يتوهم المتفائلون ، بل الشاطحون في تفاؤلهم ، أن التكفير الذي يمثل الخلفية الفكرية للإرهاب قد زال بزوال ظاهرة التفجير والتدمير . ارتباطهم بالعيني والمباشر
يتوهم المتفائلون ، بل الشاطحون في تفاؤلهم ، أن التكفير الذي يمثل الخلفية الفكرية للإرهاب قد زال بزوال ظاهرة التفجير والتدمير . ارتباطهم بالعيني والمباشر ؛ جعلهم ينسون أو يتناسون الخلفيات الفكرية المُحفّزة للعمل الإرهابي . حتى أولئك الذين كانوا يُحاولون مقاربة ظاهرة الإرهاب ولو بالشجب والتنديد ، سكتوا ؛ عندما خفت دوي الانفجارات ، وانحسرت دائرة الاغتيالات الإرهابية . الإرهاب لدى هؤلاء ليس إلا العمل الدامي في الواقع المتعين . أما كل ما يقود إليه بالضرورة ، فليس إلا تعبيرا عن رؤية متشددة ، لا أكثر ولا أقل ، رؤية متشددة لا تؤثر في الواقع !. بل قد يزيد بعضهم أو يزايد ؛ فيدّعي أن هذه الرؤية المتشددة : حرية تفكير وحرية تعبير ؛ غير مفرّق بين حرية التعبير وحرية التكفير!.
الإرهاب كفكر لا زال مجهولا ، ولا زالت هناك عقبات وعقبات تحول دون وضع النقاط على الحروف بالكامل . ومع هذا فقد كنت ولا أزال أصرّ على تتبع السلسلة الفكرية إلى حلقتها الأولى ، على الأقل بالتلميح إذا تعذر التصريح ، وهو الممكن في الوقت الحالي . إصراري على أن التكفير / الإرهاب ظاهرة فكرية متمددة بأوسع مما نتخيل ! ، خالفني فيه كثيرون ، خاصة من أبناء التيار الديني الذين ( يشجبون ) الإرهاب بصدق ، ولكنهم يحسنون الظن كثيرا ، بل وخالفني فيه حتى غير المتدينين ، إذ رأوا أنني أعطي الظاهرة أكثر مما تستحق ، وأنه ظاهرة عابرة ستنتهي عما قريب ، وكانوا يراهنون كثيرا على صمت كثير من التقليديين وعدم جرأتهم على التكفير ، وكنت أراهن على أن هذا الصمت مجرد حالة اضطرار ظرفي.
طوال الفترة الماضية ، ولمدة ثلاث وأربع سنوات تقريبا ، انقلب خلافي مع من يرون أن التكفير كان ظاهرة محدودة جدا ، وأنها تلاشت ، وأن رموز التقليد لا يدعموننا ولو بصمتهم ، من مجرد خلاف إلى عتاب حاد أحيانا . كانوا يقولون لي : أين هو التكفير الذي تتحدث عنه وكأنه طوفان كاسح ؟ . كان جوابي دائما هو الإحالة إلى تلك المقولات الأساسية ( التكفيرية ) في المنظومة التقليدية التي لم تُراجع بعد ، ولا يستطيع أي تقليدي تجاوزها ، فضلا عن التنكر لها ؛ لأنها ترقت في خطاب التقليد إلى أن أصبحت : بنية عقائدية يستحيل اجتزاؤها من بعضها على مستوى الإيمان ، بل وكنت أدعم رؤيتي بأن أحيلهم إلى المقولات السابقة لبعض رموز التقليد الأحياء أو قريبي العهد بالهلاك ، أي من المعاصرين ، وإلى مؤلفات بعض مريديهم الأوفياء الصرحاء . كانت الإحالة على مقولات صريحة جدا في التكفير ، حتى وإن تم تبريرها عقائديا ؛ إذ لا تكفير بلا تبرير . لا يوجد تكفيري يقول : أنا أهوى التكفير ، أو أنا أمارس التكفير بالهوى ، بل كلهم يؤكد أنه لا يُكفر إلى من كفّره الله ورسوله ، أي أنه يتعبد الله بالتكفير .ويقول لمن يتهمه بالتكفير : سبحانك هذا بهتان عظيم . يقول هذا وكأنه يمتلك عصمة الفهم وعصمة تنزيل فهمه على الوقائع والأعيان.
أذكر أن أحدهم ، وكان ليبراليا حرا ، قال لي قبل أربع سنوات تقريبا : لماذا تُكثر الكتابة عن خطاب التكفير ؟ إن خطاب التكفير قد تلاشى بعد أن فضحته الأعمال الإرهابية ، صدقني لا يوجد التكفير الصريح إلا عند شواذ المتطرفين ، وهم قلة نادرة جدا لا يستحقون حتى التنبيه لخطرهم . عند ذلك ، وكخطوة أولى ، أحضرت له مقولات التكفير عند بعض رموز التقليدية ، وهي أسماء يعرفها جيدا ، صمت قليلا ثم قال : هل تعتقد أن هؤلاء لا زالوا يؤمنون بهذه المقولات المتطرفة؟ أجبته : لم يصدر عنهم أي تراجع أو تصويب إلى الآن ، ثم إنها مقولات تتسق مع المنظومة التقليدية التي لا يرون أن سواها على الحق المبين . ابتسم وقال : أحيانا يصعب التراجع أو الاعتذار الصريح ، خاصة عند أولئك الذين يمتلكون كثيرا من المريدين والأتباع . ولهذا فقد يكون الاعتذار أو التراجع ضمنيا ، وذلك بالصمت عن الماضي وتناسيه ، صدقني هذا تراجع يجب أن نفهمه ونتفهمه ، وإلا لماذا لا يُصرّحون اليوم بهذه الآراء التكفيرية ، أنا لم أسمع منهم أي تكفير صريح ؟ أجبته : الظرف الأمني الراهن ، حيث فوران بركان الإرهاب ، يجعلهم يُحجمون عن الكثير من عقائد التكفير . قال : أنت الآن دخلت في النيات ، أنت تبالغ كثيرا.
لم يستطع هذا الصديق أن يصدّق أن الصمت عن التكفير آنذاك ، هو : مجرد سكوت ظرفي ، ولم أستطع إقناعه أن عقائد التكفير يستحيل تجاوزها بهذه السهولة التي يتصورها ، وأن زعزعة منظومة التكفير من قواعدها عمل يحتاج لنقد جذري وشامل وطويل الأجل لمجمل مقولات التقليدية ، وليس لجزئية محدودة منها ، وأنه لا يُجزئ عن ذلك مقولات الشجب والتنديد والاستنكار!.
لقد غيّر كثيرون رأيهم ؛ بعد أن صدرت تصريحات تدعو للقتل أو للتكفير المنهي بالقتل . لقد عذرني من عذلني . كان هؤلاء يحتاجون إلى تكفير صريح وراهن ؛ حتى يصدقوا أن خطاب التكفير ليس ببعيد عن مجالهم الثقافي . لقد تغير حتى كثير من المتدينين الطيبين الذين كانوا لا يتوجسون كبير خطر من خطاب التكفير ، بل وكانوا يحسنون الظن كثيرا بكل رموز التقليدية . لقد صدموا بمثل البيانات الصريحة التي تدعو للتكفير والقتل . لا زلت أذكر ، بعد أن أصدر أحد التكفيريين فتوى بتكفير بعض المثقفين بأسمائهم ، اتصل بي أحد هؤلاء الطيبين من محسني الظن برموز التقليد ، وقال : هل من المعقول أن هناك من يمارس التكفير ، وعلى هذا النحو الصريح ، إنني وبصراحة ، كنت أظن كلامك عن التكفيريين كلاما عن أشباح لا يمكن أن ألمسهم بيدي ، فإذا بهم ممن أستفتيهم وربما صليت مأتماً بأحدهم ! . قلت له : بل هذا هو المعقول ، وستأتيك الأيام بالمزيد . لم يطل الوقت حتى صدرت فتوى : قتل ملاك القنوات الفضائية ، وكانت صدمة أكبر ؛ لاعتبارات كثيرة ، ليس هذا مجال تفصيلها ؛ وإن كان من المؤكد أن ليس للقيمة الذاتية لمن قال بها أي اعتبار في هذا المجال . آنذاك ، ترنح كثير من المتعاطفين مع مقولات التقليدية من هول الصدمة . المدافعون لم يستطيعوا الدفاع إلا بتأكيد الفتوى والاعتذار عنها ببيان اتساقها مع منظومة التقليد ، وكان اعتذارا أشنع وأفضح من ذنب التكفير؛ فهم بهذا أكدوا أنها ليست رأيا شاذا في التكفير ، وإنما هي تعبير عن خفايا منظومة واسعة لا يجد كثير من أبنائها اليوم الجرأة على كشف كل أوراقها.
صدرت كثير من فتاوى التكفير الصريحة ، التكفير الصريح يعلن عن نفسه بكل وضوح . لكن ماذا عنا نحن ، هل لا زال هناك من يقول بهامشية خطاب التكفير ، هل لا زال هناك من يسأل : من أين يأتي التكفير والإرهاب؟ عندما كنت ألحّ قبل سنوات على خطورة خطاب التكفير ، لم أكن اصدر من فراغ . أعرف خطاب التكفير عن قرب ، أعرفه بالمعايشة الفكرية وبالمعايشة الاجتماعية منذ سنوات الطفولة الأولى ، أعرف آماله وطموحاته ، ما يسره وما يحزنه ، أفهم معاني همهماته بالليل وهمساته بالنهار ، أعرف مقولاته الأساسية والفرعية ، أعرف متى يستطيع التنازل ومتى لا يستطيع ، أعرف متى يرغب ويطمع ومتى يرهب ويقطع ، وأعرف طرائقه في التفكير الخاص وفي التفكير العام ، أعرف تصوراته الكلية عن الحياة وعن الأحياء وعن الدنيا وعن الآخرة ، أعرف تياراته وانقساماتها ، والخلفيات الفكرية والاجتماعية بل والشخصية لهذه الانقسامات ، أعرف ما بينهم من توافق وتعاضد وما بينهم من تضاد ، أعرف طبيعة خياراته حتى قبل أن يهمس بالاختيار ، أستطيع أن أتنبأ بسلوكياته حتى وهو يُوهم بما ينفي صريح تلك التنبؤات الاستباقية . ونتيجة لذلك ؛ تبين لي بوضوح ويقين أن من كل من يدّعي أن التكفير ظاهرة شاذة ومحدودة وعابرة ومحصورة في نطاق ضيق من المجاهيل والأغرار الخارجين على النسق العام للمنظومة التقليدية ، هو بين حالين لا ثالث لهما ، إما:
1- مُنصهر بحكم النشأة والتربية في خطاب التكفير ، بحيث لم يعد يرى القول بالتكفير جريمة تستحق الإدانة ، بل ربما رآه (التصريح بالتكفير) تعبيرا صادقا عن الجرأة في الحق ، ودليلا على الإخلاص . وهذا نتاج طبيعي للتطبيع بثقافة التكفير . فالتكفيري لا يعتقد أنه بتكفيره يمارس جريمة ، بل يعتقد أنه يمارس نوعا من التعبد لله بأقصى درجات الإخلاص . وليس شرطا أن يكون هذا المنصهر في خطاب التكفير تكفيريا واعيا بحاله ، بل الغالب أنه لطول ما سمع من مقولات التكفير ، ولكونه يراها تصدر عن رمز يتمسح بمظاهر تقويّة صادقة أو كاذبة ، ولكون هذه المقولات التكفيرية مشحونة بالنصوص التي توحي للمتلقي شبه الجاهل بقداسة الفكرة التكفيرية المستنبطة منها ، لا يرى فيها ذلك النمط من التكفير الخوارجي الذي يجب التصدي له . يؤكد هذا أن أحدهم ، لما عرضتُ عليه بعض مقولات التكفير ، قال : هؤلاء معهم أدلتهم ، لم يأتوا بشيء جديد . وآخر قال : نعم هذا تكفير شرعي وليس كتكفير الخوارج بالمعصية . أجبت الأول بأنه حتى الخوارج الذي يعترفون علانية بأنهم خوارج لديهم أدلتهم ، بل هم أشد الناس ارتباطا بحرفية النصوص وهم أكثر من غيرهم استسلاما لها . وأجبت الثاني أن كل تكفيري يرى أن تكفيره شرعي ، وأن الخوارج لم يكفروا بالمعصية فقط ، بل إن مجمل تكفيرهم كان تكفيرا بلوازم عقائدية يستدلون عليها بواسطة اجتهادهم الخاص ؛ كما هي الحال في موقفهم من التحكيم .
إذن ، من الواضح أن هذا النوع لا يرى التكفير تكفيرا ، بل هو يراه ممارسة شرعية طبيعية ؛ نتيجة اندغامه في خطاب التكفير على مستوى اللاشعور ، حتى وإن تمنّع عليه على مستوى الفكر النظري المجرد . ولهذا يتعجب هذا وأمثاله من موقف أغلبية المسلمين (أكثر من 99% من المسلمين ) منه ، وكيف أنهم يتهمونه بأنه ينتمي لمذهب تكفيري خاص . إنه يتعجب ، كيف يرى الآخرون منه ما لا يراه من نفسه ، ويغيب عنه أن الخوارج في القرن الأول كانوا يرون أنهم جماعة المسلمين ، وأنهم الفرقة الناجية ، وأصحاب العقيدة النقية الصافية ، وأنهم كانوا يعجبون ويتعجبون من رؤية الناس لهم أنهم أصحاب مذهب تكفيري خاص ، مذهب ينفي كل ما سواه ، بل ويتشظى على نفسه طوال تاريخ مُزايداته التي لا تنتهي على التشدد والتكفير.
2- المثقف المدني ، الذي لم يقرأ كثيرا في تراث منظومة التكفير ، ولم يعايش المتطرفين عن قرب . وهذا يعتقد أن التكفير شطح في التفكير ، اعتنقه بعض الأغرار ؛ صغار السن ، بعد أن تم التغرير بهم ببعض الثقافات الوافدة . ومشكلة هذا النوع من المثقفين أنه يحسن النية في معظم رموز المنظومة التقليدية ، فهو قد يراهم قاصري الوعي ، ومحدودي الاطلاع ، ولكنه لا يعرف طبيعة الترسانة التراثية التقليدية التي يتكئون عليها ، بل وربما لا يعرف الكثير عن المبادئ الأساسية في المنظومة . وحتى إذا قرأها ففي الغالب أنه يقرأها بعمومياتها كقواعد عامة ، ولا يقرأ شروحها التي تحدد التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان ؛ ولهذا كانت صدمة هذا النوع بالفتاوى التكفيرية التي صدرت في السنتين الأخيرتين صدمة كبيرة ، واجهها باستنكار واستغراب ، وكأنها حراك شاذ خارج النسق . بينما كان العارفون بخطاب التكفير يرونها تصريحا ببعض التكفير الذي طال التكتم عليه ، وأن الغرابة ليست في قول من قال ، ولا في تصريح من صرّح ، بل هي في سكوت من سكت ، وجبن من جبن ، ونفاق من نافق ( النفاق السلوكي لا العقدي ) ومداهنة من داهن..
وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا