في عصر انتشرت فيه العلمنة والتغريب، وتحكمت الأهواء والشبهات في كثير من التصرفات، وأصبحت الضغوط الحياتية تغيّر كثيرًا من الآراء والمواقف؛ يسعى الكثير
في عصر انتشرت فيه العلمنة والتغريب، وتحكمت الأهواء والشبهات في كثير من التصرفات، وأصبحت الضغوط الحياتية تغيّر كثيرًا من الآراء والمواقف؛ يسعى الكثير منا إلى إظهار الحق، وإبراز دلائله وبراهينه، والرد على المخالفين، وتفنيد حججهم ومآخذهم.
لكن عندما تجد ذلك بالاستعلاء، وتسفيه الآراء، وازدراء الاجتهادات، بل والتعرض للرموز والقامات بالهمز واللمز، واختلاط الكلام بالسخرية والاستخفاف والتعيير، يظن المسكين أن الحق قد انتصر والحجة قد قامت، وأنه لم يعد أمام الناس سوى قبول الرأي، والتراجع عن آراء المخالفين بكل يسر وسهولة، فبهذا الأسلوب نضع سياجًا منيعًا، ونحفر خندقًا عميقًا يحول بيننا وبين من نرجو استقامتهم وتوجيههم على الطريق، فـ”أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من أهل الحق في معرض التحدّي والإدلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها”[1]، فالعتب الكثير – وإن كان بعض ذلك العتب حقًّا – وإطلاق الأحكام والمبالغة فيها دون مراعاة حال المخاطبين وأوضاعهم ومستواهم؛ قد يسبب ما ذكره الغزالي في النص المشار إليه أعلاه، وذلك كله يعود إلى غياب الحكمة؛ تلك المنّة والنعمة العظيمة من الله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]، والحكمة كما هو معلوم هي فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي، وهي من الأمور المفقودة في الكثير من المجالس والمواقف اليوم؛ ففقه الأولويات، وفقه التوازنات، وفقه التنزيل، وفقه الخلاف، وفقه المقاصد… وغيرها، كلها مراتب تنضوي تحت لواء الحكمة التي أُمرنا بتوخيها شرعًا؛ قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]؛ أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه، وقبوله وانقياده، ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبدأة بالأهم فالمهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة وإلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب[2].
قد لا يعلم بعض الناس أن غياب الحكمة هو من أسباب تدهور حال الأمة اليوم في شؤونها العامة، وقد تيقظ أهل الباطل لقضية الحكمة، مع الفروقات والبون الشاسع بين التصور الإسلامي وتصور أهل الباطل لها، فعملوا – عن قصد وإصرار مسبق – على تشويه معالم الهوية العامة للأمة، والتي نشأت عن الإيمان بالله تعالى واعتناق الدين الإسلامي، ذلك الدين الذي روّض أعتى الأمم، ولا أكاد أبرح من العجب فأشعر باللوعة والأسى والألم من بعض الدعاة؛ يدع كثيرًا من الهموم العامة للأمة، ولا يلقي لها بالاً، ويترك العلمانيين وأدعياء الوطنية يَلِغون فيها، ويتشدقون بأطروحاتهم، والسؤال: ألا تتيح لنا ثقافتنا الإسلامية وأولوياتنا الدعوية والفكرية أن نطرح قضايا التنمية والنهضة؟ ونعالج مشكلات الفقر والبطالة ونجلي أسبابهما؟ وتعلو يد جادة تدعو إلى العدل الاجتماعي؟ ويكون لنا صوت مؤثر ورائد في انتشال الأمة من التخلف والانحطاط الحضاري؟ فتمزيق الشمل وتفتيت خيط الوحدة أضحت صفات دائمة وملازمة ونتيجة محسومة، وبناء عليه فلا أمجاد تُذكر اليوم، ولا قدوات تُحتذى، ولا عزة فطرية، ولا بناء فكري – إلا من رحم الله – ولهذا أحسب أنه بات من الواجب اليوم إعادة النظر والتبصر في الطرح والخطاب؛ لتحصيل المصالح ودرء المفاسد ما أمكن، وذلك بالحكمة؛ لأنه:
♦ عندما تغيب الحكمة يغيب الإيمان بالهدف؛ فتجد الجماهير تنفلت وتنفضّ من حول الرموز إذا رأت فيها العجز والهوان أو ضعف مصداقيتها وجديتها.
♦ عندما تغيب الحكمة يظهر الخيلاء وحب الرياسة؛ فمن تعلق قلبه بحب الظهور صغرت نفسه، وغلبت الأهواء، وتردى في الآفات القلبية.
♦ عندما تغيب الحكمة يظهر الانسياق الأعمى خلف الجماهير؛ فتأخذ النشوة في عملها بكثرة الحشود.
♦ عندما تغيب الحكمة تغيب الدقة في الخطاب، ولا يعتني الداعي بما يصدر عنه، ولا ينتقي العبارات، ولا يحرص على الإتقان، ولا ينفع ولا يسد منافذ الهوى.
♦ عندما تغيب الحكمة يظهر التعلق بالأشخاص، والانكفاء عليها، وازدراء الآخرين، والتقليد، وهو قاصمة القواصم التي تقتل ملكات الإبداع والتفكير، وتحول الجماهير إلى مجرد قطعان يسوقها الراعي ذات اليمين وذات الشمال.
♦ عندما تغيب الحكمة تغيب الرؤية ولا تتضح ولا تتبين الأهداف التي أريد الوصول إليها، فتجد الخواطر المشتتة تطرأ على الأذهان، بل قد يصل الحال إلى انعدام التفكير في البرنامج العملي.
♦ عندما تغيب الحكمة يغيب تلمس احتياجات الناس المنهجية والفكرية والعملية؛ فتجد الداعي يُشرِّق ويُغرِّب ويتحدث عن أشياءَ لكنه بعيد عن نبض الشارع واهتمامات الناس.
♦ عندما تغيب الحكمة يتم الاعتماد والاقتصار على الخطاب العاطفي الذي يُبنى على استثارة المشاعر؛ وهو ما قد يؤدي إلى الخلل في البناء والفكر.
♦ عندما تغيب الحكمة يغيب الارتقاء بمستوى الخطاب؛ فتجد الظواهر الشاذة والمذاهب الفكرية الباطلة، وقد حُدثت أن موجة خطيرة من الإلحاد تجتاح بلدان الخليج، فنجد أن كثيرًا من الدعاة يتحدثون بلغة عاطفية خطابية هزيلة بينما يتحدث الملحد والعلماني بطريقة مركَّزة تتسم بالذكاء والمراوغة، ولا شك أن الفتنة بمثل هذا كبيرة لجمهور يستهلك ولا ينتج.
♦ عندما تغيب الحكمة يغيب إيجاد البرامج العملية المثمرة التي تنتج وتبدع وتبذل في نهضة المجتمعات.
فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالاتصال بالناس وبمراعاتها، والسير على مقتضاها سر النجاح في التأثير في الناس، والاستجابة من المدعو، ونجاح الداعية في تحقيق ما يصبو إليه، وذلك بالاعتماد على أمور رئيسة؛ منها:
• القدرة على نقل المبادئ والعلوم بإتقان.
• معرفة أحوال المخاطبين.
• القدرة على الإقناع.
• الجاذبية الشخصية.
• القدرة على التفاعل الإيجابي مع المدعوين.
فما أعظمها من أمانة! وما أجلَّها من مسؤولية! فإسلامنا عظيم، ويحتاج إلى عظماء.