شهادة من داخل أقبية معتقل تمارة السري

  • بتاريخ : 3 أغسطس، 2014 - 02:16
  • بادئ ذي بدء أنبه القارئ الكريم وأقر وأعترف وأبصم بالعشرة بدل الإبهام وحدها. على أنني لست بكاتب ولا من هواتها, بل لم أحاول مجرد المحاولة من قبل, ناهيك

     

    باسم الله الرحمن الرحيم

    الإهداء

    إلى القابضين على الجمر في زمن الغربة والغرباء…

    إلى ضحايا الحرب الصهيوصليبية القابعين خلف الأسوار…

    إلى من تجرؤوا على قول لا حين قال الجميع نعم…

    إلى من رفضوا الذل والخنوع في زمن الانكسار…

    إلى من يسطرون تاريخ أمتهم ويعيدون صياغته بدمائهم وأشلائهم…

    إلى الفارين بدينهم في الشعاب والمغارات والجبال…

    إلى العلماء الأسرى الذين رفضوا أن يقتاتوا بكلمات الله…

    إلى الشيخ الحجة العالم الضرير الثابت عمر عبد الرحمن…

    إلى العلامة الموسوعة أبي قتادة الفلسطيني في سجنه…

    إلى شباب الإسلام في مغرب الإسلام الجريح وفي كل مكان…

    إلى المجاهدين في كل مكان في مشارق الأرض ومغاربها…

    نشد على الأيادي المتوضئة بطهر الجهاد …

    اللهم لا تحرمنا أجورهم…اللهم لا تحرمنا أجورهم…آميييييييين.

                

    مقدمة لابد منها

    بادئ ذي بدء أنبه القارئ الكريم وأقر وأعترف وأبصم بالعشرة بدل الإبهام وحدها. على أنني لست بكاتب ولا من هواتها, بل لم أحاول مجرد المحاولة من قبل, ناهيك أن يخطر ببالي يوما ما أنا بصدده اليوم من إطلالة { بتفاهاتي} هاته وعرضها على من سيتيسر له الإطلاع عليها من جمهور النت الذي يتزايد عدده يوما بعد يوم. وهي الوسيلة التي أضحت ملاذ المظلومين وصوت من لا منبر له من أبناء الملل عامة وملة الإسلام خاصة.

    لهذا فإنني أستسمح القارئ الكريم على هذا التطفل الذي أرغمت عليه بعد إلحاح شديد من أحد أعز رفاق المحنة والقيد الذي ضل يلاحقني لسنوات عدة مذ قراءته لبعض من خربشاتي التي كنت أخطها على ورق خاص أصنعه من علب الحليب الكرتونية بقلم رصاص لا يتجاوز حجمه عقب سيجارة كنا نخفيه بإحكام في ثقب مموه على جدار مرحاض الزنزانة التي جمعتنا في أيام السجن الأولى, وقبل أن( تفتح لنا الدنيا ذراعيها) ونحصل على أوراق وكتب وحتى التلفاز والهاتف وبعضا من الكرامة والآدمية التي انتزعناها بعد سلسلة إضرابات عن الطعام فقدنا فيها بعضا من إخواننا وكيلوغرامات من أوزاننا وخرج منها الكثيرون بعلل لا تعد وشحناء كادت تعصف بالصف كان الخلاف بشأن التأصيل الشرعي للإضراب عن الطعام سببا في انطلاقتها وإذكاء جذوتها.

    حين اقتنعت على مضض بفكرة الأخ السالف الذكر فرج الله عنه, وجدتني قد فقدت جل تلك الأوراق التي كنت أعمد إلى نقعها في الماء بعد تمزيقها قطعا صغيرة حتى يسهل جريانها في بالوعة المرحاض خوفا من حملات التتار. وهي التسمية التي نطلقها على فرق التفتيش التي ينتقى أفرادها من بين أخبث وأقذر حراس السجن. فلا يتوانى الواحد منهم عن إدخال يده في ثقب المرحاض. ويقرأ بتهج علب الأدوية. ويعمد إلى خلط مسحوق الغسيل مع حصة العدس ويقلب كل شيء رأسا على عقب بغية الاستفزاز.

    فاضطررت إلى العودة إلى ذاكرتي المثقوبة كغربال محاولا عصرها لمقاومة إحدى آفات السجن ومخلفاته الخطيرة على السجين وهي النسيان,مستعينا ببعض شهادات الإخوة وتجميع وقائع وأحداث وطرائف ليكتمل هذا العمل الذي أحتسبه عند الله عز وجل.  وأتمنى أن يوفي الغرض الذي كتب لأجله من فضح للظالمين, ونصرة للمظلومين واستنصارا للموحدين, ولنقول ولنرفع عقيرتنا لمن له أذن أو أصغى السمع للنداء.

    نحن هنا,,,,نحن هنا,,, نحن إخوانكم,,, فلا تبخلوا علينا بواجب النصرة, وأقله الدعاء,والحبيب الصادق المصدوق يقول: فكوا العاني,فكوا العاني.

    أعود وأستسمح للمرة الألف القارئ الكريم إن أنا شططت في العبارة أولم أوفق في الإحاطة بالموضوع كما ينبغي أو زللت وأخطأت فالكمال لله وحده. وكم أكون سعيدا إن كتب لتعليقات القراء أن تتسرب وتصلني خلف هذه الجدران بعد كل حلقة تنشر,كما كتب لمحاولتي هذه أن تتسرب خارجها. خاصة ملاحظات ونقذ أهل التخصص في مجال الكتابة الأدبية. علي أستطيع تدارك بعض من أخطائي في الحلقات التي تليها. فلا تبخل علي أخي وأختي بالمساعدة والنصح والتوجيه حتى يكتمل المشروع ويوفي الغرض والمأمول منه ونقتسم أجر ذلك معا بإذن الله.

    ملاحظات لابد منها

    1-هذه المادة هي عبارة عن مذكرات وشهادات وخواطر حاولت وحرصت على تقديمها بأسلوب سهل سلس يستوعبه الجميع باختلاف مستوياتهم الثقافية والتعليمية. لهذا فإنني أعتذر عن الركاكة في التعبير وعدم تناسق الأفكار وترابطها.

    2- حين كتبت هذه المذكرات والخواطر لأول مرة حشوتها باللهجة العامية المغربية لأنني حينها لم أكتبها للنشرعلى مستوى القارئ العربي. لهذا فقد راجعت هذا الأمر قدر المستطاع وتركت اللهجة العامية في بعض المواضع مع ترجمتها للفصحى  لتقريب الفهم ما أمكن .

    3- قد يلاحظ القارئ الكريم بعضا من الكلمات أو المواقف التي تخدش الحياء. فما أنا سوى ناقل وراو لتقريب القاريء من الوضع ما أمكن ذلك.. والقاعدة تقول أن ناقل الكفر لا يكفر.

    4- تعمدت نشر هذه المذكرات على حلقات أو دفعات  بناء على نصيحة الأخ المكلف بنشرها لعدة أسباب أولها: ما ذكرته آنفا , وهو قراءة تعليقات القراء بعد نشر كل حلقة للإستفاذة منها في التصويب والتصحيح في الحلقات التي تليها.

    5- ربما قد تغيب أو تتوقف هذه السلسلة  لمدة من الزمن وذلك راجع لظروف المكلف بنشرها على النت أو تعسر وصولها إليه أو تأخرها أو ما قد يطرؤ من أسباب لا نعلمها, نسأل الله الحفظ والسلامة لكل الإخوة.

    6- ألح وأهيب بكل الإخوة والأخوات العمل على نشر هذه المذكرات على أوسع نطاق على الشبكة العنكبوتية ,على المواقع والمنتديات, إسلامية وغير إسلامية ,أدبية,فنية,رياضية,حقوقية,صحافية….إلخ. تعاونا على البر والتقوى وفضحا للظالمين ونصرة للأسرى الموحدين. والله لا يضيع أجر المحسنين فلا تحقرن أخي أختي من المعروف شيئا وإن قل.

    7- أسأل كل من اطلع على هذه المادة الدعاء لمن كتبها أو ساعد على نشرها  وإيصالها للعالم.

    شذرات من أقبية الأبالسة

    مذكرات ضحية من زمن الإنصاف والمصالحة المزعومة

    1

    الرابعة صباحا…. أفقت مذعورا أرتجف… كانت الضربات القوية تهز الباب هزا عنيفا…والجرس يرن دون توقف يوقظ الكامن في قلبي… ابنة أخي الصغيرة تصرخ في هلع وتتشبث بتلابيب أمها…. شقيقتي تقف مشدوهة مصدومة كالبلهاء وكأنها فقدت صوابها…. وقع أقدامهم يزلزل سقف البيت .ينطون فوق الجدران وأسطح الجيران كأفراد عصابة سطو محترفة …. انهارت والدتي المسكينة وبدأ جسدها يرتجف وهي تبكي وتشهق بحرقة لا مثيل لها من هول الصدمة مرددة.

    …هذا ما كنت أخشاه يا بني…هذا ما كنت أخشاه….”

    همست لها بعد أن عانقتها وأنا ألهث كحصان رهان مهزوم,محاولا التخفيف عنها والتهديء من روعها لا أدري كيف خرجت الكلمات من فمي… لقد عادوا … اصبري يا أمي… اصبري فلك أجر عند الله…

    ما إن فتح أخي الباب حتى صرعوه أرضا على ظهره …. تدفقوا كالكلاب الجائعة  أو الوحوش المنفلتة من أقفاصها.

    وبدأوا ينشبون سكاكينهم وأيديهم في الأفرشة والوسائد ,وهم يطلقون أقذع الشتائم وألفاظ السوق…احتج أخي في أدب وخوف قائلا.

    نحن أسرة محترمة … ولم نرتكب أي جريمة حتى تعاملونا هكذا…

    كلكم تكررون نفس الأسطوانة … قال أحدهم.

    اسألوا عنا كل الجيران … أقسم بالله العظيم…

    قاطعه كبيرهم مرة أخرى” نحن لانظلم أحدا ولا نلفق التهم دون أدلة “… (اللي دار راسو في النخالة كينقبو الدجاج)

    شجع الحوار الهادئ نسبيا شقيقي وجرأه أكثر.

    لو سمحتم أريد أن أعرف من أنتم وأريد رؤية إذن الوكيل العام بالتفتيش؟؟

    قهقه قائدهم ثم اقترب منه وجذبه من كم منامته صارخا في وجهه بعنف.

    تريد الهوية وإذن الوكيل العام يا أستاذ “. خذ هاهو الإذن”: وبحركة خبير متمرن صعقه بعصاه الكهربائية على خده.خارت قوى شقيقي فسقط أرضا مغمى عليه…ازدادت صرخات النساء والأطفال ارتفاعا دون أن يعبأ بهم أحد… ثم جروني إلى الخارج حافي القدمين دون أن يمهلوني لانتعال حذائي حتى.

    حاولت والدتي المسكينة التشبث بي ومنعهم وهي تبكي وتصيح :

    ” خذوني مكانه إنه مريض إنه مريض”

    حين فشلوا في إقناعها بأني سأعود بعد ساعتين على الأكثر لأن الأمر لا يعدو أن يكون إجراءا بسيطا وبضعة أسئلة. قذفوها كالكرة في الممر المؤدي إلى الدرج وسحبوني….

    ها قد عادت الأيام االسوداء مرة أخرى…. أين المفر؟؟إنه قدري الذي لا مفر ولا فكاك منه . لكن ما يجري هذه المرة يبدو أنه ليس كالمرات السابقة … الخطر ماحق… ومنذ صدور التقرير الأمريكي الذي صنف أبناء هذا البلد على رأس قا ئمة  من يعكرون صفو حلمهم بمشروع عالم إسلامي جديد ويظنكون عيشهم بدمائهم وأشلائهم على أرض الرافدين… صاروا منذ ذاك الحين كالكلاب المسعورة.”حرك السيد السوط فضاعف العبد المجهود”.

    هل نصيبي أن أعاني مرة أخرى وأ تعذب… فلم أكد أصدق أن خلاصي منهم قد حان حتى وقعت بين أيديهم من جديد…

    الصدمة والمفاجأة تسيطر علي, رجحت أن الأمر قد كشف. كنت على وشك الرحيل إلى غير رجعة. نعم إلى غير رجعة. قررت أن أترك لهم الجمل وما حمل,وإن كنت لا أملك لا جمل ولا حمل. بل حتى ثمن كيلو من شحم سنامه لم أجده يوم احتجته كعلاج شعبي وصف لي لتسكين آلام صدري.

    وأنا أنزل معهم الدرج… درج البيت خارت قواي… فشلت ركبتاي… دارت بي الأرض… تبخرت أحلامي الجميلة … واسود كل شيء أمامي … تبا لهم… لو أمهلوني أسبوعا فقط… أسبوعان على الأكثر… لقبضوا على الريح , ولم يقبضوا علي….

    جلبة وضوضاء غير معهودة تعم الحي في ذاك الوقت المتأخر من الليل… استفاق جل الجيران بعد أن أرغموا بعضهم على فتح أبوابهم واستعمال أسطح منازلهم للهجوم على بيتنا… أسلوب لإرهاب الناس وإنذار لكل من تسول له نفسه شيئا. الخبثاء يعلمون علم اليقين أنني لست مسلحا,ولا أشكل أي خطر على أي أحد. والعملية لن تحتاج لأكثر من فردين فقط, أو استدعاء للمثول بين أيديهم. أنا ضعيف البنية, معتل الصحة, رغم هذا فكل أصناف السيارات هنا. جيش من العمالقة احتل المكان اختيروا بعناية. لا يقل طول الواحد منهم عن المترين مدججين بالأسلحة. هالني المنظر وازداد رعبي ويقيني في أنها نهايتي.

    وهم يعبرون بي الزقاق الضيق صوب السيارة التي ستقلني نحو المجهول=المعلوم..

    تعالى فجأة صياح و صراخ احتجاج. حمدت الله,لا يزال في هذه الأمة من يرفض الظلم ويجهر باللهم إن هذا منكر.

    زال عجبي حين عرفت من يكون ووصلت كلماته مسامعي . إنه هو ,عبد الله. صادفت عودته كعادته في ذاك الوقت المتأخر من الليل وجود الزوار. منذ فتحت عيني في هذا الزقاق وأنا أعرفه على هذه الحالة. لا يكاد يصحو إلا في رمضان. مع ذلك كان يكن لي احتراما خاصا رغم أنني في سن أصغر أبنائه الذين (حركوا)=هاجروا سرا للضفة الشمالية بعد وفاة والدتهم وزواجه من بدوية في سن أصغرهم. لطالما أيقظتني الوالدة في جوف الليل للتدخل وإنقاذها من ركلاته ولكماته كلما عاد ثملا مهزوما في حلقات القمار.

     في اليوم الموالي كان يعتذر لي أشد الاعتذار ويعدني بالتوبة وعدم التكرار مع التزام الصلاة بمسجد الحي.

    يصرخ ويلعن…يرغي ويزبد…مترنحا وزوجته تحاول ثنيه وإدخاله بيته وهي تردد محاولة إلجام فمه بكفها (راه أحمق أسيدي ما تديوش عليه ,راه أحمق وعندو وراق السبيطار…)= إنه أحمق يا سيدي لا تلتفتوا لكلامه. إنه أحمق وعنده أوراق المستشفى التي تتبث ذلك.

    وهو يقاومها ويصيح: (الأحمق هو أبوك…هذا دري زوين ماعمرنا شفنا عليه شي حاجه خايبه. غير الدار للجامع الجامع للدار…سيرو شدوا كروش الحرام …آش بغيتو عندو آولاد الق…)

    هذا شاب طيب لم نر منه شيئا سيئا. من البيت للمسجد ومن المسجد للبيت …إذهبوا وألقوا القبض على أصحاب البطون المنتفخة بالحرام…ماذا تريدون منه يا أبناء العاهرات…

    لم يكد يكمل حتى رفع في الهوا…ذاب صراخه وسبابه ونحيبه وسط هدير محرك السيارة التي أركبوني إياها.

    ستصير واقعته لاشك حديث المجالس وقد تغطي بعض الشيء على حكايتي مع إضافة المزيد من البهارات والتوابل قصد التشويق والمتعة وتجزية الوقت وقتل الفراغ. تبا لهم…لكل المهووسين المسكونين بالإشاعة  والمبالغة. حتى والدتي كادت بدورها أن تصدق ما روجوه عن وجود أسلحة ومتفجرات في العلب الكرتونية التي جمعوا فيها كل كتبي وأشرطتي وحاسوبي المتهالك, وحرصوا كل الحرص على إظهارها واستعراضها أمام الجيران قبل  شحنها بكل عناية في سيارة خاصة محروسة غير تلك التي أقلتني…كان أول ما سألتني عنه في أول زيارة لي بعد إحالتي على السجن هو محتوى العلب الكرتونية التي أخرجوها من غرفتي…

    أجلسوني في وسط المقعد الخلفي…أحاط بي اثنان من الغلاظ الشداد واحد عن يميني والآخر عن شمالي …كبلوا يدي للخلف في عنف وقيدوا رجلي بأصفاد خاصة بالأقدام…تذكرت زمن العبيد المرحلين قسرا من أوطانهم صوب العالم الجديد أمريكا بعد الإكتشاف . تفو … تفو … تفو …ألف مرة على هذا الكريستوف كلومبس مكتشف هذا الطاعون…

    أدخلوا رأسي في كيس خانق…كل شيء يتم ويسير على الطريقة الأمريكية الهليودية لها الريادة في كل شيء…إنه زمن العبيد…زمن أمريكا …ومحاكاة أمريكا …ونصرة أمريكا والويل والثبور لمن غضبت عليه اللقيطة الشرسة. حبل صدام لا يزال متدليا يتأرجح لتذكير كل من سولت له نفسه العصيان…

    انطلقت كالسهم تشق هدوء الليل البهيم. رن الهاتف..أجاب أحدهم …نعم سيدي …نعم سيدي الأمانة معانا …كن هاني سيدي…بعد انتهاء المكالمة أنزلوا رأسي بين ركبتي بعنف وشدة. تقوس ظهري . ضغطوا عليه بقوة مع كلمات تحذيرية …كلما حاولت التململ زاد من بجواري في الضغط علي أكثر وضرب بقبضة يده الغليظة على قفاي …(نزل لمك راسك لتحت…)

    رن المحمول من جديد…(نعم سيدي احنا في الأوتوروت) = الطريق السيار…عرفت الوجهة زاد هلعي وانقباض صدري…خفقان قلبي…وبدأ مغص بطني الفظيع في مثل هذه المواقف…يبدو أن القوم مستعجلون متلهفون للقائي…

    تمتمت ببعض الأدعية…أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق. اللهم إني أجعلك في نحورهم وأعوذ بك من شرورهم. أحس بي من بجانبي فخاطبني ساخرا (سمعنا باش نقولو وراك آمين)=سمعنا لنؤمن على دعائك.

      غص ما تحت السماوات وفوق الأرضين بعيون المخبرين…

      لكل إنسان لدينا تهمة تمشي ويمشي معها ألف كمين…

      نصفها في داخل السجن ونصف خارج السجن سجين…

    ليتني رحلت معه ولم أتأخر…

    ” نموت مع الرجال خير لنا من هذا الجحيم الذي لا يطاق” هكذا كان يحدثني ويكرر على مسامعي صديق المحنة الأولى- ع- منذ أطلقوا سراحنا بعد ثلاثة أشهر من العتمة والعذاب والبشاعة…هنيئا لك يا -ع – لو كنت هنا لساقوك .لكن يبدو أنني سأؤدي نيابة عنك, والأداء لا شك أنه سيكون عسيرا هذه المرة . رأيت ذلك في عيونهم ولمسته من تصرفاتهم وشراستهم…

    “لم تعد البلد بلدنا والأرض أرضنا أصبحنا كالمصابين بالجذام المعدي…الكل صار يفر منا خوفا من الشبهة ومن بطش خفافيش الظلام…

    حتى الأقارب يخافون من زيارتنا ويتحرجون من زيارتنا لهم وصلة أرحامهم بل إن بعضهم يفكر في تغيير اسمه العائلي…”

    كنت أتهمه بالمبالغة وأنعته بالموسوس حين كان يحدثني أنهم قد دسوا لنا العيون والآذان في كل مكان. وكان يقسم لي أنهم لن يتركوننا في سلام وأن التهمة لن تفارقنا حتى وإن ولجنا قبورنا…ويستدل لي على ذلك بحادثة حسن الذي غيبوه شهورا عدة , وبعد أن تركوه مات في حادثة سير غامضة –ع- على الطريق الرابط بين العاصمة ومدينة القنيطرة. كل من شيعوا جنازته أو زاروا قبره للترحم عليه ابتلعهم الأخدود.

    ويتابع قائلا “لا تغتر أنهم أطلقوا سراحك…والله لم يتركوك إلا ليعيدوك  بملف ضخم هذه المرة بعد أن تكون  طعما لغيرك كما فعلوا بفلان..وفلان…وفلان…وعلان… ليس أمامنا إلا أن نتحول إلى جواسيس أو نرحل إلى أرض بعيدة…بعيدة جدا …ثم يتابع في إلحاح وحماس محاولا إقناعي … “أنسيت ما قاله لك (الحاج)في آخر استدعاء ؟؟؟ ألم يقل لك أن من مصلحتك ومصلحة البلاد أن تتعاون معهم …ألم تفهم ماذا يقصد بالتعاون؟؟؟ “

    انتفضت يوما في وجهه أو اصطنعت ذلك لاستفزازه ودفعه للإفصاح عما كان يدبره في الخفاء دون إخباري. نفس الشيء كنت أفعله هكذا علمتنا التجربة السابقة. المعلومة في وقتها وعلى قدر الحاجة لا على قدر الثقة. ثم شرعت أحدثه عن حب الأوطان وأسرد عليه بعض ما قاله الشعراء وكبار الأدباء في ذلك مما علق بالذاكرة من أيام الاحتفالات المدرسية بالأعياد الوطنية التي لا تكاد تنتهي من كثرتها…

    فرد علي ردا فاحما ” اسمع يا أخي … إن شعراؤك هؤلاء لم يجلسوهم على قارورة ولم يدخلوا العصي والأقلام في مؤخراتهم …لم يحاربوهم في أرزاقهم ولم تطاردهم عيون المخبرين والجواسيس في كل مكان…تصور حتى المعلمة صارت تسأل إبنتي عن تفاصيل حياتنا ومعارفنا وطعامنا… الحرارة أحسها هذه الأيام تقترب منا أكثر فأكثر ,لم أعد أشعر بالأمان والاطمئنان هنا… البلد صار كسجن كبير ونحن في حالة سراح مؤقت فقط … الأصدقاء يتخطفون من حولنا كما تخطف الطير. وفي صباح كل يوم تلوك الألسن قصة أحدهم وسيناريو اختطافه … لا أريد أن أموت بحسرتي خلف جدرانهم …

    “لماذا لا نحاول المقاومة؟؟؟ نتصل بالجمعيات  والحقوقيين…نحكي لهم ما نعيشه من تضييق وحرمان حتى من كسب قوت اليوم… ونسألهم الوقوف إلى جانبنا… “

    قهقه في سخرية وأجابني إجابة قانط يائس من الجميع, لكنه واقعي ومدرك لحقائق الأمور وحجم الخطر الذي كان يتربص بنا.

    “رغم ما عانيته أراك لا تزال ساذجا يا عزيزي . لو كنت شيوعيا…أو بوذيا… أو شاذا جنسيا لخرجت المسيرات ونظمت الوقفات الإحتجاجية من أجلك ولناصرك العام.أما وإنك قد صلبت على لائحة المتهمين بالإرهاب فلن يبك عليك غير أمك…حمزة لا بواكي له يا أخي … لا تغرنك الشعارات . انتهت سنوات وعهد الرصاص1 وجاء عهد الفولاذ … “

    ثم يشرع كعادته يوضح لي الفرق بين الحديد والفولاذ وأيهما أصلب …

    ” أين المفر وأي أرض تقبل أن نمشي فوقها والعالم كله قد تكالب وتعاون. حتى خلافاتهم وضعوها جانبا لما صار العدو أمثالنا؟؟؟ وآخر ما أسمعوني إياه بنبرة الواثق في نفسه قبل أن يخلوا سبيلنا المشروط في المرة السابقة هو…لو صعدت إلى القمر لجئنا بك في كيس مختوم محكم الغلق …لا تحاول اللعب …فعلها غيرك وفشلوا…فالعالم أصبح قرية صغيرة…ويدنا طويلة…

    ثم كيف السبيل والواحد منا لا يستطيع التحرك مسافة عشرين كيلو دون أن يخبرهم بذلك ويخضع لسين وجيم…ومن أين لنا بجوازات السفر…و…و…”

    قاطعني قائلا, مفصحا عما ضل يحوم حوله من مدة , وضللت أنتظره منه وأستدرجه للإفصاح عنه,مختبرا رد فعلي ومدى استعدادي وتجاوبي مع المشروع “…ليس لنا إلا أن نلحق بمن سبقونا. بطن الأرض خير من ظهرها في زمن الذل هذا…ميتون …ميتون…فلنمت بشرف بين الشرفاء. تابع في حماس لما لاحظ اهتمامي …بلاد الرافدين …بلاد الرافدين… أراها في منامي ويقظتي …ستندم وتقتلك الحسرة إن هم أعادوك هذه المرة…أنظر حولك…أين تعيش أنت…ألا ترى وتسمع كل يوم سيناريوهات الخلايا المزعوم اكتشافها والتي تتناسل ولا تكاد تنتهي تحت شعار الضربات الإستباقية؟؟؟. غدا أو بعد غد ستكون واحدا من أفرادها

    بل بقدرة قادر سيجعلونك أميرا على إحداها.”

    واصل في حماس أنا أتدبر أمر الطريق والجوازات …أما المال فنتدبره معا …”

    كنت رغم تظاهري بالتمنع واللامبالات واثقا في قرارة نفسي بصواب كل كلمة يتفوه بها المسكين, بل كنت قد بدأت البحث والتحري عن الطريق والوسائل الموصلة إلى هنالك. خاصة بعد أن وصلتني رسالة -خ- الإلكترونية المشفرة والتي جاء فيها بعد مقدمة ملؤها الشوق والمحبة والترغيب في اللحاق بالقافلة :

     “…تحررت من الخوف العقبى لكم …العقبى لكم…تصور رغم حمم النيران التي تقذف بها أحدث آلياتهم على رؤوسنا ورغم الموت الذي يحيط بنا في كل ناحية…وجحافلهم وعملائهم …رغم كل شيء أقسم لك أنني أحس بالحرية والأمن أكثر بكثير مما كنت أحسه وأنا معكم هناك” .

     ثم ختم رسالته ب : ” لا تصدقوا أبواقهم المسمومة والله إنهم بعدتهم وعتادهم يفرون من أمام الشباب الحافي الأقدام والذي لا يجد أحيانا غير التمر والماء كوجبة لأيام متتالية يفرون كالجردان المجنونة ذعرا…العقبى لكم أوصيك لا تتأخر عند أي فرصة …أنا الآن أشتغل في مجالي وأخرج بين الفينة والأخرى مع الشباب لصيد الخنازير وقنصها. لا تخف أعرف ما يدور بذهنك الآن, فرغم النظارات الطبية فقد أصبحت قناصا ماهرا …نحن في نعمة  وسعادة لا تعدلها نعمة في هذه الدنيا  دعائي لكم بالفرج والتوفيق فلا تنسونا من دعائكم.

    أخوكم -خ-

    2

    كانت تلك آخر رسائله, انقطعت بعدها أخباره عني . أحسست حينها بغربة ووحدة قاتلة ضلت  تحاصرني من كل الجهات. كنت عن طريقه أتنسم أخبار الأحبة,أعيشها لحظة بلحظة. أفرح لأفراحهم,وأحزن وأبكي أحيانا طويلا لأحزانهم وحسرة على عدم اللحاق بهم . حين حدثني عن ملحمة الفلوجة الأولى,وعن جوعهم وعطشهم لأيام عدة. عافت نفسي الطعام وفقدت شهيته كنت كلما جلست أمام المائدة تذكرتهم. تذكرت حكاية الشباب الذين حملوا أرواحهم على أكفهم حين تطوعوا لخرق الحصار المضروب قصد جلب جرعات ماء لإخوانهم ,وكيف مروا من بين دبابات الصليبيين وآلياتهم وسمعوا أصواتهم وقرع أكوابهم وآنيتهم,دون أن يفطنوا أو يحسوا بهم وكأنما غشيت أبصارهم وجعل وجعل في آذانهم وقرا. كانت تلك كرامة من عشرات الكرامات التي حدثني بها وعن تفكيره في جمعها وتدوينها حين يجد فرصة ووقتا لذلك.

    رأيته في منامي بجناحين يطير ويخاطبني مبتسما,مشيرا بيمينه مناديا

    “إلحق بنا لقد تأخرت, ولا تنس الوصية”

    استفقت مرعوبا مذعورا كعادتي مع كل حلم أتصبب عرقا. قلبي يخفق بسرعة وأكاد أسمع ضرباته: اللهم اجعله خيرا. أي وصية يقصد؟! رسائله التمويهية أرسلها بانتظام لأسرته! لم أرهق نفسي في حل رموز الرؤيا وتأويلها . رأسا توجهت صوب الأنترنت . الأيقونة تشير إلى أن لدي رسالة جديدة, أحسست بنشوة من فرح لم تدم طويلا. لم يكن عنوان المرسل عنوانه… وبريدي هذا لا يعرفه أحد سواه… ارتبت في أمرها مما جعلني أتوقف عن فتحها إلى أن استعنت بما أعرفه من إجراءات الحماية الأمنية الإكترونية في مثل هذه الحالات. ثم توكلت على الله وفتحت الرسالة. تسمرت حينها مكاني وأحسست بحمام عرق بارد يغسل كامل بدني, أعدت قراءتها بسرعة واضطراب. رسالة من دون مقدمات. وجمل متقطعة. يبدو أن صاحبها كتبها في عجلة وتوتر.

    “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, أنا أخوكم أبو….العراقي مسؤول في هيئة الإعلام أزف لكم نبأ استشهاد صديقكم وأخوكم –خ- الدكتور نسأل الله أن يتقبله. وصيته التي عهد إلي بإبلاغكم إياها هي وبعض صوره وكتاباته ستجدها على هذا الرابط …. لطالما حدثني عنك وانتظر وصولك على أحر من الجمر. يبدو أنه رحمه الله كان يعزك كثيرا. ولك مكانة خاصة في قلبه الكبير… أحبه الجميع هنا,مهاجرون وأنصار. منذ دخوله المبكر ارتأى الإخوة أن يضعوه في مكان يناسب تخصصه عملا بمبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب وأبدع وأفاد في مجال الإعلاميات والإلكترونيات ونفع الله به إخوانه وأمته. فكان من تفانيه وإخلاصه لاينام سوى أربع ساعات في اليوم والليلة حتى هزل جسمه وشحب لونه, فكان كلما طلب منه إخوانه أخذ قسط من راحة يجيب الراحة هنالك في الجنة ويشير بسبابته نحو السماء… وكان رحمة الله عليه يبكي بحرقة وتأثر كلما همت مجموعة من الشباب بالخروج إلى الميدان حسرة على عدم إشراكه في العمليات وشوقا للنزال. إلى أن اختير تطييبا لخاطره أكثر من أي اعتبار آخر. في عملية الثأر لأعراض المسلمات التي انتهكت في إحدى البلدات. سجد سجدة شكر وعانقني حين أعلمته ببشرى الإختيار التي كنت حريصا على أن أكون أول من يزفها له… لم ينم تلك الليلة من الفرح… ضحكنا طويلا وبدا كطفل مرح في يوم عيد أو عريس في ليلة زفافه… ونحن نستعد للخروج انفرد بي هامسا : 

    ” أحس أنني لن أعود, مدني بمفتاح + صغير قائلا:

     “هنا كل شيء , بريد صديق الطفولة الذي حدثتك عنه وصيتي, صوري ومجموعة من أشعار وخواطر. أتمنى أن تلح عليه بشدة لتنفيذها حرفيا بحذافيرها… دس يده في جيبه, هذا مبلغ مالي بسيط أهداني إياه الأخ أبو… الكويتي قبل استشهاده رحمه الله, نصفه سلمه لأسرة أبي… البغدادي ـ وكان من أحب إخوانه إلى قلبه ـ والنصف الثاني اشتري به أحدية رياضية للشباب ـ كنا حينها نعاني أزمة أحدية حتى لقبت كتيبتنا بمجموعة الحفاة. أما عن قصة استشهاده فقد أبلى رحمه الله في ذلك اليوم البلاء الحسن وكان أسدا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. بعد ساعتين من الإثخان في عباد الصليب وأذنابهم, جاءهم الدعم الجوي والبري لفك الحصار عن من بقي منهم حيا وإخلاء الجرحى الذين كانوا يصرخون كالنساء الثكالى .

    في مثل هذه الحالات جرت العادة أن ينسحب الإخوة في هدوء ووفق الخطة المرسومة والمدروسة سلفا وبعد أن تتطوع مجموعة للتغطية على هذا الإنسحاب وإشغال العدو. فكان رحمه الله أول المتطوعين فداءا لإخوانه وحماية لظهورهم رفقة ثلاثة شباب آخرين. قتل الدكتور وهو اللقب الذي كنا نطلقه عليه وشاب لبناني من أصل فلسطيني وعاد عراقي جريح وآخر فرنسي سليم. حدثنا الأخ العراقي أنه منذ الغزو الصليبي لأرض الرافدين ناذرا ما رأى رجالا كالدكتور تقبله الله. قاتل بضراوة حتى نفذت ذخيرته وضاعت نظاراته الطبية, وضل يناور من خندق لخندق ومن بيت لبيت لصرفهم عن الإخوة المنسحبين وشغلهم عنهم إلى أن أصيب في كتفه وصدره .

    حاول الأخ الفرنسي سحبه لكنه رفض وألح عليه بمساعدة الأخ الجريح والانسحاب الفوري. لم ينس رغم سكرات الموت أن يبلغ سلامه للجميع . طالبا الاعتذار والصفح عن كل ما قد يكون بدر منه في حق أحد. ثم نطق الشهادتين وابتسم ابتسامته المعهودة التي ضلت مرسومة على محياه رغم خروج روحه .”

    ختم الناعي رسالته بلا تنسوه وتنسونا من دعائكم وتنفيذ وصيته .

    أخوكم أبو …. العراقي خادم المجاهدين.

    وأنا أقرء مناقبه رحمة الله عليه وحادثة مقتله كنت أقاوم جاهدا الدموع المحتبسة في عيني . نسخت الرابط بأصابع مرتجفة, وأبحرت حيث الوصية وما رافقها من صور ومذكرات يوميات وأشعار…ثم همت على وجهي كعادتي حين تنتابني موجة حزن أوحالتي المرضية التي صرت بسببها كمن قرأت عنهم يوما ما ممن سموا (بالمشائين) أعتقد أن أرسطو كان أحدهم.

    همت على وجهي إلى أن وجدتني على شاطئ البحر.علاقة غريبة صارت تجمعني به مذ غادرت السرداب.  لو كلفني بهد هذا الصخر لكان أهون علي من تكليفي إبلاغ أسرته بخبر استشهاده.

    كان الوقت قد قارب غروب الشمس التي احمر قرصها وبدت شاحبة كئيبة وهي تغوص بتثاقل في الأفق الأزرق البعيد… استسلمت لبكاء مرير غير مبال بنظرات بعض العشاق الذين تناثروا في المكان . قد أكون عكرت عليهم ( صفو خلوتهم ) تجرأ أحدهم فتوجه صوبي تاركا مرافقته على بعد أمتار. كانت خطواتها مترددة تنتظر ردة فعلي مع مرافقها لتتشجع على التقدم نحونا أكثر…يبدو مثقفا في بداية الثلاثينات من عمره يحمل حقيبة يدوية جلدية ويرتدي بدلة أنيقة بدون ربطة عنق …

    “السلام عليكم…”

    خنقتني الدموع والشهيق فلم أجبه.

    مالك أخويا تبكي واش خاصك شي مساعد ؟؟؟

    استمر نحيبي وشهيقي . أمدني بمناديل ورقية ذات رائحة زكية أخرجها من جيبه. وأنا أمسح بها دموعي أعاد طرح السؤال مبديا رغبته واستعداده في مساعدتي. ظن المسكين أنني غريب تقطعت به الحبال. هكذا فهمت من كلامه. تشجعت صاحبته وتقدمت نحونا هي الأخرى قد يكون أشار عليها بذلك :”

    ماذا به… المسكين؟؟؟”

    لم تنتظر جوابه, فخاطبته بفرنسية سليمة.

     “يبدو أنه يعاني من مرض نفسي أو صدمة قوية أنظر إلى حركة خده الأيسر”

    (Il parait  qu’il est choqué ou  il souffre d’une maladie psychologique. Regarde sa joue gauche qui bouge).

    لا أدري كيف عرفت حالتي المرضية حين نطقت بها تحديدا باسمها العلمي الطبي. قد تكون أخصائية وربما ساعدتها الأعراض التي تظهر علي في مثل هذه الحالة لا إراديا من رجفة اليدين وارتعاش الشفتين واهتزاز رأسي كملاكم سابق أو مصاب بمرض الزهايمر. تلك حالتي كلما توترت أعصابي أو بكيت منذ غادرت سراديبهم في المرة الأولى. شجعت خطواتهما شاب آخر ورفيقته ضلا يرقبان المشهد من بعيد فتقدما نحوي . سألوا عن سكناي فلم أجب. عرض علي الثاني إيصالي بسيارته إن أنا رغبت في ذلك… أكره مواقفا كهذه أجدني فيها ضعيفا عاجزا مثيرا لشفقة الآخرين وإنسانيتهم . أحسستهم يصطنعون ذلك أمام مرافقاتهم . لم أدر ولم أذكر أمام إلحاحهم  وأدبهم المبالغ فيه, أو هكذا بدا لي, كيف خرجت الكلمات من بين شفتي المهتزة :

    “مات أخي… أخي مات …عانقني الأول صاحب الحقيبة الجلدية معزيا ومواسيا بكلمات يتداولها الناس في مثل هذه المناسبات وكأنه يعرفني من زمن طويل تقاطرت على مسامعي كلمات التعزية والمساواة على الطريقة المغربية في مثل هذه المناسبات والمواقف. لا أدري كيف كانوا سيتصرفون لو علموا كيف مات وأين قضى . أبديت لهم بلباقة وأدب رغبتي في البقاء وحدي فتفهموا الأمر. كنت رغم لطفهم أحسهم أثقل من جبل على صدري. عادوا لخلوتهم وبقيت متسمرا مكاني أرقب قرص الشمس الآفلة أنتحب كثكلى فقدت كل أبنائها …

    في هذه اللحظة كان من المستحيل أن لا أسترجع شريط ذكرياتي أن لا أسترجع شريط ذكرياتي معه. كلام (الفليلسوف) هكذا كنا نلقبه. لازلت أحتفظ به كعقد ثمين لا يفرط به. كان دائم الصمت وإذا نطق أرغم الجميع على الإنصات …

     ” إنتباه …إنتباه… سكوت …سيدي عبد الرحمن المجذوب سينطق بالحكمة”.

     هكذا كنت أمازحه منتشيا, فرحا, بقدرتي دون غيري على إخراجه من دوامة صمته وإشراكه في نقاشاتنا اللامنتهية التي لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ من جديد. وتنتهي بخصومات ثم حفلة عناق للتسامح والإعتذار…

    كنت أكنيه ب “ولد دانون”ّ أو الدجاج الرومي. فكان يجيبني متحديا سأصبح بلديا رغم عن أنفك…بعد أن أصبحنا من رواد بيوت الله زادت علاقتنا توطدا. لم نكن نفترق إلا عند النوم , قال لي يوما:

    “أحس أن لا أحد يفهمني في هذا العالم سواك.”

     لم يعرف الفقر كما عرفته, فكان ينفق إنفاق من لا يخشاه . ويعرف كيف يوظف ذكاءه المفرط وماله الوفير لإسعاد الآخرين ودعوتهم إلى الله… شغوفا… مندفعا بقوة لحل مشاكل الجميع, وصفه أحد الأصدقاء يوما مادحا كرمه وإنفاقه أنه لم يقل لا يوما إلا حين ينطقها في شهادة التوحيد. فكنت حين أجوع أو أحن إلى إحدى أجود أنواع الحلويات المنزلية المحشوة جوزا ولوزا وفستقا أواعد ع عند حاتم الطائي بعد أن نهاتفه فيفرح بذلك …

    بعد غزو التتار الجدد لبلاد الرافدين لم يعد يذوق طعم النوم . دائم البحث والسؤال دون ملل عن طريق موصل إلى هنالك . قال لي يوما :

    “لو وجدت من يوصلني إلى هناك وطلب مني نصف ما ورثته عن والدي رحمه الله لاقتسمت معه تركتي دون تردد…أخشى أن يمسنا عذاب الله . ويستبدلنا لأننا لانصلح ولسنا بحجم المسؤولية. أخشى من النفاق…”

    حين لاحظ استغرابي من كلامه تلا علي قول الله تعالى(يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض , أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة, فما متاع الحياة الدنيا إلا قليل ,إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير…

    ثم يشرع يذكر لي أقوال المفسرين والعلماء في تلك الآيات واستدلالاتهم بأسلوب سلس, رائع, جذاب, بديع, رغم مروري على هذه الآيات مرات عدة, كنت وكأنني أسمعها لأول مرة. الكلام حين يخرج من القلب يصل مباشرة وبسرعة إلى القلوب. هكذا قالوا قديما…

    تلك الأيام… حين كان الناس يعيشون تحت وقع الصدمة يضربون أخماس في أسداس تحسرا كما ضربها آباؤهم من قبل حين سقوط فلسطين. وحين صاروا كجمهور انحسر دوره في الفرجة وانتظار نهاية مباراة معلومة نتيجتها مسبقا. لا تكاد مؤخراتهم تفارق كراسي المقاهي متسمرين أمام القنوات الفضائية ببلاهة يتابعون تحليلات بائعي الكلام والوهم ومحللي الفضائيات المأجورين. وفتاوى تؤصل لدمي الحيض والنفاس ولا تلقي بالا لدم ثالث مهراق. دم المسلمين على أرض العراق وغيرها. حينها كان رحمه الله يقطع البلاد طولا وعرضا , مذكرا الشباب والدعاة بتعين فريضة الجهاد, وبمسؤوليتهم الشرعية والتاريخية , لأنهم طليعة الأمة, وأن التتار الجدد لن يردعهم ويردهم على أعقابهم سوى شباب الإسلام أحفاد القعقاع والمثنى وطارق بن زياد ….

    اكتشفت فيه حينها ما لم أكن أعرفه رغم عشرتنا التي دامت أزيد من عقدين من الزمن. شعلة متوقذة من حماس, طاقة دفينة مخزنة انفجرت فجأة, صار يتكلم كخبير متمرس في الإستراتيجية العسكرية والدراسات المستقبلية. كلما زرنه كان يبسط الخريطة أمامنا وأسهب في الشرح والتحليل بحماس غريب : ” أنظروا …منطقة الأنبار وديالى أقرب بقعة في بلاد الرافدين من فلسطين ثلاث مائة كيلو فقط تفصلنا عن القدس إنها فرصة العمر لقد ابتلعوا الطعم . ستذكرون ما أقوله لكم !!!

    لم يعد حينها -خ- الذي عرفت من قبل. في تلك الأيام وفي غمرة الحماس والاستعداد حصل الامتحان. هكذا سماه. بعد المناداة عليه لتسلم وظيفة جيدة براتب شهري مغري وامتيازات كبيرة تناسب شهاداته العليا. كان قد ربط الخيوط ووجد الطريق السالك. قال لي :

    “إنه اختبار من الله فهو سبحانه يمتحن عباده ليعلم الصادقين من الكاذبين “

    ثم تلا قوله تعالى(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره. والله لا يهدي القوم الفاسقين).

    لا أريد أن أكون من هؤلاء القوم الفاسقين ….لم يتأخر لحظة ورحل عند أول فرصة تاركا الدنيا والوظيفة وكل شيء خلف ظهره.

    أذكر تلك الليلة الأخيرة كأنها البارحة . كنا أربعة بتنا الليلة في بيت – ز- بدا سعيدا كعريس في ليلة دخلته. تحدثنا الساعات الطوال. لأول مرة دون توقف. تكلم كمن سيموت في اليوم الموالي ويخشى الرحيل دون قول ما كان يحتاج قوله. ضحكنا طويلا بعد أن حلق ذقنه وارتدى بدلة إيطالية الصنع بربطة عنق سماوية اللون . تغير شكله تمتما, وأجاب على تعليقاتنا الساخرة بكلمات مقتضبة:

    ” الحرب خدعة …هل تريدونني أن أسافر بلباس عسكري؟؟!!”

    قبل أن يغادر بكى ونحن ننشد بصوت جماعي خافت:

    وداعا أيها البطل            لفقدك تدمع المقل

    بقاع الارض قد نذبت      فراقك واشتكى الطلل

    لإن ناءت بنا الأجساد      فالأرواح تتصل

    ففي الدنيا  تلاقينا           وفي الأخرى لنا الأمل

    فنسأل ربنا المولى         وبالأسحار نبتهل

    بأن نلقاك في فرح        بدار ما بها ملل

    بها أبطال أمتنا            بها شهداؤنا الأول

    بها الأحباب قاطبة        كذا الأصحاب والرسل

    فيا من قد سبقت إلى       جنان الخلد ترتحل

    هنيئا ما ظفرت به         هنيئا أيها البطل

    أي وجه أواجه به أمي الحاجة؟؟؟ لا أدري… وكيف أتصرف في الوصية؟؟ بالأمس القريب وقبل يومين من تسلمي للرسالة. كنت لا أزال أمارس تمويهي وكذبي على المسكينة. زرتها كالعادة للسؤال عن رفيق الطفولة المسافر إلى ألمانيا. وهل من رسائل جديدة؟ وكيف هي أحواله البرد هنالك؟؟ في داخلي كنت أشعر بالألم والخجل وهي تحدثني عن رسائله وشوقه وأحوال الطقس التي لم يتعود على قساوتها. لم تكن تنسى إبلاغي سلامه الحار وشوقه لمعرفة أخباري. أهز رأسي أمامها ببلاهة مصطنعا السعادة والإصغاء لحديثها . كنت أنا كاتب الرسائل ( التمويهية) هكذا ارتأى رحمه الله قبل أن يرحل . لم يترك لي أي فرصة لمجرد الإستفسار.

    وإلا لكنت امتنعت عن هذه المهمة المعقدة والمشبوهة. ربما تعمد مفاجأتي بذلك في آخر لحظات الوداع , أو ربما لضيق الوقت حين سلمني الورقة الصغيرة وهو في طريقه إلى المطار: ” هذا إيميل الأسرة, تصرف أكتب لهم بين الفينة والأخرى رسالة حدثهم فيها عن أي شيء. عن ألمانيا وظروف الدورة التدريبية وضيق الوقت وكثرة الإنشغالات….و..و…و

    آخر مرة زرتها . كانت بعد استشهاده. ما إن رأتني حتى بكت . انخلع قلبي من مكانه . من أخبرها ؟؟؟ كدت أخر مغشيا علي أن تنشق الأرض وتبتلعني أهون علي من أن تكتشف أمي الحاجة ومعها بقية الأسرة كذبي وتواطئي. كانوا يعدونني واحدا منهم . كلما طرقت الباب رمت لي مفتاح البيت من الشرفة  كما تفعل مع أبنائها وأمرتني بالصعود. قالت لي مرارا:

    “لا تدري يابني معزتك عندي والله لو كانت لدي بنت بلا زواج لزوجتك إياها…”

     وقفت أمامها مشدوها … سحبتني من بوابة المنزل لفنائه كأنها تريد البوح لي بسر ما. حدثتني بعد أن أغلقت الباب ودموعها مسكوبة لا تنقطع.

    “قلبي يحدثني بشيء ما يا ولدي . رأيت البارحة خيرا وسلاما فيما يرى النائم. مجموعة من الجنود اليهود, في أعناقهم الصليب!!! لم أشأ أن أصحح معلوماتها وخلطها. كان الأمر أكبر من ذلك. طرقوا بابي وسلموني جثة إبني. كان مصابا في صدره ووجهه ودون نظارات. دمه أحمر غزير كشلال. وعلى وجهه هالة من نور قوي. قالوا لي هذا ابنك. فصرخت فيهم, قتلتموه يا مجرمين يا قتلة…قتلتموه… قتلتموه يا يهود…

    قلبي يحدثني بشيء غير جيد. أنا هكذا دائما ,غالبا ما تتحقق رؤاي …حتى رسائله (تقصد المسكينة رسائلي ) إنقطعت… والهاتف يستحيل أن يكون إبني بخير ولا يكلمنا في الهاتف…لم يهاتفني منذ سافر سوى مرتين, ورسائله لم تكن تشفي غليلي…ثم لماذا لا يكلمني مباشرة وأراه بكاميرا الكمبيوتر كما يفعل معي شقيقه من فرنسا مساء كل ليلة…لا …لا…لا..

    كنت كلما حاولت تهدأتها تعثرت الكلمات وانعقد لساني. خانتني العبارات . ماذا أقول في مثل هذه المناسبة . أي موقف هذا وضعتني فيه يا -خ -؟؟؟

    كنت حينها أغالب شلالات الدموع المنحبسة في مقلتي . أنقذني من ورطتي وحساسية الموقف رنين هاتفي في جيبي. غادرت البيت متمتما لها بكلمات لم أعد أذكرها … من يومها وأنا أحاول تفاديها… ضلت تلك الوصية كحمل ثقيل على عاتقي . زادت همومي, كربي, أرقي ووساوسي, فكرت في عشرات الحيل والطرق لإبلاغ أسرته بالنبأ. فكنت كلما وضعت خطة لذلك وهممت بالتنفيذ, تراجعت. شيء ما لم أستطع تفسيره كان يمنعني. عانيت من ثقل المسؤولية وبقيت على ترددي إلى أن تلقفوني من جديد. مازلت ليومي هذا تحيرني الرؤيا التي حدثتني بها أمي الحاجة, والدته رحمه الله. غريب أمرها. رأتها في نفس الليلة التي بلغني فيها خبر استشهاده . ازددت يقينا وإيمانا بالمقولة الشعبية التي رددتها والدتي مرارا على مسامعي في ما يشبه جلسات اعتراف كانت تقيمها لي كلما أحست أنني أخفي عنها شيئا: