تحظى قضية الحرية بأهمية متزايدة في الوقت الراهن، نظرا لموقع هذه القضية من فلسفة حقوق الإنسان التي تعد واحدة من أهم المكاسب الإنسانية التي أنجزتها البشرية
تحظى قضية الحرية بأهمية متزايدة في الوقت الراهن، نظرا لموقع هذه القضية من فلسفة حقوق الإنسان التي تعد واحدة من أهم المكاسب الإنسانية التي أنجزتها البشرية في العصر الحديث و لو على المستوى النظري.
إلا أن هذه القضية تحديدا، تم استغلالها من قبل المنظمات العالمية الأممية أصحاب الفكر التنويري الغربي، و تلقفها بنو علمان و بنو ليبرال ليتوسع و يتمدد معها هذا المفهوم من ناحية، و يتم الضغط بهذه القضية لإحداث شبكة من التشريعات التي تهدد كيان المجتمع و الأسرة من ناحية أخرى.
إلا انه و في خضم تعقب ذلك المفهوم الغربي الذي لم يسلط الضوء عليه بالشكل الكافي، والذي عانت منه المجتمعات الإسلامية و ما تزال نجد التشريع الإسلامي اشتمل على كثير من الإجراءات الوقائية و الحلول بتفاصيل دقيقة لها.
و في هذه المقالة سنتعرض لإبعاد هذه القضية بنظرة عقدية من خلال مقاربة ما جاء في المواثيق الدولية مع ما هو حادث الآن من تطبيقات عملية داخل المجتمعات الإسلامية، و لذلك يتحتم علينا ذكر جملة من الاتفاقيات و الإعلانات الدولية و الإقليمية بشكل عام، و تأثيرها على العقيدة الإسلامية، فمن ذلك:
– الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948م عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
– الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية و السياسية المعتمد من قبل الجمعية العامة سنة 1966م.
– المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان المعتمدة في 4 نوفمبر 1950م و المعمول بها في 3 سبتمبر 1958م.
– الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية و السياسية الصادرة سنة 1966م.
– قائمة الحقوق التي صدرت في المملكة المتحدة التي نصت على الحريات الفردية.
– الإعلان الفرنسي.
– الاتفاقية الخاصة بحرية الإعلام المعروضة على الجمعية العمومية بقرارها 360د-7 في 1952م.
– المعاهدة الدولية حول إلغاء كل أشكال التمييز العنصري.
– الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب المعتمد في 26 يونيو 1981م.
– الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان في 1969م.
فالملاحظ في هذه الاتفاقيات أن المفهوم الغربي للحرية قد اكتسح هذه الوثائق دون اعتبار الشعوب و الأمم الأخرى ، فلم يشغل الرأي العام العالمي بالحرية بمثل ما شغلت به في وقتنا الحاضر، و لعل تاريخ البشر لم يعرف حشدا للجهود و إعدادا للوسائل و دعوة لملاحقة ما سطر في تلك الوثائق و المواثيق كما حشد اليوم؛ فلقد بذلت أموال و أهدرت دماء بسبب الحرية بمفهومها الغربي الذي اجتاح العالم بدوله و منظماته؛ فقامت القوى العالمية بفرض السيطرة على باقي الأمم و الشعوب بأديانها و ثقافاتها، و عولمتها على وقف النموذج الغربي في فرض حرية مطلقة لإسقاطها على الثوابت الإسلامية التي أدت إلى الخروج بتأويلات من شانها إحداث الفتنة و البلبلة بين المسلمين ،و إضفاء الشرعية على أطروحات كنسية و علمانية ،و بالتالي فإننا نجد أن مضامين مصطلح الحرية المنصوص عليها في الاتفاقيات المذكورة تصطدم مع العقيدة الإسلامية و كلياتها القطعية، و التي منها:
أ- الحرية في الاتفاقيات الدولية لا تقبل التجزئة ،و المرجعية الدولية للقوانين الوضعية و ليس للشرائع السماوية؛ فهي لا تجعل المرجعية مرنة بحيث تتباين باختلاف المكان و تحترم خصوصيات الشرائع السماوية، فبالتالي تتفرد بمرجعيتها الوضعية، و المرجعية الإسلامية في الحريات إن قبلها المجتمع الغربي فهو يقبلها كتابعة لرؤيته و ذلك للاستحسان فقط.
ب- حرية العقيدة و الحق في تغيير المعتقد كحق من حقوق الإنسان، فقد اثر ذلك على سلامة البنيان العقدي للمجتمع المسلم؛ فهو يهدد سلامة البنيان العقدي للمجتمع الإسلامي عند تطبيقه في مجتمعاتنا ،و الدليل العملي على ذلك أن تلك البنود هي ما ينطلق من خلالها كثير من الشيعة و المنصرين في المغرب في المطالبة بحقهم في إظهار هويتهم و معتقداتهم و نشرها داخل المجتمعات السنية.
ت- دعوة الدول و الأمم لاتخاذ التدابير و سن التشريعات التي تضمن حماية حرية اختيار الأفراد للأديان و المعتقدات و الانتقال بينها تبعا لهواهم، و في ذات الوقت العمل على إلغاء أية تشريعات مهما كان مصدرها طالما تتعارض مع الحرية الغربية، و إذا اصطدمت هذه الحرية مع الشريعة الإسلامية تقدم رؤية الحرية الغربية و تنحى الشريعة الإسلامية.
ث- الضغط لإعادة قراءة الإسلام في تصوره للحرية وفق النظرة الغربية لها؛ و ذلك تشكيكا منهم في أن الاختلافات بين الرؤية الإسلامية للحرية و الرؤية الغربية لها راجع إلى ما يطلقون عليه التشدد في التفسيرات و الرؤى! و ليس إلى اختلاف المنطلقات بين الإسلام و الغرب ،و التهاون في هذا من شانه أن يؤدي إلى اغتراب معاني التوحيد و العقيدة الإسلامية؛ و من ثم القبول بالوضع الاستسلامي الانهزامي الراهن الذي تشهده ديار المسلمين.
ج- الحرية الغربية و أثرها على الحدود الشرعية؛ فنجد مثلا أن هذه الاتفاقيات و الإعلانات الدولية تسعى إلى إلغاء عقوبة القصاص على مستوى العالم دون الالتفات إلى قيمة مثل هذه الأحكام في عقائدنا و شرائعنا و نظمنا التي أثمرت استقرارا من خلال تجربة قاربت ألفا و نصف من الأعوام، أو حتى اخذ خصوصيات الدول الإسلامية في الحسبان.
ح- تبني تلك المواثيق لحرية الرأي المطلقة و القفز فوق كافة الحدود، و عدم الاكتراث بأية اعتبارات دينية؛ إذ نجد تحت يافطة حرية الرأي المطلقة الغربية التطاول على الذات الإلهية المقدسة، و سب الأنبياء و الرسل و الاستهزاء بهم، هذا في الوقت الذي يشنع فيه على المسلمين إن جهروا ببعض الحق مرة باسم معاداة السامية، و مرة باسم الحفاظ على حق الأقليات و إن أهدر حق الأغلبية ؛فلحرية الرأي ضوابطها الشرعية التي تحفظ المجتمع من التطاول على المقدسات و الثوابت.
خ- الحرية الغربية و الدفاع عن تقنين الانحلال الاباحي من شذوذ و غيره؛ إذ تسعى هذه الحرية لإسقاط كل الضوابط التي من شانها منع نموذج الحرية المضبوطة في المجتمعات الإسلامية التي تمنع من مثل هذه الحريات؛ فتهاجم هذه الدول، و يدعون أن في ذلك ازدراء لحقوق الخصوصية و انتهاك للحرية.
و نظرا للصبغة الغربية للحرية و التي تتقاطع مع ما الذي تشهده الكثير من المجتمعات الإسلامية من القمع و تغييب للشريعة؛ فقد رأى الكثير من مَن مورس و يمارس عليه هذا القمع و الاستبداد المخرج و الملجأ و التملص من تلك القيود المشددة عليهم من الحكومات و الأنظمة المستبدة في هذه الحرية ،و هذا الأمر فيه شئ من الصحة إلا انه ينبغي أن لا يأتي على حساب أصل الشريعة أو تابعا لها، فهناك أوجه كثيرة يمكن الاستفادة منها في الحرية يفرضها فقه المرحلة و الاستضعاف ،لكن لابد من مراعاة الالتباس الذي يمكن أن يحصل جراء إطلاق هذا المصطلح دون استحضار السياق المرجعي و الفكري للأمة الإسلامية ،لان ذلك قد يكسب لمفهوم الحرية حصانة فكرية ممانعة تخلخل مفاهيم و ثوابت إسلامية فيلتبس الحق بالباطل.