ليس همّي في هذا المقال البحث في صلاحية تقسيم بلاد العالم إلى دار كفر ودارإيمان، فلهذا حديث آخر. وإنما همّي هنا أن أتناول سريعًا الضوابط التي على أساسها
ليس همّي في هذا المقال البحث في صلاحية تقسيم بلاد العالم إلى دار كفر ودارإيمان، فلهذا حديث آخر. وإنما همّي هنا أن أتناول سريعًا الضوابط التي على أساسها قسّم العلماء الدور إلى هذين القسمين، فمن الفقهاء مَن جعل الضابط في وصف الدار بأنها دار إسلام ظهور الشهادتين والصلاة وألا تظهر فيها خصلة كفرية إلا بجوار، أي إلا بأمان المسلمين وإذنهم، وهو يقتضي شرط غلبة المسلمين وقوتهم.
لكن ذهب بعض الفقهاء إلى أن كل دار يحكم فيها بالشريعة فهي دار إسلام ولو كان أهلها غير مسلمين، فالضابط هنا هو الحكم، في حين ترى طائفة أن دار الإسلام لا تتحول إلى دار الكفر إذا استلبها الكفار مثلا ما دام المسلمون فيها يحيون شعائرهم والإسلام فيها ظاهرًا. وهناك من يرى أن العبرة بالساكنين،فإن كانوا مسلمين يظهرون شعائرهم فالدار دار إسلام حتى لو لم تحكم بالشريعة الإسلامية، ولابن تيمية رأي بديع- في فتواه الشهير حول قرية ماردين التي احتلها التتار- هو ما يمكن أن يسمّى “الدار المركّبة” وهي التي اجتمع فيها معنيان، فيعامل المسلم بما يستحق، والخارج عن شريعة الإسلام بما يستحق.
وفي كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ينقل أقوال الفرق في أحكام الدور من وجهة نظرهم فيقول:
“واختلفوا: هل الدار دار إيمان أم لا؟
1 – فقال أكثر المعتزلة والمرجئة: الدار دار إيمان.
2- وقالت الخوارج من الأزارقة والصفرية: هي دار كفر وشرك.
3- وقالت الزيدية: هي دار كفر ونعمة.
4- وقال جعفر بن مبشر ومن وافقه: هي دار فسق.
5- وقال الجبائي: كل دار لا يمكن فيها أحدًا أن يقيم بها أو يجتاز بها إلا بإظهار ضرب من الكفر أو بإظهار الرضى بشيء من الكفر وترك الإنكار له فهي دار كفر، وكل دار أمكن القيام بها والاجتياز بها من غير إظهار ضرب من الكفرأو إظهار الرضى بشيء من الكفر وترك الإنكار له فهي دار إيمان. وبغداد على قياس الجبائي دار كفر لا يمكن المقام بها عنده إلا بإظهار الكفر الذي هوعنده كفر أو الرضى كنحو القول إن القرآن غير مخلوق وإن الله -سبحانه – لميزل متكلمًا به، وإن الله -سبحانه – أراد المعاصي وخلقها لأن هذا كله عنده كفر، وكذلك القول في مصر وغيرها على قياس قوله وفي سائر أمصار المسلمين وهذا هو القول بأن دار الإسلام دار كفر ومعاذ الله من ذلك.
6- وقال بعضهم: الدار دار هدنة ولم يقولوا إنها دار إيمان ولا قالوا إنها دار كفر، وهذا قول بعض الروافض”. انتهى.
هاهنا يستوقفني كلام أبي عليّ الجبائي في ضابط ما هي دار الكفر والإيمان عنده،فكل دار لا يمكنك أن تقيم بها إلا بإظهار الكفر أو الرضا به أو أنك -على الأقل – لا تستطيع إنكاره فهي دار كفر، وكل دار بخلاف هذا فهي دار إيمان.
تأمل أخي القارئ في هذا الضابط، تجد أنه يدور حول (الحرية)، حرية الإيمان،وحرية الإنكار للكفر؛ أي ما نسميه في هذا العصر (حرية الرأي والتعبير).
وبغض النظر عن إلزام أبي الحسن الأشعري له بأنه يلزمه أن تكون بغداد وغيرها من بلاد المسلمين دار كفر، ذاك أن أبا الحسن يعلم أن هذه الأوصاف التي ذكرها أبو علي الجبائي تنطبق على ديار المسلمين وقتها، وإذن فأبو عليّ لا يستطيع إنكار هو ما هو عنده كفر، ما يوحي بأن أبا عليّ كان مقهورًا مكرهًا غيرقادر على الإنكار، مضطرًا إلى إظهار الرضا بما هو عنده كفر.
وبغض النظر عن إلزام أبي الحسن الأشعري للجبائي المعتزلي، فإنك لو تأملت هذا الضابط من هذا العالم المعتزلي للتفريق بين الدور، لعلك تعيد النظر فيما هي دار كفر ودار إيمان، فربما على وفق هذا الضابط تكون بعض البلاد الغربية أولى بتسميتها: دار إيمان، على وفق هذا الرأي الثوريّ الفريد.