب عسكري ضد العسكريين، متى امتدت قبضتهم كالأخطبوط إلى كل مرافق الدولة، خاصة حينما يتحكمون في الاقتصاد. من الإنتاج إلى التسويق والتصدير والاستيراد! ومع التحكم في كل الإدارات التي لها علاقة مباشرة بإدارة الشؤون العامة، من أعلى هرم السلطة إلى أسفله. وقد يكون هناك انقلاب عسكري ضد عسكريين أنفسهم لحزازات شخصية أو لدوافع قبلية إثنية، كما حصل مرارا في كل من سوريا وموريتانيا، والسودان على سبيل المثال!
فالمسؤولون عن استيراد السلاح وبضائع وسلع أخرى، جلهم عسكريون ينهبون من أموال الشعب ملايين، يقتطعونها من العمولات التي يحصلون عليها لتوضع في حساباتهم البنكية خارج مصر! فبدلا من اغتناء الشعب باسم الاشتراكية الثورية، يزداد فقرا بقدر ما تغتني البورجوازية العسكرية. حتى بعد سقوط نظام عبد الناصر ووصول محمد أنور السادات إلى السلطة، كوجه جديد من وجوه الليبرالية التي أرغم الاشتراكيون بعد انهزامهم أمام الرأسمالية الدولية على معانقتها. فقد كتبت جريدة “الأنوار” نقلا عن وكالة نوفوست السوفياتية (14/9/1967م) تقول: “وتغيرت كليا علاقة الكثير من الضباط بالخدمة في القوات المسلحة نفسها. وكانوا يستغلون نفوذهم من أجل تحسين أوضاعهم الخاصة. فكثير من الجنرالات والضباط الكبار الذين يخرجون من الجيش، بعد انتهاء مدة خدمتهم، كانوا يتسلمون مراكز رفيعة في أجهزة الدولة والصناعة. وما أكثر ما كانت الحكومة تتوجه إلى الجيش طلبا لمساعدتها في إعادة النظام داخل هذه المؤسسة الحكومية أو تلك. وتحول انتقال الممتلكات العسكرية من الجيش إلى جهاز الدولة والاقتصاد بمرور الزمن إلى تقليد دائم. لقد كانوا في المراكز الجديدة يتمتعون بإمكانيات كبيرة لتحسين أوضاعهم المادية. إن هؤلاء الجنرالات والضباط أصبحوا يملكون دفاتر شيكات وحسابات في البنوك. وهناك حوادث تشير إلى أنه فتحت لهم حسابات في البنوك الأجنبية، حيث كانت توضع العملة الصعبة! وظهر نوع من الضباط المالكين الذين يعملون في التجارة عوضا عن تحضير الجنود والضباط عسكريا”.
مما يعني أن عصب الاقتصاد في مصر عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، وفي دول اشتراكية عربية مزعومة أخرى، تتحكم فيه الطغمة العسكرية المتحالفة مع مدنيين جلهم منتمون إلى الحزب الحاكم! بينما الشعب يواصل نضاله من أجل الرغيف والسكن والحرية والكرامة والديمقراطية منذ انقلاب عام 1952م! لكنه لم يجد أمامه غير القهر والاضطهاد الممنهج المدروس من جماعتين: من جماعة عسكرية، ومن حلفائها المدنيين كحماة النظام بحكم استخدام نفودهم اللامحدود للإثراء، على حساب إفقار الأغلبية الساحقة من المواطنين المصريين. مع التذكير بما يتم إنفاقه من أموال الشعب المنهوبة في أحضان الرذيلة! إلى حد أن رئيس أركان الجيش المصري يوم السادس من حزيران عام 1967م، كان غائبا في سهرة من ضمن التي تقيمها في منزله زوجته الفنانة المشهورة: برلنتي عبد الحميد! ولم يعرف الرجل ما يجري وما جرى على الأرض، إلا بعد أن استيقظ على غرة ليسمع كيف أن السلاح الجوي المصري قد دكته إسرائيل دكا على الأرض. إضافة إلى أموال الشعب الطائلة التي أنفقها الحكام للمشاركة في حروب خارجية ضد من يعتبرونهم رجعيون متخلفون! فقد أرسلوا إلى الحدود الجزائرية المغربية ضباطهم للوقوف إلى جانب الجزائريين في حرب الرمال، فكان أن اعتقل محمد حسني مبارك مع بعض رفاق له! وكان أن سلمهم الحسن الثاني حينها يدا بيد إلى جمال عبد الناصر! كما بعث حكام مصر بآلاف الجنود ومعداتهم إلى اليمن لمساعدة عبد الله السلال المنتفض ضد الملكية في بلده! والغريب أن أولئك الجنود ظلوا في اليمن أثناء تعرض جيش مصر لهزيمة نكراء على يد الإسرائيليين! هذه الهزيمة التي أبى كبرياؤهم إلا وصفها ب”النكسة”!
ولما قام الشعب المصري بثورته في سلسلة مسمى الربيع العربي. وجد الجيش نفسه مرغما ليحني رأسه مؤقتا ريثما تمر الزوبعة، أو ريثما تهدأ العاصفة. فقد لجأ في الخفاء – والمصريون يحتفلون بثورتهم المجيدة – إلى المتحكمين في دواليب الاقتصاد من عسكريين ومن فلول نظام القهر والطغيان، ونسق معهم مؤامرة للإسراع بالقضاء على المشروعية التي أقرها الشعب! وكان أن ركب متن إخفاء السلع والغاز والبترول حتى يتهم الرئيس الجديد محمد مرسي وطاقمه الحاكم بأنه لا يصلح رئيسا لمصر. وأن مصر تتجه نحو الدمار الشامل لاقتصادها الوطني! فتم حبك خيوط مسرحية هزلية تراجيدية نفذها السيسي والفلول، جنبا إلى جنب مع المخدوعين المغفلين من شباب الثورة! بمساعدة من التمويل الذي تلقاه من دول عربية رجعية، جل ما تخشاه هو أن تمتد إليها حرارة الربيع العربي، لتسقط حكامها من على كراسيهم وعروشهمالفخمة! ووراء المتورطين من مصريين ومن حكام عرب في التآمر على الشعب المصري، توجد أمريكا والأوربيون الذين لا يرغبون في صعود نجم الإسلاميين على الإطلاق! تحسبا لتحول مصر المحروسة إلى إيران جديدة من ضمن ما حققته بعد ثورتها الشعبية عام 1979م استقلالها عن البقاء في أحضان الأمريكيين، الذين كان الملك المطاح به شاه شاه محمد رضا بهلوي، ينعم بدعم لا مشروط من حكام البيت الأبيض الأمريكي منذ عقود!
ولما نجح السيسي في الوصول بمسرحيته الهزلية التراجيدية إلى ما يعتقده خاتمة لا بد أن تسفر عن احتفاء المصريين به. أسرع الحكام العرب الرجعيون القلائل قبل غيرهم إلى الاعتراف به كرئيس فاز في انتخابات حرة نزيهة كالعادة بنسبة 99 في المائة من أصوات الناخبين! بل وحاول الرجعيون العرب عقد مؤتمر خاص لإنقاد مصر من الإفلاس الاقتصادي الماثل، بعد أن ضاع كل ما تلقته إثر الانقلاب العسكري من مساعدات ومن هبات تقدر بملايير الدولارات ! لا لأن مصر محبوبة، يهم الرجعيون استقرارها وتنعم أبنائها بخيرات النفط والغاز الخليجيين! إنما لأغراض من السهل تحديدها أولا في إرضاء الدب الأمريكي، وجبر الخاطر الصهيوني ثانيا. وجعلها مستعدة باستمرار للدفاع عن أنظمة تدرك تمام الإدراك بأن شعوبها – من باب الحتمية التاريخية – لا بد أن تثور في وجه قادتها إن في العاجل وإن في الآجل!!!