تعريفتعد الجماعة الإسلامية المقاتلة، ثاني تنظيم جهادي، ينضم إلى تنظيم القاعدة في المغرب العربي، بعد الفصيل الجزائري، الجماعة السلفية للدعوة والقتال،
تعريف
تعد الجماعة الإسلامية المقاتلة، ثاني تنظيم جهادي، ينضم إلى تنظيم القاعدة في المغرب العربي، بعد الفصيل الجزائري، الجماعة السلفية للدعوة والقتال، وهو ما يراه البعض قليل القيمة، قياساً إلى جارتها الجزائرية، حيث يكون إنضمام الجماعة الإسلامية المقاتلة أقل درجة في قوة انضمامه؛ لوجود اختلافات فكري عميق بين فكر المقاتلة الليبية، وفكر المسلحة الجزائرية([1]).
فقد سبق أن أصدرت المقاتلة عدداً من البيانات، في نقد ممارسات سابقة للجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية، كما لم تكن علاقتها بابن لادن والقاعدة ـ أثناء الجهاد الأفغاني ـ على ما يرام، بل كانت أقرب إلى عبد رب الرسول سياف، ذي الميل الإخواني، وعبد الله عزام، عند أصحاب هذه الرؤية.
ولكن الملاحظ من قراءة المنطلقات الفكرية للجماعة الإسلامية المقاتلة ـ كما سنوضح ـ أن أولويتها الأولى هي مواجهة النظام الحاكم في ليبيا، العدو القريب وليس العدو البعيد، وهو ما يختلف جوهرياً مع فكر القاعدة، الذي تحول إلى أولوية مواجهة العدو البعيد على العدو القريب، ويلتقي في السياق نفسه مع موجات التيار الجهادي الليبي، والتيارات الجهادية القطرية بشكل كبير، وهو ما يختلف عن طرح القاعدة حول عولمة الجهاد.
ظروف النشأة
أـ التيار الجهادي الليبي:
إن هناك آراء واتجاهات متعددة، في قراءة تطور الجماعة الإسلامية المقاتلة، بل في تحديد رؤاها، ومنطلقاتها الفكرية، وكذلك مواقفها من كلٍّ من النظام الليبي، وكذلك الجماعات الإسلامية الأخرى، وسنحاول في هذه الدراسة تقييم هذه الأطروحات المختلفة، وكذلك التعريف بمراحل تطور هذه الجماعة، وأهم منطلقاتها الفكرية، ومواقفها المختلفة من الحركات الإسلامية الأخرى.
لكن قبل ذلك، نود أن نذكر أن التيار الجهادي في ليبيا، قد نشط منذ بداية عقد الثمانينيات، وهي الفترة نفسها التي نشطت فيها التيارات الجهادية، في مصر، وسوريا، وسائر بلدان العالم العربي، بل يمكن القول: إن تبلور التيار الجهاد الليبي كان بتأثير كتابات وشخصيات، تنتمي إلى الجهاديين العرب من خارج ليبيا، بشكل رئيسي.
ويذكر أن التيار الجهادي الليبي، يشمل ـ إلى جوار الجماعة الإسلامية المقاتلة ـ حركة الشهداء ومجاميع أخرى، لا تنضوي تحت أي تنظيم، وقد بدأ الصدام العلني بين التيار الجهادي والنظام فى ليبيا، باغتيال أحد أعضاء اللجان الثورية، يدعى أحمد مصباح الورفلي، وذلك في أغسطس(آب) 1986، وكان يعتبر ساعد النظام الأيمن فى مدينة بنغازي، كما كان معروفاً بالبطش والغلظة، حتى أنه سحل جثة ناشط سياسي إسلامي، يدعى مصطفى النويري، بعد شنقه علناً في جامعة قاريونس 1984([2])، وضرب أثناء هذه الواقعة فتاة حتى أغمي عليها، وقام بتصفيته تسعة من أعضاء مجموعة «العشبي»، المعروف بـ «سياف ليبيا»، وهي إحدى مجموعتين، مَثَّلَ أعضاؤها نواة لتأسيس الجماعة الإسلامية المقاتلة، وهم حسب الدكتور فتحي الفاضلي: أحمد محمد علي الفلاح، وعلي عبد العزيز البرعصي، وعصام عبد القادر البدري، والمحجوب السنوسي «المحجوب»، وسعد خليفة محمد الترهوني، وسامي عبد الله الزيداني، وصالح عبد النبي العبار، وعلي أحمد عبد الرازق العشيبي، ومنير محمد عبد الرازق مناع، وقد أعدمت هذه المجموعة، في 17 فبراير(شباط) 1987 في مدينة بنغازي.
وحينها علق النظام على ذلك، بقوله: «إن هذه دروس مفيدة للشعب»، وتعتبر هذه العملية الضربة الأولى المنظمة، وغير العفوية، يتلقاها النظام بصفة عامة، واللجان الثورية بصفة خاصة، مِنْ قِبَل القطاع المدني، وكانت إيذاناً بتحرك رياح الإرهاب، الذي صنعه النظام، ناحية النظام ولجانه الثورية([3]).
أعقب هذه العملية قيام التيار الجهادي، بداية من يناير (كانون الثاني) 1989، بعدد من العمليات، كان أشهرها صدام بين قوات النظام وأعضاء الجماعة في أحد مساجد طرابلس، وكذلك اقتحام قوات مدرعة، تابعة للنظام، مخيماً خاصاً للشباب الإسلامي في مدينة «أجدابيا» (4 – 19 يناير 1989)، كانوا يتدارسون، في ذلك المخيم، مختلف الشؤون الإسلامية، وهي الصدامات التي أمتدت، في ما بعد، إلى مدن أخرى: بنغازي، والرجمة، ومصراتة، وبنينة. وقد انتهت هذه التصادمات بقتل عدد كبير من الجهاديين، الذين استخدمت السلطة المدرعات ضدهم، ثم أتبعتها السلطة باعتقال عدد كبير من أعضاء التيار الجهادي، في أكتوبر(تشرين الأول) 1989، يصل إلى أكثر من خمسة آلاف من شباب الحركات الإسلامية، في أكبر حملة اعتقالات شهدتها ليبيا، منذ ذلك التاريخ.
وبعد أقل من ست سنوات من تلك الحملة، وتحديداً فى يوليو(تموز) 1995، وقع صدام جديد، بين النظام والإسلاميين، ظل مستمراً بقوة حتى يوليو(تموز) 1998. كانت وراءه الجماعة الإسلامية المقاتلة، التي كانت حتى هذا التاريخ جماعة سرية، ولم توقع بيانها الأول باسمها، مبينة فيه بُعْدَ حملات الاعتقال الضخمة، التي تعرضت لها، ومثبتة هذه العمليات، التي رأت أن المعارضة الوطنية قد تستغلها، ويمكن أن تنسبها إليها، مؤكدة: «أن النظام الليبي نظام طاغوتي مرتد، لابد من إعلان الجهاد ضده، ولابد من استئصاله، انطلاقاً من أن الإسلام: كتاب يهدي، وسيف ينصر ويحمي»([4])، ووقِّع البيان باسم: «المركز الإسلامي للإعلام».
وفي هذا البيان المذكور، يتضح المنحي الجهادي، واعتماده على مفهومَيْ: الحاكمية والطاغوت، الإيمان والكفر، شأن سائر التيارات الجهادية الأخرى، حيث يذكر المجاهدين في بيانهم أن «منطلق وأساس المعركة القائمة بيننا، وبين نظام القذافي المرتد العميل، هو الإيمان والكفر، فهذا هو الأصل الذي تنبثق منه تصوراتنا،ومواقفنا، وسياساتنا، وجهادنا، فلا محل ولا مجال إذاً، لما يشيعه النظام من دعاوى البحث عن قواسم مشتركة، أو صفقات سرية، أو مساومات خفية، أو تراجعات فكرية، أو الوقوف جميعاً في وجه عدو مشترك، فلسنا ممن يهين عقيدته، ويدنس مبادئه، ويتنكر لطريق الحق، الذي ضحى من أجله السابقون واللاحقون»([5]).
وفي البيان التالي، أعلنت الجماعة الإسلامية المقاتلة عن نفسها، في أكتوبر(تشرين الأول) 1995، كما أعلنت مسؤوليتها عن جميع العمليات السابقة، وجاء في هذا البيان: «تعلن الجماعة الإسلامية المقاتلة، عن قيامها من أجل أداء واجب الجهاد، في سبيل الله تعالى، وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام».
ويضيف البيان، موضحاً سبب إعلانه عن نفسه، بأنه: «قد آن الأوان للجماعة الإسلامية المقاتلة بليبيا، أن تخرج من طَوْرِ السرية إلى طور العلنية، نظراً للمرحلة الحساسة، التي يمر بها العمل الجهادي في ليبيا». وتحدد الجماعة هدفها في مواجهة نظام ليبيا، وأن«مواجهة طغاة هذا العصر، غدا من أوجب الواجبات بعد الإيمان بالله تعالى، وذلك لتحكم شريعة الله عز وجل، وينعم المسلمون ـ في ليبيا ـ بالحياة في ظل هذا المنهج الرباني، ويتخلصوا من القهر، والظلم، والاستبداد، الذي تجرعوه طيلة أكثر من ربع قرن من الزمان، في ظل هذا العهد المظلم»([6]).
ولكن، لا يعد هذا هو التأسيس الفعلي للمقاتلة، بل سبقته خمس سنوات في معسكرات الجهاد الأفغاني، كان للجماعة الإسلامية المقاتلة خلاله معسكراتها، وكذلك معاركها، التي كان لها فيها الدور الأكبر.
ب- تأسيس المقاتلة في أفغانستان:
تأسستالجماعة الإسلامية المقاتلة، في منطقة حدودية بين باكستان وأفغانستان، عام: 1990، في تاريخ مقارب لإنشاء الجماعة الإسلامية المسلحة. لكن بينما أعلنت الأخيرة عن نفسها منذ البداية، كانت الجماعة الإسلامية المقاتلة مشغولة بعد تأسيسها ببناء خلاياها داخل ليبيا، وإعداد مقاتليها في معسكراتها الأفغانية والباكستانية.بل لم يأت إعلان المقاتلة عن نفسها طوعاً، وذلك في أكتوبر(تشرين الأول) 1995، ولم يكن ذلك سوى اضطرار منها كما وضحنا، حين تيقنت أن النظام الليبي مصر على كشفها، وأنه صار موقفاً استراتيجياً جديداً، بعد ما شعرت به من إمكانية التأييد الشعبي لعملياتها في مواجهة النظام، بعد كشفه لها في عملية، قامت بها مجموعة بنغازي، بعد أن تحرير أحد عناصر من الاعتقال، وهو خالد بكشيش، من مستشفى الجلاء في بنغازي، حيث كان معتقلاً للعلاج، وموضوعاً تحت حراسة أمنية([7]).
وقد أدت عملية الإنقاذ، والطريقة التي نُفِّذت بها، إلى غضب كبار المسؤولين الأمنيين، الذين أصروا على كشف القائمين بالعملية واعتقالهم، وأدت عمليات التمشيط، التي قامت بها قوات الأمن إلى كشف مزرعة، في ضواحي بنغازي، كانت تستخدمها «المقاتلة» مخبأ من مخابئها، تحت إشراف ضابط فارٌّ من الجيش الليبي. وكانت تلك العملية قراراً فردياً، اتخذه أمير المنطقة الشرقية سعيد الفرحان لإنقاذ صديقه، ولم يرجع فيه إلى قيادة الجماعة المقاتلة، ولكن آثارها ألجأت هذه القيادة إلى الإعلان عن وجودها.
بعد عودة الكثير من أعضاء المقاتلة إلى ليبيا، يقدر عددهم بـ 2500 عضو، واستقرارها، وقيامها بعد عدد كبير من العمليات، لم يكن النظام يعرف عن منظميها والقائمين بها أي شيء، كما يؤكد قيادي سابق في المقاتلة، وهو نعمان بن عثمان، الذي يمثل الآن جسر حوار بين النظام، والقوى الأمنية، وبينها، حيث يقول: «النظام لم يكن يعرف بما يحصل، كنا نعمل منذ سنوات في الإعداد والبناء، بناء الخلايا، ولم يكن في نيتنا الإعلان عن نشوء المقـاتـلة في ذلك الوقـت، النظام آنـذاك لم يكن يتساهل مع العائدين من أفغانستان، كان يعتقل العائدين، لكنه لم يكن يعرف بقوة المقاتلة وحجمها، حادثة المزرعة وقعت في يوليو/تموز: 1995، ونحن أعلنا عن الجماعة في أكتوبر(تشرين الأول)، أي بعد أربعة شهور، لم نعلن عن الجماعة إلا بعدما شعرنا أن النظام اكتشف التنظيم، ولن يتوقف حتى ضربه وتفكيكه، فرأينا أن من المصلحة الإعلان عن التنظيم»([8] ).
في أفغانستان، كانت النشأة الفعلية للجماعة الإسلامية المقاتلة، قبل نشأة الجماعة المسلحة الجزائرية بثلاث سنوات، لكن المقاتلة الليبية لم تبادر بإعلان نفسها، شأن شقيقتها الجزائرية، بل كانت مشغولة ببناء خلاياها داخل ليبيا، وكذلك إعداد مقاتليها في معسكراتها الأفغانية والباكستانية، وكذلك تجنيد عناصر لصفوفها من بين الليبيين، الذين ينتقلون الى أفغانستان، وكان يقدر عددهم، العام 1992، من 800 إلى: 1000 مقاتل، جاءوا للمشاركة في الجهاد، حيث كانت المقاتلة تؤمن لهم سبل التدريب العسكري والتأهيل الديني.
وكان أشهر معسكرات المقاتلة في أفغانستان، معسكر «سلمان الفارسي»، الذي كان يقع داخل باكستان وليس أفغانستان، وكان يتبع «الاتحاد الإسلامي»، الذي يتزعمه عبد رب الرسول سياف، والذي كانت المقاتلة تعمل من خلاله وتحت إمرته، ولكن أكثرية معسكرات «المقاتلة» ـ حسب ما يروى نعمان بن عثمان القيادي السابق في المقاتلة ـ كانت داخل أفغانستان، خصوصاً في جلال آباد، وأن الليبيين الذين سافروا إلى أفعانستان، كانوا ينتهون أعضاء فيها في الأغلب. كما شارك مقاتلوها في عدد من الهجمات والمعارك المهمة، ضد الحكم الشيوعي في أفغانستان، بعد جلاء السوفييت. بل كانت تقود بعض المراكز المتقدمة على الجبهات وحدها، رغم أن الأسلحة والذخائر، كانت تأتي إليها عبر الاتحاد الإسلامي، بقيادة سياف الذي كان يتولى مباشرة التنسيق مع «المقاتلة»، ويحل المشاكل التي تنشأ بينها وبين عناصر جماعات الجهاد الأفغاني الأخرى([9]). وهو ما ينم عن وعي استراتيجي ومرحلي جيد، في فكر وتنظيم المقاتلة، عكس شقيقتها الجماعة الإسلامية المسلحة.
كانت عيون المقاتلة، اثناء هذه المعارك، تتجه إلى ليبيا، لمواجهة النظام هناك، وكانت معاركها ضد فلول السوفييت والشيوعيين معمودية النار، التي اختمرت فيها ونضجت قدرات أفرادها العسكرية. فعلى الرغم من انسحاب «الجيش الأحمر» في 1988، فإن الحكم الشيوعي كان ما زال قوياً، ويسيطر على عواصم المديريات والولايات، وكانت فصائل المجاهدين تشن في تلك الفترة الهجوم تلو الآخر، على مواقع القوات الحكومية، ويشارك العرب في جزء منها.
ولم تشذ «المقاتلة» عن ذلك، إذ شارك مقاتلوها في عدد من الهجمات، بل إنها كانت تقود بعض المراكز المتقدمة على الجبهات وحدها، رغم أن الأسلحة والذخائر كانت تأتي إليها عبر الاتحاد الإسلامي، بقيادة سياف الذي كان يتولى مباشرة التنسيق مع «المقاتلة»، ويحل المشاكل التي تنشأ بينها وبين عناصر جماعات الجهاد الأفغاني الأخرى.
ومن الجبهات التي خاضتها المقاتلة، وكان لها فيها كبير الدور، معارك خاضتها في: قندهار، جلال آباد، لوغر، كاما، خوست، لكن جبهة غارديز كانت أهمها؛ لأن «المقاتلة» كانت تدير 5 أو 6 مواقع، بينها موقعان على الجبهات الأمامية، وكان عناصرهما من «المقاتلة» فقط.
استمرت معارك غارديز، المشار إليها، سنة ونصف السنة، وقد جاءت مباشرة بعد سقوط خوست، أي في النصف الثاني من 1991، واستمرت حتى سقوط المدينة 1992([10]). وقد فقدت «المقاتلة»، أثناء المعارك الأفغانية، عدداً من أبرز عناصرها، منهم أبو صخر الليبي (أبوعجيلة الرايس)، الذي أُصيب على جبهة غارديز، وتم تركيب قضيب بلاتين في ذراعه، والذي لعب دوراً بارزاً لاحقاً، في الأزمة التي نشأت بين «المقاتلة»، و«الجماعة المسلحة» في الجزائر.
ج-التحرك إتجاه ليبيا
بعد أن نجحت المقاتلة في تثبيت هياكلها وتنظيمها في أفغانستان، وبعد ما اكتسبته من خبرات قتالية في عدد من المعارك؛ أخذت تتحرك في الآنِ نفسه صوب ليبيا، عاملة على بناء الخلايا فيها تمهيداً لبدء العمل المسلح، عندما يكتمل التجهيز المطلوب، ويكون في مقدورها، كما تعتقد، الدخول في مواجهة مع الحكم الليبي.
لكن، لم تكن مرحلة البنيان الأولى للتنظيم، بلا مشقات، إذ لم يكد الأمير الأول لـ «الجماعة»، في شكلها الحديث (أي الجماعة التي تأسست 1990)، يُرتّب أوضاعه، ويحزم حقائبه عائداً إلى مكان ما، يكون فيه قريباً من خلايا تنظيمه، التي يتم بناؤها في ليبيا، حتى وقع في قبضة أجهزة الأمن الليبية، إذ قُبض على الأمير الأول للجماعة عبدالغفار في مصر، التي سلّمته إلى ليبيا 1992، ومايزال في السجن إلى اليوم في ليبيا، وهو من مواليد صبراتة (60 كلم غرب طرابلس)، وكان طالباً في السنة الرابعة، في كلية الطب في ليبيا.
وبعد تسليم عبدالغفار إلى ليبيا، تولى إمارة الجماعة أمير آخر، لا تريد «المقاتلة» كشفه في هذه الظروف (ربما لأنها تعتقد بأن الأمن الليبي مايزال لا يعرف هويته، أو لأنه يعيش في دولة ستضايقه أمنياً، في حال كشف حقيقة المنصب الذي تولاه في إمارة الجماعة). واستمر هذا الرجل في الإمارة، حتى 1995، عندما تولى الإمارة أبو عبدالله الصادق، الذي خرجت «المقاتلة» في أيامه إلى العمل العلني.
صدر البيان الأول لـ «المقاتلة» في 17 أكتوبر(تشرين الأول) 1995، وشكل خروجها إلى العلن مفاجأة لكثيرين، بمَنْ فيهم بعض جماعات المعارضة، التي لم تكن تعرف بالحجم الحقيقي لهذه الجماعة الإسلامية، وواقع الأمر أن «المقاتلة» كانت تستغل انشغال قوات الأمن بملاحقة عناصر تنظيمات المعارضة، وعلى رأسها «الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا» (خصوصاً بعد انتفاضة بني وليد 1993، والتي كاد مناصرو جبهة الإنقاذ، في القوات المسلحة، ينجحون في قلب نظام الحكم)، لبناء خلاياها على مدى خمس سنوات (1990 ـ 1995). ولكن إذا كان بعض المعارضة فوجئ بوجـود هذه الجماعة الإسلامية، فإن الحكم الليبي كان يعـرف بها، ويسابق الزمن في حملة واسعة لتـفكيك خلاياها، بعدما اكتشف ما تُحضّر له بالصدفة.
د- من أفغانستان إلى ليبيا
يؤكد قادة المقاتلة ومنظروها دائماً: أنهم لم يوجدوا مِنْ عَدَمٍ بل هم جزء من تيار جهادي ليببي سابق عليهم. فيذكر الشيخ سامي الساعدي (أبو المنذر الساعدي)، المسؤول الشرعي في «الجماعة المقاتلة»: أن «جذور» نشأتها، ترجع إلى 1980. والساعدي هذا مازال معتقلاً في ليبيا، بعدما أوقفته أجهزة الاستخبارات الأمريكية في هونغ كونغ السنة 2004، وسلّمته إلى بلاده. ويركز، في حواره، على مجموعة عوض الزواوي، الذي ما يزال مسجوناً إلى هذه اللحظة، وكان الزواوي من طلبة العلم الشرعي، وخريج كلية التربية في جامعة طرابلس، ونجل رسام ليبي معروف. استمرت جماعة الزواوي في عملها واستقطاب الأفراد، حتى أحداث 1989، حيث ذهب بعض قياداتها للوقوف على ما يحدث في شرق ليبيا، خصوصاً في مدينتي:اجدابيا وبنغازي، وإلى أن حدثت المداهمات الشاملة، التي يعرفها الجميع، ووصلت الاعتقالات إلى طرابلس، وإلى قيادة هذه الجماعة، وانتهت قصتها، وهاجر كثير من أعضائها إلى أفغانستان؛ ليؤسسوا فيما بعد الجماعة الإسلامية المقاتلة([11]).
كما يرى عبدالله أحمد، وهو قيادي ليبي، من المقاتلين السابقين في أفغانستان، أن «الحركة الجهادية» بدأت في ليبيا مطلع الثمانينيات، عندما شهد التيار الإسلامي «صحوة» لافتة تمثلت في الالتزام الديني لكثير من الشباب، وكان على رأسهم محمد المهشهش، الذي بدأ التزامه الإسلامي 1982، عندما كان طالباً في الثانوية العامة، وشارك مع آخرين في تأسيس «تنظيم جهادي»، تولى إمارته الشيخ علي العشبي، وعضوية علي البرعي، ويوضح أن هذا التنظيم باشر عملياته بقتل أحد المسؤولين الليبيين: أحمد مصباح الورفلي السنة 1986، لكن سارعت قوات الأمن إلى كشف أفراده التسعة، وأعدموا جميعاً.
ويضيف عبد الله أحمد، أنه بعد نحو ثلاث سنوات من تفكيك هذا التنظيم؛ نشأ تنظيم آخر يُعرف بـ «حركة الجهاد»، التي شنت عمليات في يناير(كانون الثاني) 1989، (التنظيم الذي أشار إليه أبو المنذر)، في كل من بنغازي وأجدابيا، وقُتل فيها بعض قادة الجماعة، ومنهم: الشيخ صالح محفوظ من أجدابيا، الذي قُتل في مرتفعات الرجمة شرق بنغازي.
كذلك وقعت اشتباكات عدة، داخل مدينة بنعازي نفسها، التي انتهت بمقتل شيوخ الحركة، وهم: الشيخ محمد الفقي، الإمام والخطيب في مسجد منطقة السيالة القريب من المدينة الرياضية في بنغازي، وصالح محفوظ أحد المشايخ المشهورين في أجدابيا، وغيرهما. من هاتين المجموعتين، نشأت المقاتلة، التي حددت سياستها العامة، في بيانها الأول، في عدد من النقاط، هي:
1ـ إنها جماعة مسلمة: تعد العدة لجهاد أعداء الله تعالى، وعلى رأسهم الطواغيت، الحاكمون بغير ما أنزل الله.
2ـ الاعتقاد والفهم والمنهج: عقيدة أهل السُنَّة والجماعة، وما كان عليه السلف الصالح، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم بإحسان، من اتباع ما دلَّ عليه الدليل، اعتقاداً أو عملاً، مع التركيز على فهم الواقع لتطبيق حكم الله عليه.
3ـالغاية والهدف: مرضاة الله عز وجل، والعمل على إقامة دينه، والتمكين له في الأرض.
4ـالوسيلة: إتباع أمر الله تعالى بالجهاد في سبيله، والدعوة إليه، من خلال جماعة ذات أمير، وعهد على: السمع، والطاعة، والجهاد.
5ـأسلوب العمل: إعداد الأفراد إعداداً شاملاً،الاستفادة من مبدأ السرية في العمل، وفق ما تمليه المصلحة الشرعية،نشر الوعي، وبث روح الجهاد، وتحريض المؤمنين على القتال،الوقوف موقف النصرة والموالاة، من كافة الطوائف المجاهدة، في أي بقعة من البقاع، ولكنها تؤكد في البيان نفسه نزاهتها، وأنها ترفض أن تكون يداً لأي جهة خارجية، تتلقى منها التمويل، فتذكر في هذا البيان، أنها ترفض«الركون إلى أي جهة طاغوتية، والاعتماد ـ بعد الله تعالى ـ على الموارد الذاتية، في تمويل المسيرة الجهادية»([12]).
وقد تولى إمارة الجماعة الإسلامية المقاتلة، في البداية، شخص يدعى عبد الغفار، ولكنه ما لبث يعد العدة للعودة إلى ليبيا، أو يكون قريباً فيه من خلايا تنظيمه، الذي بدأ نشاطه داخلها، حتى وقع في قبضة أجهزة الأمن الليبية. إذ قُبض على الأمير الأول للجماعة «عبدالغفار» في مصر، التي سلّمته إلى ليبيا 1992، وهو ما زال في السجن إلى اليوم في ليبيا،مثلما تقدم ذكره.
وبعد تسليم عبدالغفار إلى ليبيا، تولى إمارة الجماعة أمير آخر لم تكشف «المقاتلة» عن اسمه، ربما لأنها تعتقد بأن الأمن الليبي ما يزال يجهل هويته، أو لأنه يعيش في دولة ستضايقه أمنيا، في حال كشف حقيقة المنصب، الذي تولاه في إمارة الجماعة، واستمر هذا الرجل في الإمارة حتى 1995، عندما تولى الإمارة أبو عبدالله الصادق، الذي خرجت «المقاتلة» في أيامه إلى العمل العلني.
ولد عبد الله الصادق في العاصمة طرابلس، وهو خريج كلية الهندسة، وكان من أبرز رجالاته، نائبه في التنظيم (أبوحازم)، السنة 1993، وقد أتخذ أبو عبد الله الصادق من بنغازي شرق ليبيا، مقر الحركة السنوسية، مستفيداً من كره سكان المنطقة القلبيين لنظام القذافي، وهي المنطقة التي تناسب روح التنظيم، وتمثل بيئة صالحة لمزيد من التجنيد في صفوفه.
وقد تميز التنظيم بقدرة عالية على المناورة، حيث نجح عدد من أفراده في الالتحاق باللجان الثورية الليبية، التابعة للنظام، للحصول على الأسلحة من جانب، والتمويه من جانب آخر، وهو ما استمرت الحال عليه حتى 1995، فقد حدث حادث خالد بكشيش المذكور سابقاً، في المنطقة الشرقية، وحين تمكنت السلطات من تحديد موقع كانوا يستخدمونه من الإقليم؛ لتجنيد مقاتلين جدد، بقيادة الضابط المنشق صالح الشهيبي، الذي فضَّل الانتحار على أن يقبض عليه.
أعلنت حالة الأحكام العرفية، وقام الطيران بضرب مواقع المتحصنين في الجبال، وفي أكتوبر(تشرين الأول) 1997، وفي معركة شرسة، قتل أفضل قادة الجماعة الإسلامية الليبية، وهو صلاح فتحي سليمان، الملقب بـأبي عبد الرحمن الحطاب، وهو صاحب دور كبير في نشاط المقاتلة في أفغانستان، أو في ليبيا فيما بعد. وبالمقابل وقد قامت المقاتلة بعدد كبير من العمليات، في مختلف أنحاء ليبيا، وقد ركزت الجماعة الإسلامية المقاتلة على العناصرالتي اشتهرت بولائها للنظام، واشتهروا بنشاطهم المضاعف ضد الشباب الإسلامي،أثناء عمليات القبض أو التعذيب أو التحقيق.
كما كثَّفت من هجماتها على مقارِّالأمن، ومكاتب اللجان الثورية، كمقر الأمن الداخلي بمنطقة الماجوري، ومركز شرطة الصابري، ومدرسة الشرطة بدرنة (ثانوية الشرطة)، ومكتب محاربة الإسلاميين بقصر بن غشير، وغير ذلك من مثل هذه المواقع، بل هاجمت الجماعة المقاتلة، مواقع أخرى كمبنى الإذاعة في البيضاء، والسجن المركزي في طرابلس (سجن أبو سليم)، والقنصلية المصرية بمدينة بنغازي، ومواقع أخرى شهدت صدامات دموية عنيفة، بين شباب التيار الجهادي وأعوان النظام في ليبيا.
وهاجمت الجماعة المقاتلة، فوق ذلك، حواجز وبوابات تفتيش كثيرة، منها: بوابة الفتايح، والقوارشة، وسرت، وشحات، وبوابة الأبيار العسكرية، واستولى شباب التيار الجهادي على أسلحة، تحصلوا عليها من تلك المعسكرات، والحواجز والبوابات، حيث كان يعلن من حين إلى آخر، عن اختفاء شحنات من الأسلحة،أثناء فترة التصادم مع التيار الجهادي.
وقُتل نتيجة لهذه التصادمات، ضباط أمن، وشرطة، ومخابرات، بينهم عقداء، ورواد، وأفراد من جهاز الأمن الداخلي، والمخابرات العسكرية، وأعضاء مكاتب اللجان الثورية([1])، وأمراء الحرس الثوري، ورؤساء مكاتب مكافحة الإسلاميين، ووحدات التحقيق الخاصة مع الإسلاميين، والاستخبارات العسكرية، ومسؤولي الأمن في المناطق الشرقية برمتها، وغيرهم من ضباط وجنود أمن ومخابرات.وتوجت الجماعة المقاتلة (أو التيار الجهادي بصفة عامة) تصادمها الدموي مع النظام، بمحاولات جادة لاغتيال الرئيس معمر القذافي،فقد خططت الجماعة الإسلامية لاغتياله في مدينة سرت([13]).
ومرة أخرى في مدينة براك (بمنطقة الشاطئ)، وذلك يوم السبت: 23 نوفمبر(تشرين الثاني) 1996 ([14]). ومحاولة أخرى في منطقة الجبل الأخضر، (2 يونيو 1998)، أسفرت عن مقتل بعض ضباط الأمن المصاحبين للقذافي،وإصابته حتى يعرج بعدها لمدة طويلة([15]). ثم نشرت مقالات متفرقة، تنفي أن الجماعة كانت وراء المحاولة، لكن الجماعة الإسلامية المقاتلة أصدرت تصريحاً صحافياً، باسم الناطق الرسمي للجماعة، أكدت فيه مسؤوليتها([16]).وقد أعلن العقيد القذافي: أن الأفغان العرب، الذين دربتهم أمريكا على القتل، وزرع القنابل، تم القضاء عليهم، ومن بقي منهم حياً، هرب إلى بريطانيا، أو عاد الى أفغانستان([17]).
ونتيجة تلك الضربات الموجعة، التي تلقتها الجماعة المقاتلة، دفعت بها إلى البحث عن ملجأ، أو دعم مِنْ قِبَل رفقائها في الجهاد الأفغاني سابقا، من الجزائريين، الذين عادوا إلى الجزائر، ثم ما لبثوا أن انضموا إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ولهذه المهمة أوفدت المقاتلة خمسة عشر رجلاً، لاستطلاع إمكانية إتخاذ الجزائر كنقطة إنطلاق نحو ليبيا، ولكنهم ذهبوا جميعاً ضحية الاقتتال المستعر بين الجيش الجزائري والجماعات، التي خرجت بعد الأزمة، وخصوصاً الخلافات الداخلية بين أعضاء الجماعة الجزائرية المسلحة، التي أخذت تنشق على بعضها بعضاً، ولم تعد تفرق بين مدني وعسكري، أو بين طفل وامرأة، خاصة في عهد عنتر الزوابري، وجمال زيتوني، فما لبث أن اختفى أثر هؤلاء الخمسة عشر، ولكن استمر أمل الجماعة الليبية، فأوفدت ثلاثة رجال آخرين ليعرفوا مصير الذين سبقوهم، لكنهم لم يعودوا هم أيضاً، ما دفعها إلى صرف النظر عن موضوع الجزائر.
كما تفرق أنصارها في جميع البلدان، وإن تركز أغلبيتهم في بريطانيا، التي تعاطفت معهم، واستغلتهم كورقة ضغط على النظام الليبي، حين كان معادياً، حتى وصل الأمر بالعقيد القذافي أن أتهم المخابرات الليبية بالوقوف وراء محاولة اغتياله الفاشلة، عندما تمكن أحد مقاتلي الجماعة المقاتلة، من رمي قنبلة يدوية، تحت رجلي العقيد، ولكنها لم تنفجر.
يذكر أنه لم يُعْرَفْ عن الجماعة الليبية، أي تورط بتفجيرات ضد المدنيين، أو استهداف للأجانب داخل الأراضي الليبية،أو خارجها، بل كانت من الحركات الجهادية الثورية القليلة، التي دانت في بيانات موقعة، في يونيو(حزيران) 1996، ومايو(أيار) 1997، أفعال الجماعات الجزائرية، التي أوغلت في القتل، وحرق المساجد، ووصفتها بالخروج عن الشريعة والجهاد([18]).
وبعد التصالح الليبي الأمريكي، وتحسن العلاقات، وتحديداً في بداية العام 2007، أذاعت وكالات الأنباء: أن النظام الليبي قد عقد جلسات لمساومة أعضاء الجماعة الإسلامية المقاتلة؛ بعد الإفراج عن 60 عضواًًًًًًًًًًً من أعضائها، وأنه سيتم الإفراج عن بقية الأعضاء بدفعات، حيث جرت أكثر من جلسة حوار في السجون الليبية، بين ممثلين لأجهزة أمنية، وآخرين من «مؤسسة القذافي للتنمية»، التي يرأسها سيف الإسلام القذافي، وبين قادة الجماعة المقاتلة وعناصرها، لكن لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق حتى الآن. وقال نعمان بن عثمان، القيادي السابق في المقاتلة، والمشارك في الإتصالات بين الطرفين: «إن الأمور تتقدم، لكننا ما زلنا في بداية الطريق»([19]).
غير أن المقاتلة أنكرت هذه الأخبار، معلنة أنها لا تقبل المساومة مع النظام الليبي المرتد ـ حسب وجهة نظرها ـ وأصدرت بياناً أكدت فيه رفضها المساومة والتنازل، وأنه «منذ اليوم الأول لوضع لبنة، صرحت الجماعة الإسلامية المقاتلة: وطَّدنا أنفسنا على إحدى الحسنَيَيْنِ: إما النصر والتمكين، أو الشهادة في سبيل الله والفناء، ونحن ثابتون على الحق والدين، ولا يضرنا أي الخصلتين حصّلنا. فبإذن الله وتثبيته لن نبدل، ولن نغير، ما دام فينا عرق ينبض، وعين تطرف، ولن يرى منا نظام الردة والعمالة، بإذن الله، إلا الصبر والمصابرة، والقوة والدفع، والجهاد والجلاد، والثبات والاستمرار، والعداوة والبغضاء، حتى يحكم الله بيننا وبينه بالحق، وهو خير الحاكمين».
وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ((الأنعام:153)» ([20]).)وأضاف البيان، على لسان المقاتلة، ما يؤكد إصرارها على مجابهة ومواجهة النظام الليبي، إلى آخر مدى للقدرة عليه. إذأن أعضاءها ليسوا«ممن تقلبهم الأهواء، وترفعهم وتخفضهم المصالح، كنظام الردة في ليبيا، فتارة يدعو إلى قومية عربية، ثم يكفر بها، ويرتدي العباءة الإفريقية، ثم يخر ذليلاً، طالباً رضا الدول الغربية الصليبية، بل طريقنا طريق سويوأثناء الضغوط الأمنية الليبية، على أعضاء المقاتلة بالسجون، من أجل الحوار والمصالحة، أكد أعضاؤها بالداخل: أنهم يطلبون إشراك قادتهم بالخارج في هذا الحوار، وتحديداً أربعة أشخاص، هم:الشيخ أبو الليث القاسمي، الأخ عروة، الشيخ عبدالله سعيد، والشيخ أبو يحيى الليبي. وتدير هذا الحوار، وتشرف عليه، مؤسسة يديرها سيف الإسلام القذافي، نجل الرئيس الليبي، فقد ذكر نعمان بن عثمان، القيادي السابق في المقاتلة، في لقاء له مع جريدة: «الحياة اللندنية»، أن قادة جماعته طلبوا منه إيصال رغبتهم هذه إلى الأربعة، وعلى رأسهم: «أبو الليث القاسمي»، و«أبو يحيى الليبي»، الذي يرى البعض أنهما مثَّلا جسر المقاتلة إلى القاعدة، وأنهما قد انضما إليها،كونهما ينشطان في مناطق نشاط تنظيم أسامة بن لادن، في جنوب شرقي أفغانستان([21]).
ولكن البيان، الذي سبقت الإشارة إليه، والذي تبعه حديث إنضمام المقاتلة للقاعدة في المغرب العربي، يؤكد حضور وعي سياسي وبراجماتي، في فكر الجماعة الليبية، كما يتضح كذلك من معايرتها النظام الليبي، بتحول إتجاهاته ودعواته، من القومية العربية إلى الهوية الإفريقية، إلى التصالح مع الغرب، ينمُّ عن وعي سياسي، وقدرة على الجدل والسجال الفكري، مع النظام الليبي، بجوار القدرة والاستعداد العسكري.
وسائل السلطة في المواجهة:
واجه النظام الليبي الجماعة الإسلامية المقاتلة بكل قوة؛ فقام بعدد من عمليات التصفية الجماعية ضد أعضائها، مثل العملية التي تعرف بمذبحة سجن «أبو سليم» (يوليو1996)، والتي تشابه ماحدث في سجن «تدمر» في سوريا، بالإضافة إلى التمثيل البشع بجثث القتلى، ومداهمة المساجد، واعتقال المصلين، وتقسيم المدن والمناطق إلى مربعات أمنية، وانتشار رجال الأمن في كل ركن من أركان المدن والقرى، والتضييق على المواطنين، وحشد كتائب القوات المسلحة، والأمن، وكتائب الخدمة المدنية، واللجان الثورية، والاستخبارات العسكرية.
وكانت القوات المسلحة الليبية، تمارس أعمال العنف السابقة، تحت مختلف الأسماء والمسميات، من: كتائب، وفرق، ولجان، وأقسام أخرى. كما نظمت القوات المسلحة الليبيةمناورات عسكرية، وأجرت تدريبات على حروب المدن والعصابات، في الجبال، والكهوف، والوديان، استعداداً لمواجهة المجاهدين، كما شاركت طائرات، ودبابات، وأسلحة متنوعة عديدة، في الحرب ضد التيار الجهادي
كما أدار النظام حرباً إعلامية، ضد التنظيم وصورته، أتهم فيها أعضاء المقاتلة بأنهم شبكات للمخدرات، أدت إلى إفساد المجتمع الليبي، ووصف النظام منتسبي التيار الجهادي، بنعوت وأوصاف عديدة، مثل: عملاء، والخوارج، والزنادقة، وأعداء الوطن، وأصحاب البدع،والذين يكشرون أسنانهم، ويحملون أكياساً من الرمل، يهرولون بها هنا وهناك، ويقاتلون من أجل أن يكون الكعب في صف الصلاة ملاصقاً للكعب، ويستمتعون بقتل المسلمين الأبرياء.
كما عزل النظام، إعلامياً، مدن وقرى ليبيا عن بقية البلاد، ووجه إلى سكانها برامج خاصة، في الوقت نفسه تتلقى فيه بقية المدن بثاً مختلفاً، عما يُبث إلى المدن المنكوبة، وهو ما حدث، على سبيل المثال، لمدينَتَيْ: درنة، وبنغازي، حيث تعرضتا لحصار إعلامي، وبث تهديدي إرهابي خاص،إثر تكثيف الجماعة المقاتلة، من عملياتها الجهادية، في هاتين المدينتين، اللتين مثلتا معقل المقاتلة الرئيسي، صاحب كل ذلك تركيز إيجابي في الصحف، والمجلات، والإذاعات على الإسلام اللاسياسي، تمثَّل في بث برامج دينية متنوعة، مع فتح الأبواب على مصراعيها،أمام الفكر الصوفي، وتشجيعه، ومساندته.
كما شبه النظام، ما يحدث في ليبيا، بما حدث في الجزائر، من مجازر ومذابح ضد الأبرياء، أطفالاً، ونساءً، ورجالاً، وشيوخاً، وذلك كي ينفر جموع المتعاطفين مع التيار الجهادي في ليبيا، ويخوفهم من أن ما يحدث في الجزائر، قد يتكرر في ليبيا، ما دفع الجماعة المقاتلة إلى الرد رسمياً، وبأكثر من بيان، تؤكد اختلاف التجربتين، وتؤكد أن الجماعة تستنكر ما حدث ويحدث في الجزائر، لكنها حصرت هذا الاستنكار في الممارسات الخاطئة، لا في مبدأ الجهاد نفسه.
وكانت الجماعة المقاتلة تؤيد الجماعة المسلحة في الجزائر، ثم سحبت تأييدها عندما تبدلت قياداتها، وقد استنكرت الجماعة الإسلامية المقاتلة، ما يحدث في الجزائر نتيجة «لتجاوزات شرعية ومنهجية، تراكمت حتى أصبحت تشكل ـفي مجملها ـ منعطفاً خطيراً، في طريق الجهاد بديار الجزائر، ضد النظام المرتد هناك»([22]). بل أصدرت الجماعة الإسلامية المقاتلة، بيانات عديدة ترفض فيها القتل، والذبح، ونعت الناس بالكفر([23]).
المنطلقات الفكرية عند المقاتلة:
يمكن إجمال المنطلقات الفكرية، عند الجماعة الإسلامية المقاتلة، فيالآتي:
أـ توحيد الحاكمية: ينتمي منتسبو الجماعة الإسلامية المقاتلة، كما جاء في بيان الإعلان عنها، إلى «أهل السنة والجماعة، وما كان عليه السلف الصالح، من الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين بإحسان، من اتِّباع ما دل عليه الدليل، اعتقاداًأو عملاً، كما تعتبر مرضاة الله عز وجل، والعمل على إقامة دينه، والتمكين له فى هذه الرض؛ عبر فَهْمِ الواقع، وتطبيق أحكام الله عليه، هي الغاية النهائية للجماعة»([24]).
وشأن سائر جماعات السلفية الجهادية، يتمركز مفهوم التوحيد الحاكمي مبدأً رئيسياً في فكر الجماعة؛ فهدفها كما ذكرت هو «تحقيق التوحيد، عبر قتال الطواغيت سنة لا تتبدل». ووفق هذا المفهوم للتوحيد، يحضر مفهوم الطاغوت، الذي يقصد به نظم الحكم المعاصرة في العالم الإسلامي، وفي ليبيا، تحديداًً فيما يخص الجماعة، ما جعلها تضع محاربة الطواغيت، فى المرتبة الثانية بعد الإيمان بالله سبحانه وتعالى، على اعتبار أنها ستؤدي إلى التخلص من الظلم، والاستبداد القائم على المسلمين في ليبيا، وغير ليبيا، وستؤدي كذلك إلى التمكين لشرع الله؛ ما يضمن حياة كريمة لليبيا والليبيين([25]).
ب ـ الخروج:
وبناء على المبدأ الأول التوحيد يتحقق الخروج، من هنا توجب «الجماعة الإسلامية المقاتلة»، الخروج على النظام،لأنها ترى أنه نظام طاغوتي مرتد، و«الخروج» مصطلح شرعي، يعني مقاومة النظام أو إسقاطه بقوة السلاح، وترتب على قرار «الخروج»، وجوب إعداد الجماعة عسكرياً، انطلاقا من قاعدة: «ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب».
ج ـ جهاد العدو القريب:
كما لم تنحصر نشاطات الجماعة المقاتلة على الجهاد المسلح فقط، بل دعت الليبيين إلى «الاستقامة على منهج الله سبحانه وتعالى، والالتزام بأحكامه، ومفاصلة النظام المرتد، الذي تعتبره نظاماً مرق من دين الله، واستعبد الناس، وأكل حقوقهم، وأراد أن يدمر كلَّ ما لديهم من قيم ومبادئ»([26])، وترى الجماعة المقاتلة «أن إسقاط النظام، يعني سقوط أحد الطواغيت فقط، ولا يعني نهاية المطاف»([27]).
وقد أصدرت الجماعة، في سبيل ترويج وتوضيح أفكارها، مجلتها الرئيسية: «الفجر»، كما أصدرت منشورات، وبيانات، ومطويات عديدة، بالإضافة إلى أشرطة مسموعة تناولت أحداثاً، ووقائع، وقضايا عديدة، كفكر الجهاد، ومنهجيته، وأخباره، ونشرت الجماعة في يوليو(تموز) 1999، كتاباً بعنوان: «القذافي.. مسيلمة العصر»، كتبه: عبد الرحمن حسن، وقدم له الشيخ أبو المنذر الساعدي([28]).
ويقول حول هدف هذا الكتاب: «إن هذا الطاغية استطاع أن يلبس أمره على كثيرين من غير أبناء ليبيا، لا سيما من الأعاجم، عن طريق صراخه وجعجعته، ومحاولته الظهور بمظهر القائد المسلم، الذي سيقود الأمة إلى مقارعة الأعداء، وتحرير المقدسات. ومن هنا، كان واجباً على أبناء الإسلام في ليبيا، أن يبينوا زيف القذافي وباطله، وأن يكشفوا للمسلمين ردته وعمالته، ومحاربته لدين الله، ولِحَمَلَةِ الشريعة: علماً وعملاً»([29]).
ويحدد أبو بكر الشريف، الناطق الرسمي باسم المقاتلة، المنهج الشرعي عند الجماعة، بأنه يقوم على: فهم السلف، وإتباع الكتاب والسنة، والمنهج الجهادي«وتغيير أنظمة الحكم الجاثمة على صدور أمتنا بالقوة؛ لاعتقادنا بأن الوسائل المحدثة، والتي تريد أن تتجاوز خيار القوة، هي من السبل» ([30]). وفي سؤاله، عما حققته الجماعة، قال: «إنها أحيت فريضة غائبة، وسُنَّة ميتة، وأعني بذلك جهاد المرتدين والعملاء، ثم أنها أحيت الأمل ـ بفضل الله ـ في نفوسٍ كان اليأس قد استولى عليها، وكسرت حاجز الخوف، الذي أقامه النظام؛ من خلال وسائله القمعية».ويضيف: «ثم أن الجماعة أظهرت الوجه الحقيقي للصراع، وأنه صراع عقائدي دائر بين الحق والباطل، وهذه هي الخطوات الأولى في طريق التغيير الصحيح، أما الثمرة النهائية في هذه الدنيا؛ فهي بيد الله سبحانه وتعالى» ([31]).
تؤكد كتابات ومؤلفات الجماعة الإسلامية المقاتلة، أنها على منهج السلفية الجهادية نفسه، وأنها أقرب إلى حركات الجهاد المحلي، منها إلى حركات عولمة الجهاد شأن القاعدة، وأن ارتباطها المتأخر بها يأتي في سياق تكتيكي، وتحول في فكر الجهاد المعولم نفسه، نحو الإقليمية، والنشاط في بؤر جغرافية محددة.
د- تنظيم فضفاض:
تضارب في الآراء، وتضارب في المواقف، فقبل وبعد إعلان الظواهري إنضمام المقاتلة إلى القاعدة، في 3 نوفمبر(تشرين الثاني) 2007، والذي يقوده أبوالليث الليبي، عضو التنظيم المذكور سابقاً، ولكن ما يظن أن الجماعة تختلف حسب أدبياتها، مع استهداف المدنيين، والعمليات الانتحارية.
كما تركز على عدوها القريب دون العدو البعيد. ما يجعلنا نصف تنظيم الجماعة الليبية،بالتنظيم الفضفاض، والمنشطر في أكثر من بلد. ذلك بسبب الضربات التي وجهت إليه، قبل أن يصلب عوده في ليبيا، والتنظيم أيضاً لم يتبنَّ يوماً طروحات تنظيم القاعدة، ولم يكن جزءاً منها، علماًبأن عناصره قاتلوا في العراق، لكن كانوا أقرب إلى الشيخ عبد الله عزام، الإخواني التوجه، منه إلى أيمن الظواهري،أحد قيادي تنظيم الجهاد في مصر سابقاً. وما ذُكر من إنضمام التنظيم إلى القاعدة لا يعدو أولئك الأشخاص؛ الذين أصلاً قاتلوا تحت راية القاعدة في أفغانستان، وحالياً في العراق، وهم قطعاً ليسوا جميع أفراد التنظيم، الذي تأسس أصلاً.
وما يكسب هذا الرأي قوة، هو أنه بعد يوم واحد من إعلان الظواهري نبأ الإنضمام كشفت إحدى الصحف العربية عن وجود بوادر تشير إلى قرب إطلاق مبادرة للجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا؛ لوقف ما يسمى «العنف»، والتفاوض بشأن مراجعة أفكارها المشابهة لمبادرة تنظيم «الجهاد» المصري، التي يتوقع إطلاقها منتصف الشهر الجاري، حيث نقلت الجريدة المذكورة عن نعمان بن عثمان، القيادي الليبي السابق في الجماعة الإسلامية المقاتلة، تأكيده على معرفته بوجود إتصالات مباشرة، بين ممثلين للحكومة الليبية وقادة الجماعة الإسلامية، الذين سمحت له السلطات بمقابلتهم، في مقر احتجازهم في طرابلس قبل شهور.
مضيفاً: أنه سمع من أبي المنذر مباشرة، أنه لا يمانع في حوار مع ممثلين للحكومة الليبية، وأن ثمة فتاوى أصدرتها الجماعة في السابق «تحتاج إلى مراجعة». لكنه قال: إن الإتصالات لا تعني أن الطرفين وصلا إلى إتفاق،على الرغم من إفراج ليبيا عن العديد من ناشطي الجماعة الإسلامية([32]).
وما يزيد صدقية هذا الاحتمال،أن المناخ المسيطر على العلاقة، بين التنظيم والنظام،كان يتجه نحو إذعان التنظيم للنظام، مقابل الإفراج عن قياديه،وبالفعل أفرجت السلطات الليبية عن 60 شخصاً من أعضاء التنظيم، كانوا تعهدوا بالتوقف عن ممارسة أي نشاط ضد النظام، ويبدو أنهم آخر ما تبقى من الثمانين ونيف معتقل، الذين اعترفت بهم الحكومة الليبية بصفتهم من «الجهاديين»،في سنة 2005. بل أشارت التقارير إلى «أن المفاوضات، التي تجري بين الطرفين، يقودها رأس الهرم في التنظيم وأركانه، كالشيخ عبدالله الصادق، ونائبه أبو حازم، ومُنظر الجماعة أبو المنذر، والشيخ مفتاح الذوّادي، والشيخ عبدالوهاب قايد»([33]).
كما أن وجود هؤلاء القادة في السجون، وهروب الكثير منهم إلى الخارج، جعل التنظيم مأزوماً، لا يمكن تحديد توجهاته المستقبلية، ومن يمثله بشكل دقيق، شأن المشروعات الجهادية الأخرى، التي فشلت في مصر وسوريا،والتي ألهمت التيار الجهادي الليبي بشكل عام.
أهم رموز الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا:
ما تزال المعلومات قليلة، عن كثير من رموز الجماعة الإسلامية المقاتلة، ولكن يمكننا التعريف بأبرز الشخصيات فيها، من خلال ما ورد في أدبيات، وبيانات الجماعة، حيث نجد أن هناك أسماء قادة عديدين منهم: أبوعبد الله الصادق، كأمير للجماعة، وورد بجانب ذلك أبوبكر الشريف، كناطق رسمي للجماعة، وأبو المنذر الساعدي كمسؤول للجنة الشرعية فيها، وأبو الليث الليبي أحد قادتها، المستقر في أفغانستان، والقريب من القاعدة، وابن لادن، ويمكننا أن نذكر كذلك عمر راشد، الذي حَلَّ محل أبي بكر الشريف المذكور. ومن أ