السلفية بين الغلو والاعتدال

  • بتاريخ : 23 يوليو، 2014 - 22:27
  • الزيارات : 12
  •     السلفية نسبة يرجع مسماها إلى لزوم سَنن السلف، والسلف في اللغة والسليف والسلفة الجماعة المتقدمون، وقوله عز وجل: (فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين)1ويُقرأ

        السلفية نسبة يرجع مسماها إلى لزوم سَنن السلف، والسلف في اللغة والسليف والسلفة الجماعة المتقدمون، وقوله عز وجل: (فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين)1ويُقرأ سُلُفا وسُلَفا، قال الزجاج:سُلُفا جمع سليف أي جمعا قد مضى، ومن قرأ سُلَفا فهو جمع سُلْفة أي عصبة قد مضت،2 وفي الاصطلاح: الطريقة التي كان عليها الصدر الأول من الصحابة والخلفاء الراشدين وأئمة الهدى والتابعين لهم من أهل القرون الثلاثة الأولى الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير في قوله: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته»3.

        وهو منهج في التدين والاعتقاد أساسه العودة بالأمة إلى الكتاب والسنة على منهج السلف في محاربة الشرك والبدع، وتنقية الإسلام من شوائب الخرافات والتقاليد بمنهج وسطي معتدل. والسلفية نسبة مستحدثة في الملة، لم تعرف بين المتقدمين برسم معين، فلم يثبت عن أحد من الصحابة ولا التابعين وغيرهم من العلماء الأعلام أن قال أحدهم بأنه سلفي، وإنما كانوا يعرفون بأهل السنة والجماعة، منهم  القراء والمحدثون وفقهاء المذاهب الأربعة وحملة الآثار الذين ساروا على منهج السلف الصالح، قال الإمام مالك: «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها».

        وقد ظل منهج أهل السنة والجماعة سدا منيعا ضد الأهواء والفتن، واستقام به أمر الأمة وحفظ صفها من اختلاف المذاهب وأفكار الخوارج، وظل العلماء أمة ظاهرة بين الناس ينفون عن الشريعة التحريف والغلو والتبديل، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”.4

    و من معالم منهج أهل السنة والجماعة:

    1. اتباع السنن ولزوم الآثار:

          فقد كان أعلام أهل السنة والجماعة  يكرهون مخالفة من مضى،  قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من كان مستنا فليستن بمن قد مات  فإن الحي لا تؤمن عليه فتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقَها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا وأحسنها حالا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم»5.

       وكان مالك رضي الله عنه كثيرا ما يتمثل بقول القائل:

    وخير أمور الدين ما كان سنة         وشر الأمور المحدثات البدائع

    2. لزوم منهج الوسطية:

           فقد كانوا أمة وسطا لا غلو لديهم ولا تقصير، كما قال علي رضي الله عنه «خير الناس هذا النمط الأوسط  يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي»6، وقال الحسن البصري: «ضاع هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه». والنمط الأوسط هو منهاج النبوة وفيصل التفرقة بين حد الاعتدال وطرفي الغلو والتسيب.

    3. ذم الغلو والتنطع في الدين:

          فقد كان الدين عندهم معينا صافيا، ولذلك كانوا يكرهون التقعر والتنطع والجدل في أمور العقيدة. لأن من صار على ذلك النهج أكثر التنقل بين المذاهب.

    وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك في حديث الْعِرْبَاض بْنِ سَارِيَةَ ،وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول صلى الله عليه وسلم قال:«تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا  بعدي كتاب الله وسنة رسوله»7. وقد أُثر عن الإمام مالك أنه كان حريصا على رد الناس إلى الأمر العتيق وما كان عليه أسلاف الأمة، شديد التحذير من البدع والمحدثات. ومنها التقعر في الدين.

    4. لزوم وحدة الأمة وذم الخروج على الحكام:

          كان فقهاء المالكية يرون أن لزوم ما عليه السواد الأعظم من المسلمين هو الجماعة، وأن التفرقة والتميز عن الأمة برأي أو منهج خاص تأسيس لضلالة وسبيل للفرقة، كما قال عمر بن عبد العزيز «ما تناجى قوم دون جماعتهم إلا كانوا على تأسيس ضلالة» وكان علي يقول لابن الكواء «الجماعة يرحمك الله ما وافق الحق ولو كنت وحدك».

    ولذلك أفتى مالك محمد ابن القاسم لما سأله عن قتال الثوار الذين خرجوا على العباسيين في زمانه فقال: «إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز، قال فإن لم يكن مثله؟ فقال: دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما»8. فلم ير جواز الخروج مع البغاة لما في ذلك من شق عصا الطاعة وتفريق الجماعة، وإذكاء نار الفتنة وإراقة دماء الأبرياء.

    السلفية المعاصرة 

           ظهرت السلفية المعاصرة في العالم الإسلامي لمحاربة العادات والتقاليد وتحرير الأوطان من الاستعمار الجاثم على بلدانها، وقد أخذت أصولها من منهج السلف الصالح من ذلك  مدرسة المنار وشيخها محمد رشيد رضا، كما مثلتها الاتجاهات الوطنية في العالم الإسلامي، كـ«جمعية أنصار السنة المحمدية » بمصر ومؤسسها الشيخ محمد حامد الفقي، و«جمعية العلماء» بقيادة البشير الإبراهيمي، وابن باديس بالجزائر، والثعالبي في تونس، ومحمد بن العربي العلوي بالمغرب وتلميذه علال الفاسي، الذين قادوا الحركة الوطنية، فلم يثبت أن كفروا أحدا من المسلمين إلا من تعامل مع الاستعمار الفرنسي، ودافع عن فكر الانحطاط والجمود، بل كانت سلفيتهم منفتحة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين منهج السلف الصالح، ومنهج العصر المتمثل في الانفتاح، والمشاركة السياسية التي اعتبرها بعض سلفيي العصر شركا وضلالة. إضافة إلى ما تقدم نجد في المغرب أيضا أبو شعيب الدكالي، والشيخ أحمد ابن خالد الناصري، وعبد الكريم الخطابي، وغيرهم .

          وقد كان للحركة السلفية في عصر النهضة في العالم الإسلامي آثار بالغة في حركات التحرر والانعتاق من قبضة الاستعمار، وإحياء التراث الأصيل، والمساهمة في حركة الصحوة والانبعاث في مختلف البلدان. (ونظرا إلى أن كل دعوة إصلاحية ينبغي أن يرتفع لها شعار معين بين الأوساط، تتجسد في حقيقته ومعناه، بحيث ينجذب الناس عن طريقه إليها، فقد كان الشعار الذي رفعه أقطاب هذه الحركة الإصلاحية هو السلفية، وكان يعني الدعوة إلى نبذ كل هذه الرواسب التي عكرت على الإسلام طهره وصفاءه، من بدع وخرافات وتقوقع في أقبية العزلة وبعد عن الحياة … ولقد كان من الممكن ربط هذه المعاني السليمة السامية التي تعبر عن حقيقة الإسلام في كل عصر، بشعار آخر غير كلمة (السلف) أو (السلفية)، وهل ثمة شعار ألصق بهذه المعاني وأصدق في التعبير عنها من كلمة ( الإسلام ) ذاتها ؟)9.

          وقد اشتهر ما أصبح يعرف بالسلفية الوهابية أكثر من غيرها في العصر الراهن نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي (ت1206هـ/1792م)، فاعتُبر أتباعه مدافعين عن عقيدة أهل السلف، وخاضوا في باب التوحيد وفي الأسماء والصفات، وسفهوا وبدعوا كل من خرج عن أفكارهم، ورموا مخالفهيم بالشرك والكفر، ومن دخل معهم في فكرهم اعتُبر تائبا هداه الله إلى المنهج الصحيح، فأطلقت هذه الشرذمة شعورها ولحاها وتميزت بلباس معين، وألزمت نساءها النقاب رغم مخالفة شيخهم في الحديث ناصر الدين الألباني له، والعلماء الذين برضونهم هم: عبد العزيز بن باز، ومحمد صالح العثيمن، وصالح بن فوزان وغيرهم، فهؤلاء هم العلماء المعروفون عندهم بسلامة المنهج وصحة المعتقد، وغيرهم أنصاف العلماء، متعالمون، متفيقهون، متشدقون، رغم أننا لا ننكر فضل هؤلاء العلماء الذين جمعوا بين العلم والتقوى، ومصادرهم التي لا يرضون غيرها هي مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، وكتب محمد بن عبد الوهاب وغيرها. وأصبحت السلفية اليوم سلفيات:  فهناك السلفية الجهادية أو القتالية، والسلفية العلمية أو الاجتهادية، والسلفية التربوية، والسلفية الحركية، والسلفية التقليدية.

    وقد تعلق بهذا المنهج اليوم جماعة من الناشئين في طلب العلم، فانتسبوا إلى السلفية المعاصرة وتعلقوا بأذيالها على جهل، وادعوا اتباعا لعلمائها الأكابر، وصاروا أحزابا وشيعا تحت مظلة السلفية مع ادعائهم محاربة الحزبية، بانتسابهم إلى أشخاص يوالون عليهم ويعادون عليهم، فشانوا بجهلهم وتنطعهم منهاج السلفية الأصيل، وجلبوا فتنا ومشكلات على الدعوة  والعمل الإسلامي في كثير من البلاد .

        وهم يمثلون اليوم تيارا واسع الانتشار بين عوام أبناء الصحوة، لما تتسم به أفكارهم من البساطة، وما جُبِلوا عليه من التدين الحرفي بنصوص لا يدرون مخارجها، ولا يفقهون أحكامها ومنازلها، وما أبعد القوم عن منهج أهل السنة وعلماءها عن نحلتهم ومنازعهم في الفهم والسلوك.

        ولئن كان أكثرهم من ذوي النيات الحسنة، والغيرة على الدين، ممن تمسكوا بظواهر السنن، ونظروا في مبادئ العلوم ومداخلها، وعنوا بتصحيح العقيدة، ونبذ الأهواء والبدع، فإنه قد فاتهم حسن الفهم للدين، إذ توسلوا في فهم النصوص بمطايا الجهل، وتسوروا منازل العلماء قبل الأوان، فكان ما يفسدون أكثر مما يصلحون. ومن أشهر ما ابتليت به الدعوة من جهتهم:

    1. الغلو والمسارعة إلى التفسيق والتبديع:

         وقد حصل ذلك بسبب الجهل بمراتب الخلاف، وعدم تقدير حجم خطأ المخالف إن كان خطأ. فترى أقواما يسرعون إلى التطاول في أعراض المخالفين من العوام والعلماء على السواء، تفسيقا وتبديعا، وتكفيرا أحيانا، باسم الجرح والتعديل الذي أصبح بضاعة مزجاة يروجها المفلسون في سوق الجهالة.

        وقد فتن هؤلاء خلقا من الشباب في المشرق والمغرب، وزينوا لأتباعهم الارتماء في فتنة التكفير والتفسيق والتبديع لعوام المسلمين، حتى ولغوا في أعراض علماء هذا الزمان ممن علم فضلهم، واشتهر بين الناس علمهم واستقامة دينهم، وكان لهم بلاء وجهاد في الدفاع عن الإسلام .

        وقد بالغوا في انتقاد علماء وصلحاء هذا العصر، وحذروا أتباعهم، ونعتوهم بالحزبيين كسيد قطب ومحمد قطب ويوسف القرضاوي وغيرهم، وكفروا بعض الجماعات، ومن معاصري هذه الطائفة محمد محمود الحداد الذي خرج عن شيخه ربيع المدخلي، وتبادلا السباب والاتهامات في دروس وأشرطة، وقد كفر وبدع جماعة من العلماء، منهم الإمام النووي بدعوى أنه أشعري ومزق كتابه النفيس شرح صحيح مسلم، وفعل نفس الشيء مع فتح الباري للإمام ابن حجر.

        قال ابن دقيق العيد: «أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف عند شفيرها طائفتان من الناس، المحدثون والحكام»10. فالمحدثون والحكام وقفوا بعلمهم على شفير تلك الحفرة، وهؤلاء قد ولغوا بجهلهم فيها، ووقعوا في المهالك. 

       وقد ولع بهذا الشأن اليوم فرقة من مكفرة أهل القبلة عرفت بالغلو في هذا الأمر و قصرت علمها وعملها عليه، فصار شغلها الشاغل التفتيش في كلام الناس وأفكارهم وكتبهم لتصيد عثرات وعبارات محتملة لأوجه في الخير عديدة، لحملها على وجه واحد من الشر لا يرون سواه، ولو سكت الخلق لتعطلت أشغالهم، وبطل ما عليه يجتمعون، وآفة الجهال العوام هو سوء الفهم وانتحال صفة العلماء، فلأن يلقوا الله بكل المعاصي سوى الإشراك به، خير لهم أن يلقوه وقد أكلوا لحوم العباد، وتقولوا على الله بغير علم، قال الإمام الغزالي في الإحياء:  «على العوام أن يشتغلوا بعبادتهم ومعايشهم، ويتركوا العلم للعلماء، فإن العامي لو زنا وسرق كان خيرا له من أن يتكلم في العلم وهو لا يعلم».

    2. مسلك الحرفية في الأحكام:

         وهذا مسلك قديم في فهم النصوص صار اليوم علما على هؤلاء، وهو مسلك  من لا يعنون بالنظر في المقاصد والمعاني، بل همتهم الحروف والمباني، فمنهم من يرى أن علم «أصول الفقه»  بدعة محدثة،11لأن الصحابة لم يكونوا يُحَكِّمون قواعده في فهم القرآن والسنة، فلا مجال عندهم لاعتبار دلائله، بل تراهم يحكمون بحرفيات النصوص، باسم التمسك بالسنة. 

         وهؤلاء الحَرفيون يفسدون في الدين من حيث يظنون أنهم يحسنون، فإن عثروا على نص حكموا بظاهره دون مراعاة سياقه في أدلة الباب، فربما كان مجملا أو عاما مخصصا  أو منسوخا، والباب إذا لم تجمع أحاديثه لا يتبين فقهه، ويحصل هذا من جهة اتباع الهوى لا من جهة طلب الدليل، كما قال الشاطبي: «ومدار الغلط في هذا ..إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مآخذ الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببيِّنها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها».12

    3. نبذ المذاهب والجمود على رأي واحد:

         فقد جبل القوم على النظر بعين واحدة، لإغفالهم دلائل النظر، وما تواردت فيه النصوص الموجبة لاختلاف الأفهام، فتراهم أشد الناس تسرعا إلى القطع في مجال الظنيات، وحرصا على إعدام الخلاف، وحمل المسلمين على رأي واحد لا يرون سواه، والتحجير عليهم فيما وسع الله فيه، مما تواردت فيه الأدلة، واتسعت فيه أنظار العلماء، كمسائل الخلاف المعتبر في هيئات الصلاة، ومسألة الحجاب والنقاب، والإقامة لضرورة في بلاد الكفر، والاعتكاف في غير المساجد الثلاثة، ورفع اليدين في الدعاء، والجماعة الثانية في المسجد وغيرها.

         وتجد خلقا منهم يتحرجون أن يتبعوا إمام مذهب من المذاهب المعتبرة بدليل، ثم تراهم يصطنعون لأنفسهم مذاهب، يعكفون فيها على مطويات وأشرطة وفتاوى معاصرة، ثم يزعمون أنهم مجتهدون في اتباع الدليل، مع أن هؤلاء المعاصرين لا يكادون يفارقون مذهبا معينا في الغالب.

     

        فيتحرج المقلد أن يكون مالكيا أو شافعيا، ولا يتحرج أن يكون ربيعيا (نسبة إلى ربيع بن هادي المدخلي) أو جاميا (نسبة إلى محمد أمان الجامي)، مع أن حماة السلفية كابن عبد البر،وأبي بكر بن العربي المعافري، والباجي، وابن تيمية، والشوكاني، لم يتحرجوا من أن يتمذهبوا بمذهب غلب عليهم، مع تحريهم الدليل إذا لم يخالف المذهب.فتراهم يخوضون في فروع فقهية كتحريك الأصبع وقراءة القرآن جماعة والسدل والقبض وغيرها… مما قال ببعضه جمهور العلماء، بل تعدى الأمر إلى مجال الوسائل والعادات فيحتج بعضهم بأن ذلك لم يكن على عهد السلف.

        وهكذا حال القوم في إثارة المعارك حول هذه القضايا التي لا تخرج عن درجة الندب أحيانا، إلى حد إفساد المودة بين المسلمين، مع أن الاختلاف في تلك المسائل جائز، وحفظ الأخوة واجب،  فتضيع الأصول والكليات لحساب فروع وجزئيات.

    السلفية المقاتلة أو خوارج العصر

        السلفية المقاتلة نابتة من بقايا الخوارج ظهروا في هذا الزمان بسبب قلة العلم وسيادة الجهل بين المتحمسين، وساد في أوساطهم انحرافات فكرية خطيرة تهدد منحى الاعتدال والوسطية، خرجوا على الأمة باسم التوحيد ورفع راية الجهاد، يضربون بعضها ببعض.وقد أولوا آيات الجهاد تأويلات عجيبة وأخذوا بآراء شيخ الإسلام ابن تيمية الذي دعا في عصره إلى وحدة الصف إبان غزو التتار للدولة الإسلامية. والتجأ هؤلاء إلى القتل والتخريب في ديار الغرب والمسلمين متأثرين بزعمائهم أمثال صاحب كتاب «فرسان تحت راية النبي»، وكذلك فتاوى الأنترنيت التي يروجها بقايا الخوارج الجهال أهل البدع والضلال، مما أفسد قلوب وعقول كثيرا من الشباب الأغرار الذين لا معرفة لهم بأصول الدين.

        ولئن كان أهل البدع أهل علم وأصول، فإن هؤلاء ليس لهم من مسمى العلم سوى الرسوم، ولذلك ترى أكثرهم  أهل نزق وطيش، يلهون ويلعبون، وفي محارم الله يتخوضون، ومن أصول هؤلاء الغلاة:

    1.الغلو والتنطع في الفروع وتضييع الأصول:

        فهؤلاء قد شابهوا الخوارج في الجهل والتنطع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرأون القرآن و لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية …»13الحديث. فقد غرقوا في الغلو والعصبية لآراء وأفكار، وأمعنوا في التشدد والتمسك بجزئيات السلوك. 

        و تلمس لديهم تخوضا في محارم الله، وتحللا في العظائم كالنيل من الأعراض، وسفك الدماء، وتكفير المخالفين. وتلك عاقبة الغلو والتنطع تفضي بصاحبها إلى هذه الحال.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق»14.

    2. تكفير المسلمين المخالفين:

          فهم يعتقدون أن المخالفين لهم من عامة المسلمين عصاة.. والقائمين على أجهزة الدولة كفار وأعداء للإسلام، لأنهم رضوا بالحكم بغير ما أنزل الله، ومن رضي بحكم الكافر وسكت عليه فهو كافر حلال الدم. فكافة شعوب البلاد الإسلامية في نظرهم تجري عليهم أحكام الكفر، ويرون بلادهم دار كفر وحرب، وكل ما تتوفر عليه من المصالح والمؤسسات العمومية للدولة يعد غنيمة وفيئا يحل الاستيلاء عليه، واستغلاله للتمكين لدين الله في الأرض وإعلاء راية الجهاد في سبيل الله !! 

         أما ديار الغرب بمن فيها من المسلمين وغيرهم فهي عندهم دار حرب، مستباحة الدم والمال والعرض. فتراهم يستحلون دماء الناس فيها وأموالهم، ولا يرون غضاضة في القتل والسرقة، والسطو على الممتلكات، بحجة أنها أموال ودماء مستباحة في «دار الحرب». ولسنا ندري في أي دار حرب يوجد هؤلاء، وهم عصبة مستضعفة في بلدان يستجدون فيها قوتا وأمنا لأنفسهم.

    3. إثارة الفتن وإرهاب المستأمنين:

         وهذا من سمات الخوارج، تراهم يتجاوزون طريق الحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن، ويرونه مسلكا بعيدا يسلكه الجبناء العاجزون ضعاف العقول، لتصير فريضة الجهاد قتلا وسفكا لدماء الأبرياء المسالمين من المسلمين وغيرهم . وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ »15.

        وقد ركبوا مطايا الغلو والتحريف، فصاروا يحشرون ويتصيدون آيات وأحاديث السيف والقتال يحرفونها عن مواضعها، وينزلونها في غير منازلها. ومنها آيات السيف في سورة التوبة، وحديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله…» الحديث16. فتراهم يخرجون هذه النصوص من مظانها  وسياقها الذي وردت فيه، ويخرجون بها إلى فهوم عجيبة، غاية في السطحية والحرفية، فيرونها دالة على وجوب قتال المشركين، وتتبعهم في كل زمان ومكان، واختطافهم رهائن، والقعود لهم بكل مرصد، ويدخل معهم سائر المسلمين الذين حكموا بكفرهم .

         هذا سبيل المستعجلين، والجهلة المتحمسين الذين لا يجدون ما يقدمون من مشاريع لإصلاح الشعوب والأمم، فيرون أن هذه الأمة إنما تنصر بالرعب والإرهاب، لا بالدعوة والحكمة والتدرج في الإصلاح. وقد صرح بعضهم 17لقناة فضائية حين سئل عن التعامل مع الغربيين فقال: «والله ما لهم عندنا إلا القتل والاختطاف»، ويرى أن ما قام به بعض المتنطعة في اليمن من اختطاف سياح ابريطانيين أجانب وقتل بعضهم عمل جهادي مشروع، ويضيف أنه ذلك واجب المسلمين اليوم في بقاع الأرض» مع أن الله حرم  دماء المستأمنين أغراضهم وأموالهم، وجعل الاعتداء عليها من خفر الذمة وانتهاك حرمات العباد. وقد استدل على ذلك بحديث جابر رضي الله عنه: «أمرنا رسول الله أن نضرب بهذا وأشار إلى السيف من خرج عن هذا وأشار إلى المصحف»18. دون اعتبار لقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)19.

         وهذا منهج عوام الخوارج الذين يضربون النصوص ببعضها لضعف أفهامهم، وعماء بصائرهم، وهم بفعلهم هذا يشوهون صورة الإسلام في بعض المنابر الإعلامية التي تفتح لهم الباب على مصراعيه، وفي المواقع الإلكترونية، مما يظهر أن الإسلام لا يحفظ الجوار وليس له عهد ولا أمان، ولا يقبل الحوار، وإنما هو دين قتل وإرهاب كل مخالف .

    1- سورة الزخرف آية56

    2- ابن منظور لسان العرب مادة سلف

    3- أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومسلم فيفضائل الصحابة رضي الله عنهم، وأحمد في مسند عبد الله بن مسعود

    4- أخرجه الدارقطني في السنن والطبراني في مسند الشاميين1/344

    5- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيمالأصفهاني:  1/305 -306.

    6- مصنف ابن أبي شيبة:7 /100 حديث34498

    7- رواه الحاكم: 1/93، ومالك في الموطأ بلاغا: 1663. 

    8-  الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي:  1/378.

    9- محمد سعيد رمضان البوطني ـ  السلفية مرحلة زمنيةمباركة لا مذهب إسلامي. ص 233 ـ  ط 1/1988.

    10- الاقتراح فيبيان الاصطلاح لابن دقيق العيد: 61. ط دار الكتب العلمية بيروت 1986م.

    11- وقد وجد عندنا بالمغرب من يقرر ويدعو إلى هذا السخف من هؤلاءالحرفيين.

    12- الاعتصام للشاطبي:  178.

    13- أخرجه مالك في الموطأ والبخاري في باب إثم من راءى بقراءته القرآن. ومسلم في ذكر الخوارج وصفاتهم.

    14- أخرجه الإمام أحمد فيمسند أنس بن مالك والبيهقي في شعب الإيمان.

    15- أخرجه مسلمفي كتاب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، وأحمد في مسند أبي هريرة وغيرهما.

    16- أخرجه البخاري في باب وجوب الزكاة، ومسلم في الأمر بقتال الناس حتىيقولوا لا إله إلا الله وغيرهم.

    17- تصريح لأبي حمزة المصريرئيس جماعة أنصار الشريعة في لندن، برنامج أكثر من رأي بثته قناة الجزيرة الفضائيةيوم 19 يناير 1999.

    18- أخرج نحوه الحاكم في المستدرك: 3/493، وقال صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

    19- سورة الممتحنة، الآية: 8.