«بوكو حرام».. بين التفكير داخل الصندوق والسبي خارج التاريخ

0

لم يهزني شيء بعد إحراق المسلمين في بورما واغتصاب المسلمات في أماكن عدة من بلداننا المحتلة، مثلما هزتني حادثة اختطاف أزيد من مائتي تلميذة والتهديد ببيعهن

 

مصطفى الحسناوي

 

لم يهزني شيء بعد إحراق المسلمين في بورما واغتصاب المسلمات في أماكن عدة من بلداننا المحتلة، مثلما هزتني حادثة اختطاف أزيد من مائتي تلميذة والتهديد ببيعهن خارج بلادهن على يد جماعة “بوكو حرام”، في عملية أشبه بتصدير البضائع أو الأحرى تهريبها مع فارق أن ثمن التلميذة أعلن أنه في حدود عشر دولارات؛ أي ما يعادل ثمن دجاجة تقريبا.

تكلفة الصفقة الخاسرة برمتها في حدود ألفي دولار، ورغم أن المبلغ الذي حددته الجماعة المختطفة تافه جدا، والثمن أقل من بخس، إلا أني لا أقصد بالصفقة الخاسرة جانبها المادي بطبيعة الحال، بل جوانب أخرى تعكس بحق كارثة وفضيحة بكل المقاييس الشرعية والأخلاقية والسياسية والحقوقية والإنسانية والعقلية، وبكل معايير الرجولة والشهامة والرحمة والحكمة والدعوة وقواعد وأخلاق الحرب وأفعال العقلاء.

المعلومات التي ترشح شحيحة، والحيثيات والملابسات لا يمكن الإمساك بكل خيوطها، لكن رغم كل شيء لا يمكن بعد استنكار هذه العملية إلا القول أنها صفقة خاسرة سياسيا وأخلاقيا وإنسانيا؛ وبيع حرام لاعتبارات شرعية وسياسية وواقعية عديدة.

تحدثت التقارير الإخبارية؛ رغم أني لا أفرق بين التقارير الإخبارية والتقارير المخابراتية حين يتعلق الأمر بالمسلمين، ومنهجيتي أني أتعامل باحتياط شديد معتبرا أن الأصل في تلك التقارير عدم الصدق أو عدم الثقة إن تعاملت معها بنوع من التفاؤل وإحسان الظن، ولا فرق عندي بين جهة وجهة، ووكالة ووكالة، لأنها كما قلت حين يتعلق الأمر بقضايا المسلمين فإنها تمتح من معين واحد وتكتب من محبرة واحدة.

قلت: تحدثت تلك التقارير عن دوافع العملية قائلة إن تحريم الجماعة للتعليم الحديث ومنهاجه التي ترى فيها محاربة للشريعة والتعليم الشرعي وأصوله ومبادئه وأهدافه هو الدافع وراء استهداف التلميذات كنوع من الحرب على التعليم ورواده.

سنتعامل مع هذا الخبر على أنه فرضية، ونتناوله بشيء من التحليل، وهي فرضية لا تغير من حقيقة الأمر شيئا بقدر ما تنزع للبحث في دوافعه، والنقاش في هذه الورقة سينصب على الفعل بغض النظر عن دوافعه، لكن لا بأس بوقفة عابرة عند تلك الفرضية فأقول: إما أن التلميذات المختطفات مسلمات، وهنا تكون الجماعة وقعت في محذور، فالمسلمات لا تسبى ولا تسترق، ولا يجوز الاعتداء عليهن بحجة منعهن من أمر ترى الجماعة أنه غير جائز، فكيف باختطافهن وبيعهن دون الحديث عن الجهة التي ستشتريهن.

وإما أن تلك التلميذات غير مسلمات، وهنا لا يجوز للجماعة أن تفرض عليهن نوع التعليم الذي عليهن تلقيه. والشريعة وتعليمها لا تلزمهن، فما بالك باختطافهن وبيعهن لأجل ذلك، وماذا إن كانت الجهة أو العصابة التي ستشتريهن ستستعملهن وتستغلهن في أعمال غير شرعية، ألا يكون ذلك إعانة لها؟ هذا إذا سلمنا جدلا بجواز الفعل ابتداء، ودون ذلك خرط القتاد كما يقال.

جاء الإسلام وقضية استرقاق واستعباد الأسرى وبيعهم نظام معمول به عالميا، ولم يمكن إبطاله خاصة أنه لا سلطة للإسلام على خصومه وأعدائه، ولا يعقل أن تقترف جيوش الأعداء فظاعات وجرائم الاسترقاق والسبي بحق أسرى المسلمين وهي آمنة مطمئنة لا تخشى عواقب أفعالها. في حين يمنع المسلمون من ذلك.

لهذا فإن الإسلام أقر واقعا قائما ولم ينشئه وأباح للمسلمين ذلك الأمر كنوع من الردع وخلق توازن الرعب في واقع لا يعترف إلا بالقوة، وأباحه كنوع من المعاملة بالمثل بل أحسن، فقد ضبط ونظم قضية الرق والسبي وجعل لها قواعد وأحكاما، وأعطى للأرقاء والسبايا حقوقا تعتبر ثورة في ذلك العصر حتى أن ذلك فتح أبوابا للشرور والمفاسد أصبحت تهدد حصون الإسلام من الداخل لكثرة ما أغدق المسلمون على السبايا اللواتي يتم تقديمهن للملوك والأمراء من حقوق وامتيازات جعلت بعضهن الآمرات الناهيات داخل القصور، ومنهن الجاسوسات اللواتي أظهرن الإسلام وأبطن الكفر والحقد والرغبة في الانتقام. فالعملية محفوفة بالمخاطر والإنسان جبل على الحرية، والأصل فيه أنه حر، ومتى سلبت منه حريته فلن يتوانى في الانتقام لنفسه.

للأسف، كثيرا ما يتعامل بعض المتدينين أو الدعاة والمشتغلين في هذا الحقل مع المباحات والرخص والاستثناءات على أنها فروض وواجبات، ومع كثير من المتغيرات على أنها ثوابت وأصول، وفتاوى وآراء الفقهاء على أنها نصوص قطعية الدلالة والثبوت.

إن قضية السبي التي نحن بصددها، أبيحت على خلاف الأصل. إذ الأصل في الإنسان أنه حر مكرم. وإباحة ذلك ليس مقصدا أصليا له تعلق بحفظ المصالح الضرورية للإنسان، فحفظها متحقق بدون اللجوء إليه. بل هو مقصد تبعي الغرض منه التوسعة ورفع المشقة على المسلمين الذين يتعرضون لنفس الفعل ابتداء على يد أعدائهم ولا سبيل إلى ردعهم إلا بمعاملتهم بالمثل. والإسلام فرق بين المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية حتى في لغة وصيغة الخطاب، فجعل خطاب الأولى بصيغة الإيجاب والإلزام وجعل خطاب الثانية بصيغة الإباحة.

لتأمل حادثة سبي الفتيات النيجيريات التي هي عندي أبشع وأخطر من جريمة لو تم قتلهن بتفجير مدرستهن. نجد أنها مخالفة لجملة من الأصول والكليات. وبمقاربة مقاصدية حتى إذا اعتبرنا أن في الأمر مصلحة ما، إلا أن مفاسده أكبر وأعظم، والقاعدة أنه إذا غلبت المفسدة المصلحة رُجِّح جانب الترك على جانب الطلب، بل حتى إذا تساوت المصلحة بالمفسدة تُرك الفعل درء للمفسدة لأن دفع المضار مقدم جلب المنافع، فكيف وأن المصلحة منعدمة أو موهومة والمفسدة محققة وراجحة ويقينية في هذه الحادثة. وباب الموازنة بين المصالح المتزاحمة والمتعارضة في شرعنا باب عظيم حيث يتم ترتيبها والمفاضلة بينها بحسب أهميتها وبحسب شمولها وبحسب رجحان وقوعها، هذا في تعارض المصالح، فكيف بالموازنة بين المصالح والمفاسد المختلطة، وكيف لعمل كله مفاسد وأضرار.

وإذا كانت أضرار هذا الفعل لا تعد ولا تحصى فإن مقترفيه لم يراعوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» الذي هو أصل وقاعدة في قصد وغاية الإسلام إلى نفي سائر أنواع الضرر، التي يلحقها الإنسان بغيره أو بنفسه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حين يضره شخص آخر على سبيل المجازاة. فأي باب للشرور والأضرار فتحته هذه الجماعة بهذه العملية غير المسبوقة فيما لو قام غير المسلمين بنفس الفعل على سبيل المجازاة والمعاملة بالمثل. فضلا عن أضرار التشويه والتشهير بالإسلام والمسلمين والدعوة والدعاة.

وحتى لو اعتبرنا أن الذي دفع الجماعة لهذا الفعل هو دفع ضرر عظيم لحقها، فإن قواعد شرعية كثيرة تتعاطى مع مثل هذه اللوازم والوقائع بحكمة بالغة ورؤية ثاقبة نافذة وسياسة راشدة وتقدير للعواقب مضبوط، ومن ذلك: أن الضرر لا يزال بالضرر؛ وأن الضرر الخاص (بوكو حرام) يُتحمل لرفع الضرر العام (الإسلام، الدعوة، الأمة).

إن مسألة الاسترقاق والسبي ليست من مسائل الاعتقادات أو العبادات أو الأخلاق القطعية والثابتة، بل هي من مسائل المعاملات التي تراعى فيها العادات والأعراف والواقع؛ وعند التعاطي يجب مراعاة أمور، منها:

– أن إباحة الإسلام لها كما تقدم إنما كانت في واقع يعج بمثل هذه المعاملات والتصرفات، فكان استرقاق واستعباد رجال وأطفال الأعداء وسبي نسائهم من باب المعاملة بالمثل، إذ لا يمكن ردع الأعداء إلا بمعاملتهم بالمثل.

– أن المتتبع لكثير من التشريعات التي تتعامل مع واقع وعادات مترسخة نلاحظ أنها تتطور بالتدريج باتجاه مرتبة الكمال، مراعاة لأحوال الأمة وتربيتها ودعوتها؛ كقضية تحريم الخمر، وفرض الصيام، وعدة المتوفى عنها زوجها، وقضية زيارة القبور، ومراحل تشريع القتال، وهذه القضية التي نحن بصدد بحثها.

صحيح أن الإسلام لم يقفل الباب نهائيا بتحريمها، إلا أنه نحا في ذلك منحى تدريجيا تطوريا في اتجاه الحد من الاسترقاق والتقليل منه، لكنه ترك الباب مواربا في حالة ما إذا قامت أسباب إباحته، تيسيرا على المسلمين إذا ما استهدفوا بالاسترقاق والسبي من طرف أعدائهم، والأمر أشبه بالجهر بالسوء والتلفظ بالكلام النابي الذي يضطر إليه من ظلم، وقد أجازه الشرع في قوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}، فهو لا يجوز ابتداء أو في واقع ينكره؛ والاسترقاق والسبي مرتبط بأسباب ومتعلق بواقع، لكن إذا انعدمت تلك الأسباب وغاب ذلك الواقع فإن الإسلام أول من يمنع ذلك، للأصول والقواعد والمقاصد التي ذكرنا ولا زلنا نذكر.

لقد جاء الإسلام وقضية الاسترقاق والسبي فوضى لا زمام لها ولا خطام، فوضع لها ضوابط وقواعد وحدودا وحقوقا لرقيق وسبايا العدو، رغم أن رقيق وسبايا المسلمين لا يتمتعون بنفس الحقوق، وما من ضمانات على تمتعهم بنفس المعاملة. ولم يكتف الإسلام بهذه الخطوة، بل حث على تحرير العبيد وجعل ذلك من الطاعات والقربات والكفارات لكثير من التجاوزات والأخطاء، فسعى لمحاصرة الظاهرة والتقليل منها في واقع يعترف بها ويتعاطى معها، فكيف بواقع أصبح ينكرها؟!إضافة إلى غياب الدليل على تأبيدها واستمراريتها.

إن الأولى بالمسلم أن ينكرها ويستنكرها للأسباب التي سبق ذكرها ولغيرها، نذكر منها:

– أن الإسلام كرم الإنسان ودعا إلى تحريره، ومقولة عمر الشهيرة «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟» قاعدة في هذا الباب.

– أن الحفاظ على هذا الواقع وهذا المكسب (إلغاء الرق/استبعاد النساء والأطفال من تصفية الحسابات أثناء الحروب، وأنا أتحدث عن سياسات ونظام معمول ومعترف به ولا أتحدث عن تصرفات فردية وحالات معزولة) هو مكسب للإنسانية من جهة، وللمسلمين الذين يولون مسألة العرض أهمية بالغة من جهة أخرى، وذلك بتجنيب المسلمات معاملة مماثلة.

وقد نهانا الشرع عن سب آلهة المشركين وهي جمادات لا حياة فيها ولا أحاسيس، خشية أن يسبوا إلهنا؛ فكيف بسبي النساء واسترقاقهن في واقع يستهجن هذا الفعل وينكره ويستغربه ويستبشعه، ويشن على الإسلام بسببه حملات التشويه بإمكانات ووسائل ضخمة لا سبيل لصدها وردها، تتولاها كبريات المنابر الإعلامية العالمية، والجمعيات والمنظمات الدولية، جاعلة من الحادثة قميص عثمان الذي ترفعه في حملتها؟

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يراعي الحرب الإعلامية في دعوته، ويأخذ بعين الاعتبار الصورة التي يتم تسويقها عنه، وذلك في وقائع ونصوص كثيرة، نذكر منها امتناعه عن قتل المنافقين ممن كانوا يحاربونه سرا ويظهرون الإسلام والولاء جهرا، كي لا يتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه. لكن مجموعة منغلقة على نفسها في أدغال أفريقيا لا ترى أبعد من أرنبة أنفها لا يهمها أن يتحدث العالم كله عن وحشية الإسلام وظلاميته، وأن المسلمين يختطفون النساء ويبيعونهن بعشرة دولارات للمرأة، وربما باعوهن لعصابات الله أعلم بأنشطتهن. لا يهمها هذا الفيضان المتدفق من المفاسد الذي فتحت أبوابه، دون أن تكون في تصرفها هذا أية مصلحة، اللهم إلا مصالح شخصية تتم تغطيتها بما تتوهمه أدلة شرعية. لا يهمها أن المقالات والتحليلات والتعليقات بدأت تتحدث عن جماعة تمثل الشر المطلق، ومجموعة من المتطرفين الذين تحركهم المصالح المادية والنزوات الجنسية والعقد النفسية.

إن الجماعة الآن تسير بخطى حثيثة نحو تأكيد وترسيخ المعنى الذي يحيل إليه اسمها في اللغة الفرنسية «الكثير من الحرام» (المعنى الحقيقي بلغة “الهاوسا” يحيل إلى تحريم التعليم النظامي).

إن الإقدام على فعل عظيم وخطير من هذا الحجم يدل على استهتار بالأمة والعلماء والدعاة والمشاريع الإسلامية، خاصة أنه لم يسبقها لمثل هذا الفعل أي فصيل جهادي، بل لم تسبقها أية جماعة من جماعات الغلو والخوارج المعاصرة، وحتى «GIA» (البائدة) التي ضربت المثل في الغلو والتنطع منذ منتصف تسعينات القرن الماضي على عهد زعيمها عنتر الزوابري فإن أقصى ما بلغته هو قتل نساء الجنود ورجال الأمن معاملة بالمثل بعد أن بدأت السلطات تستهدف نساء أعضائها، ولم يحدث أن دعت إلى خطفن أو سعت لسبيهن رغم أنها كانت تَراهن مشركات في معتقدها الفاسد.

لست أدري كيف يقدم أشخاص على أمر خطير كهذا بكل تبعاته وانعكاساته ومآلاته ونتائجه ومفاسده وآثراه على الأمة وعلى الدعوة؛ وقد كان علماء الأمة الكبار يتوقفون في أقل من هذه النوازل بكثير، ويتحرجون من الإدلاء فيها بأقوالهم، فقد قال الإمام مالك: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المرسلين وسيد العالمين يُسأل عن شيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي»، وقال مالك أيضا: «ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول لا أدري».

وعن ابن وهب قال: «لو كتبنا عن مالك “لا أدري” لملأنا الألواح»، وسئل ابن عمر عن مسألة فقال: «لا أدري»، فقيل له: «ما يمنعك أن تجيب؟» فقال: «سئل ابن عمر عما لا يدري، فقال: لا أدري».

وسأل عبد الله بن نافع أيوب السختياني عن شيء فلم يجبه، فقال له: «لا أراك فهمت ما أسألك عنه؟» قال: «بلى» قال: «فلِمَ لم تجبني؟» قال: «لا أعلمها».

نختم بهذه الكلمة الرائعة لابن القيم من كتابه «إعلام الموقعين»، قال: «… فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.

فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل» اهـ.

هذا الفهم هو الذي استعصى على جماعة «بوكو حرام» وجعلها تقوم بعملية سبي خارج السياق وخارج التاريخ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.