تعتبر العراق من أبرز القضايا التي تكشف خلافات واضحة بين “المقدسي” والزرقاوي”، وإن كان المقدسي قد صاغ نقده من خلال لغة “المناصحة”، فإنه من الوضوح
تعتبر العراق من أبرز القضايا التي تكشف خلافات واضحة بين “المقدسي” والزرقاوي”، وإن كان المقدسي قد صاغ نقده من خلال لغة “المناصحة”، فإنه من الوضوح بمكان أن هذه المناصحة تهدف إلى تقديم قائمة بجملة من الأخطاء التي ارتكبها الزرقاوي في العراق، وذلك على الرغم من أن المقدسي امتدح دور الزرقاوي في مقاومة الاحتلال، وتسمية جماعته بـ”التوحيد والجهاد” (أسوة باسم موقع المقدسي الخاص على شبكة الانترنت “منبر التوحيد والجهاد”) وتقريبه لأبي أنس – قبل استشهاد الأخير –
المسألة الأولى والرئيسة التي يناقشها المقدسي تتعلق بـ”الاختيارات الجهادية للزرقاوي”، ويقصد بذلك العمليات الجهادية والقتالية التي تخوضها جماعة الزرقاوي، والمسألة المحورية التي يدندن عليها المقدسي هي ضرورة “التحرز في سفك دماء المسلمين”، وعدم الاستخفاف بقتل المدنيين والعزل والناس الأبرياء تحت ضغط وطأة الصراع مع العدو الأميركي؛ فوضع العبوات المتفجرة والناسفة والعمليات التي تتم في تجمعات عامة كالأسواق والمدن، وتذهب بأرواح المدنيين تعمل على تشويه صورة الإسلام المشرقة، وتلوث أيدي المجاهدين المتوضئة بدماء المعصومين. ومن القضايا المحظورة في هذا المجال التورط في اختيار أدوات ووسائل “غير مشروعة” كعمليات الخطف أو قتل المسلمين بحجة “العمل عند الكفار”.
ومن الواضح أن المقدسي في هذا التحذير يشير إلى عمليات خطف الرهائن والذبح وتصوير ذلك الأمر الذي يظهر المجاهدين وكأنهم سفاكي دماء يستمتعون بقتل الناس بلا رادع ودون توافر شروط الاحتراز من استحلال دماء الناس بسهولة.
وينقد المقدسي التوسع في “العمليات الاستشهادية”، ويحذر من التساهل في الشروط التي وضعها علماء الإسلام في إباحة هذه العمليات، وخطورة الاعتماد عليها كأداة جهادية أساسية في حين أنها أداة “استثنائية” في الأصل يلجأ لها عند الضرورات، وهو بذلك يوجه رسالة غير مباشرة في نقد اعتماد جماعة الزرقاوي على العمليات الاستشهادية كاختيار قتالي رئيسي، وليس استثنائيا.
ويبين المقدسي قضية أساسية مرتبطة بالتربية والتنشئة لدى التيار الجهادي، وهي أن أدبيات هذا التيار تعتمد على تعبئة الأفراد بطريقة حاسمة ضد الواقع الموجود، وتنمي فيه النزعة الاستئصالية، الأمر الذي يعني أن أفراد هذا التيار يكونون مهيئين من الناحية النفسية من خلال أيدلوجيا ثورية عميقة. لذلك يرى المقدسي أنهم إن لم يتحلوا بالضوابط الأخلاقية المطلوبة، وإن لم يربوا على تعظيم حرمة دماء المسلمين فإن “فضيلة القتال في سبيل الله ستتحول عن مقاصدها وتفقد كوابحها ويتحول المجاهد إلى مجرم لا يميز الخبيث من الطيب، الأمر الذي يخرج على كل مبادئ أهل السنة والجماعة ويجعل هذا التيار شبيها بالتيارات المتطرفة”.
ومن الموضوعات التي يتطرق إليها المقدسي، التوسع في دائرة الصراع أكثر من المطلوب، والتورط في صراعات وحروب مع كثير من الجماعات والمجتمعات “بما في ذلك الكفار –غير المحاربين- واستهداف المعابد والكنائس”.
ومن الخطأ بمكان، كما يرى المقدسي، التعامل مع الشيعة وكأنهم “كتلة واحدة” في ظل احتلال أجنبي لا يميز بين سني وشيعي فهو يستهدف كل المسلمين، ومن الواضح كذلك أن هذه الرؤية تتناقض جذريا مع رؤية الزرقاوي الذي يتعامل مع الشيعة ككتلة واحدة في صيغة من العلاقة أقرب إلى وصفها “التكفير العملي”، وإن لم يكن هذا التكفير معلنا واضحا، إلاّ أنه يلمس بوضوح من خطاب أتباع الزرقاوي حول الشيعة رائحة التكفير العام، من هنا فإنّ هذه المسألة تمثل بوضوح موضع خلاف رئيسي بين الزرقاوي والمقدسي.
كما ينتقد المقدسي منهج الدعاية السياسية، والخطاب الإعلامي لدى جماعة الزرقاوي، من خلال تحذيره من إطلاق التهديدات الجوفاء إلى دول العالم، وإعلان حروب مفتوحة من غير قدرة ولا استطاعة ولا مبرر، ولذلك فهو يدعو إلى ضرورة وجود خطاب إعلامي متوازن قادر على إيصال رسالة إعلامية قوية حول الجهاد وأخلاقه تنفي التهم والادعاءات الإعلامية والصورة المشوهة التي يحاول الإعلام الغربي والإعلام التابع له تقديم المجاهدين من خلالها.
المسكوت عنه في حديث المقدسي أنّ رسائل وخطابات وأدوات الزرقاوي الإعلامية، بخاصة ما يبث على شبكة الانترنت، تساعد على نقل هذه الصورة المشوهة عن الجهاد ورسالته، وربما تمثل أكبر دليل للحكومات الغربية لتشويه صورة المقاومة العراقية والإساءة إليها.
وأخيرا فإنّ أبرز الانتقادات على الإطلاق يتمثل برفض المقدسي لتولي الزرقاوي قيادة الجهاد في العراق، وضرورة ترك الأمر لأحد العراقيين لتولي الأمر؛ ومبرر المقدسي في ذلك هو أن العراقيين هم الأولى بجهاد العدو في بلدهم، وذلك أكثر إقناعا أمام الشعب العراقي وأمام العالم، وهو يتوافق مع طبيعة الشعب العراقي، ويعمل على إزالة كل المبررات التي تحاول تشويه صورة المقاومة والجهاد في العراق، فلا بد من أن يتولى الأمر قيادة عراقية راشدة..
لا مندوحة من الإقرار بأن رؤية المقدسي النقدية تمثل قراءة موضوعية لكثير من الأخطاء التي تقع بها جماعة الزرقاوي في العراق، وتكمن أهمية هذه “الشهادة المقدسية” بأنها تصدر عن منظر التيار وموجهه الفكري، وبالتالي هي رسالة واضحة تؤكد أن أحد مؤسسي “الخطاب الفكري” للتيار السلفي الجهادي لا يضفي “المشروعية” على كثير من عمليات جماعة الزرقاوي، الأمر الذي يمثل مساحة واسعة لملامح خلاف كبير داخل التيار السلفي الجهادي الأردني، والذي يمثل الزرقاوي (قائد جماعة التوحيد والجهاد) أحد رموزه، بينما يمثل المقدسي “الأب الروحي له”.
لقد أجّجت تلك الرسالة “المناصرة والمناصحة” الخلاف داخل أفراد التيار في الأردن، وانعكست بصورة جدال حاد داخل أفراده في الخارج، ممن تأثروا بكل من المقدسي والزرقاوي، وبخاصة في المملكة العربية السعودية؛ إذ انقسم الحوار إلى فريقين؛ الأول: يعتبر الزرقاوي هو القائد، ويهاجم “الرؤية المقدسية” السابقة، بل ولا يتوانى عن اتهام المقدسي تارة بالضعف، وتارة أخرى بالعجز عن مواكبة ديناميكيات الجهاد، والعمل الحقيقي المنتج، والاكتفاء بالخطابات والأفكار والآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، أما الثاني: فيرى أن المقدسي يمثل الخط الرئيسي والصحيح للتيار السلفي الجهادي وأن أراءه وانتقاداته للزرقاوي موضوعية وصحيحة، ويطالب هذا الاتجاه بعودة القيادة إلى المقدسي.