الثابت والمتحول فى فكر الجماعة الإسلامية

0

على مدى أكثر من عشرين عاماً أنتجت “الجماعة الإسلامية” ما يقرب من “ثلاثين بحثاً” دارت جميعها حول قضايا التكفير والجهاد والحسبة والسياحة والموقف من أهل

على مدى أكثر من عشرين عاماً أنتجت “الجماعة الإسلامية” ما يقرب من “ثلاثين بحثاً” دارت جميعها حول قضايا التكفير والجهاد والحسبة والسياحة والموقف من أهل الذمة وقتل المدنيين، وشكلت بعض هذه الدراسات علامات فارقة فى تاريخ الجماعة، كميثاق العمل الإسلامى وحتمية المواجهة، والرد على البوطى، والألبانى وأخيراً، سلسلة تصحيح المفاهيم.

وعندما أعلنت الجماعة عن توجهها الجديد بإطلاقها لمبادرة وقف العنف توقعنا موقفاً مغايراً تجاه أفكارها القديمة، وانتظرنا أن تعيد الجماعة صياغة إجابات مختلفة على الأسئلة الكبرى التى أثارتها من قبل : ما هو حكم الحاكم المبدل لشرع الله، وهل حكام اليوم يحكمون بما أنزل الله أم بالهوى والمزاج هل ينحصر الجهاد فى قضايا القتال فقط أم أن الأخير فرع من الجهاد الذى هو فى الأصل “الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة” بالإضافة إلى جهاد النفس وكفها عن الهوى، كيف يرون أهل الذمة الآن – خاصة الأقباط – هل مازالوا يطالبونهم بدفع الجزية عن يد وهم صاغرون أم أنهم يؤمنون الآن بمبدأ المواطنة، هل بدلوا مفاهيمهم المغلوطة عن السياحة أم مازالوا ينظرون إليها كنشاط محرم شرعاً هل التغيير باليد فى مجال الحسبة يجوز للأفراد والجماعات أم أنه يقتصر على ولاة الأمور، وتمثل الإجابة على هذه الأسئلة النمط الحقيقى لاختبار التوجهات الجديدة للجماعة، وليس إيقاف العنف ووضع السلاح جانباً فقط – رغم أهميته – فالإرهاب يبدأ فكراً، قد يظل قرنا بكامله دون أن يقرب السلاح ولكنه يظل مع ذلك قنبلة متحركة تنثر شظاياها الفكرية يمنة ويسرة، فى غير حرص أو تحرز.

من هنا كان اهتمامنا بالتدقيق فى بحث القضايا التى شكلت العمود الفقرى لفقه العنف طوال العشرين عاماً الماضية فى محاولة لاكتشاف الثابت والمتغير فى فكر “الجماعة الإسلامية”. فمن تكفير الحاكم إلى ضرورة الخروج عليه مروراً بقتال الطائفة الممتنعة نشأ العنف الذى اكتسى طابعاً فكرياً محضاً – عند الجماعة الإسلامية – طوال حقبة السبعينيات، التى سرعان ما انتهاء بالتخطيط لاغتيال السادات، ثم أحداث أسيوط فى أكتوبر عام 1981 والتى نفذها أعضاء مجلس الشورى – الذين أعلنوا المبادرة – وراح ضحيتها 128 ضابط وجندى من جنود الأمن المركزى البسطاء لتبدأ مرحلة جديدة من المواجهة المسلحة مع الدولة، كلفت المجتمع المصرى الكثير من أرواح ودماء أبنائه من الأبرياء الذين لا ذنب لهم ولا جريرة سوى أنهم حاولوا الوقوف فى وجه الشيطان وقد ظل المجتمع المصرى ونخبة السياسية والاجتماعية فى حال استئناف دائم من الصراع بين الفريقين، الدولة ممثلة فى أجهزتها الأمنية، وجماعات العنف ممثلة فى أجنحتها العسكرية، وعندما وصل الأمر إلى مرحلة جديدة من الصراع – ذات أبعاد وأساليب مختلفة – تحاول ذات الأطراف ممارسة نفس اللعبة فى إطارها الثنائى مستبعدة المجتمع ونخبة السياسية – مرة أخرى – من دائرة الفعل، وكأن ما يجرى لا يعنينا، فكان لابد والحال كذلك أن نلقى بحجر فى المياه الراكدة فى محاولة لتحريك أكبر عدد من الدوائر، علنا نتوصل إلى خيوط أولية تعيننا على فهم ما يحدث – فى ظل هذا التعتيم الواسع – أدواتنا فى ذلك دراسة أفكار الجماعة الإسلامية ورؤيتها الأساسية فى خمس قضايا محددة حاولت الجماعة أن توهم المجتمع ونخبه السياسية أنها تعيد تناولهم بشكل مختلف عما حدث من قبل لذا أطلقت على الكتب الأربعة التى حوت مراجعتها لهذه القضايا “سلسلة تصحيح المفاهيم” والسؤال : هل نحن بالفعل على أعتاب مفاهيم جديدة تحتوى على تغير جذرى للمبادئ التى أنطلق من عقالها فقه العنف منذ أكثر من عشرين عاماً، أم أننا أمام حالة مراوغة مفضوحة دفع إليها محاولة تجاوز أزمة ما وصلت إلى ذروتها بين طرفى الصراع – الدولة والإرهاب – هذا ما سوف تكشف عنه الأوراق القادمة.

** أولاً : قضية التكفير :

ونبدأ مناقشتها من خلال وثيقة من أحدث وثائق الجماعة حيث صدرت فى “سبتمبر عام 1997” أى عقب إصدارهم لمبادرة وقف العنف فى يوليو من نفس العام والأهم أنها لازالت تبث عبر موقعهم على شبكة الإنترنت “المرابطون” حتى كتابة هذه السطور، الوثيقة ترد فيها الجماعة الإسلامية على شريط لعالم الحديث المشهور ناصر الدين الألبانى الذى أطلق عليهم فى هذا الشريط “خوارج هذا العصر” وتنقسم الوثيقة إلى ثلاثة أقسام قسم خاص بوجوب الخروج على الحاكم المبدل وسيأتى ذكره فى إطار الحديث عن الجهاد وقضية الخروج على الحاكم – من حيث المبدأ – وقسم خاص بكفر الحاكم المبدل والقسم الثالث خاص بكفر القوانين الوضعية وسنبدأ هنا بما يهمنا فى هذا الإطار وهو كفر الحاكم المبدل لشرع الله.

تبدأ الوثيقة بتحرير لحديث ابن عباس حول تفسيره للآية الكريمة “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” وبعد أن تثبت الجماعة أن ما قاله ابن عباس من أن المقصود بالكفر هنا ليس الكفر الذى يخرج من الملة ولكنه “كفر دون كفر” تؤكد الجماعة “إن الحق الذى نعتقده وندين به فى هذه القضية أن ما جاء عن ابن عباس فى هذه المسألة لا يمكن أن يقصد به حال حكام هذه الأيام الذين يمنعون شريعة الله عن أن تحكم عباد الله ويستبدلون بها قوانين وضعية يلزمون الناس بالإذعان لها والتحاكم إليها، إنما المقصود بمقولة (كفر دون كفر) أن تحمل القاضى أو الأمير شهوته وهواه على أن يقضى بين الناس فى واقعة أو وقائع بغير حكم الله وهو فى قرارة نفسه مقر بأنه عاص مقصر.

وعلى الرغم من أن قول بن عباس واضح فى هذه القضية وضوح الشمس.

وهو ما يتوافق مع ما ذكره بن القيم فى مدارج السالكين من أن ابن عباس قال : ليس بكفر ينقل عن الملة وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وكذلك قال طاووس … ومنهم من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا له وهو قول عكرمة وهو تأويل مرجوح، ومنهم من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله … ومنهم من تأولها على الحكم بمخالفة النصوص تعمداً من غير جهل به ولا خطأ فى التأويل حكاه البغوى عن العلماء عموماً، … ومنهم من جعله كفراً ينقل عن الملة” وهم قلة.

إلا أن الجماعة الإسلامية تراوغ فى محاولة لإثبات وجهة نظرها حيث تقول :

وهذا الذى نقله ابن القيم رحمه الله صريح فى أن قول ابن عباس الذى جعله الشيخ عمدة فيما ذهب إليه ليس القول الوحيد فى المسألة، بل من السلف من جعل الكفر فى الآية كفراً أكبر ينقل عن الملة ومنهم من قال بغير ذلك. وتضيف الجماعة : وعلى ذلك فلو قال قائل إن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر كفراً أكبر يخرج من الملة لكان له سلف فيما ذهب إليه.

مع اعتقادنا أن الصواب فى المسألة أن الكفر هنا يشمل الكفرين الأكبر والأصغر بحسب حال الحاكم فإنه إن حكم بغير ما أنزل الله وهو مقر بوجوب تحكيم شرع الله معترف بأنه عاص مستحق للعقوبة فهذا كفر أصغر، وإن حكم بغير ما أنزل الله مستهينا بشرع الله أو معتقداً أن شرع غيره أفضل منه أو مثله أو أنه مخير فى ذلك فكل ذلك ونحوه كفر أكبر.

وإمعاناً فى المراوغة تؤكد الجماعة إن هذا كله فى حاكم قضى فى واقعة أو وقائع بغير شرع الله مع كون الشريعة الحاكمة له هى شريعة الإسلام أما الذين يشرعون من دون الله ويحاكمون الناس إلى قوانين ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان ففعلهم هذا كفر أكبر مخرج من الملة غير داخل فى هذا التقسيم وتضيف : إننا حيث فرقنا بين من حكم فى واقعة أو وقائع بغير شرع الله، وبين من شرع من دون الله وحملنا كلام ابن عباس رضى الله عنه على حالة القضاء وليس على حالة التشريع فإن هذا الذى عمدنا إليه ليس تأويلا بل هو حمل للفظ على أصل معناه فى اللغة؛ ذلك أن معنى الحكم فى اللغة هو القضاء كما فى القاموس المحيط(4/98).

فحين نقول أن ابن عباس رضى الله عنهما يعنى هنا الحكم الذى بمعنى القضاء لا الذى بمعنى التشريع فإننا لا نكون قد تأولنا؛ لأن التأويل المقصود هنا هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر، فهل صرفنا نحن لفظ الحكم عن معناه الظاهر أم رددناه إلى أصل معناه وهو القضاء ؟!

وتحاول الجماعة لىّ عنق النصوص لتقديم الأدلة على صحة ما ذهبت إليه فتقول :

إن الذى حملنا على التفرقة بين حاكم شرع لعباد الله شرعاً غير شرع الله وألزمهم بالتحاكم إليه وبين حاكم قضى بين الناس فى واقعة أو وقائع بغير حكم الله، حيث اعتبرنا الأول قد أتى كفراً أكبر مخرجاً من الملة بينما قلنا عن الثانى إن كفره دائر بين الكفر الأصغر والكفر الأكبر وحملنا أثر ابن عباس على الثانى أمور كثيرة أهمها :

إن النصوص الشرعية قد دلت على أن من شرع للناس قانوناً غير شرع الله وألزمهم بالتحاكم إليه فقد كفر كفراً أكبر يخرجه من الملة :

فمن ذلك قوله تعالى : }فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً{النساء : 59 . فقد أمرت الآية الكريمة المسلمين أن يردوا أمرهم عند التنازع إلى الله ورسوله وبينت أنهم لا يكونوا مؤمنين بالله واليوم الآخر إن لم يفعلوا ذلك.

وتتساءل الجماعة مستنكرة : وماذا يفعل أصحاب القوانين الوضعية غير أنهم يردون نزاعاتهم وخلافاتهم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ؟ !

وتضيف الجماعة ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : }ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً{النساء : 60.

ففى هذه الآية تكذيب لمن يزعم الإيمان وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم إلى غير شرع الله عز وجل.

ومن ذلك قوله تعالى : }أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون{المائدة : 50، فالله عز وجل يذكر حكم الجاهلية أى شرعتها ومنهجها فى مقابل حكم الله أى شرعته ومنهجه، وإذا كانت شرعة الله هى ما جاء فى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فماذا تكون شرعة الجاهلية إلا نظمها وقوانينها المخالفة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؟.

يقول ابن كثير فى تفسير هذه الآية : “ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهى عن كل شر إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التى وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذى وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد أقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت فى بنية شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه فى كثير ولا قليل” . أ.هـ

ثم تطالب الجماعة الشيخ الألبانى أن يتأمل هذا الذى ذكره الحافظ ابن كثير عن حكم التتار ووصفه لياسقهم الذى كانوا إليه يحتكمون ثم يجيب على سؤالهم : أى فرق يجده بين ما كان عليه هؤلاء القوم الذين كفرهم ابن كثير وأوجب قتالهم وبين ما عليه حكامنا الآن ؟ أو ليس حكام اليوم قد اقتبسوا من شرائع الغرب الكافر قوانين ما أنزل الله بها من سلطان وألزموا الناس بالتحاكم إليها والخضوع لها ولا يستثنى من ذلك إلا ما يسمى بقانون الأسرة أو قانون الأحوال الشخصية وهو مع ذلك لم يسلم من عبثهم فأدخلوا فيه أيضاً أشياء تخالف كتاب الله وسنة رسوله ؟

وتشدد الجماعة على أنها لا تجد فارقاً بين هؤلاء وأولئك وتضيف بل إن الأمر فى عصرنا أسواً مما كان عليه الحال فى عصر التتار وتحاول الجماعة تأكيد رؤيتها بالنقل مرة أخرى عن بن تيمية حيث يقول فى فتاويه : “والإنسان متى حلل الحرام – المجمع عليه – أو حرم الحلال – المجمع عليه – أو بدل الشرع – المجمع عليه – كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء”. أ.هـ.

وتتساءل الجماعة مستنكرة : كم حلل حكامنا من الحرام المجمع عليه وكم حرموا من الحلال المجمع عليه وكم بدلوا من الشرع المجمع عليه.

ثم تزيد الجماعة على لسان عبد القادر عودة أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين الذين أعدمهم النظام الناصرى.

“ولا خلاف بين الأئمة المجتهدين قولاً واعتقاداً فى أنه                           لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، وأن إباحة المجمع على تحريمه              كالزنا والسكر واستباحة إبطال الحدود وتعطيل أحكام الإسلام وشرع ما لم يأذن به الله إنما هو كفر وردة وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا أرتد واجب على المسلمين ..”.

وتختتم الجماعة وثيقتها قائلة وبعد .. فهذه النصوص القرآنية الواضحة ومعها الإجماع المذكور تبين بأجلى عبارة أن التشريع من دون الله والتحاكم إلى غير شرعه كفر أكبر مخرج من الملة، ومتى كان الأمر كذلك لا يكون التفسير المنقول عن ابن عباس وارداً فى هذه المسألة، وإنما هو وارد فى موضوع القضاء، وإن الكفر الأصغر إنما يكون فى انحراف بعض الحكام والقضاة وإتباعهم للهوى فيما يقضون به بين الناس مع كونهم عارفين بتقصيرهم لا يفضلون غير شرع الله ولا شريعة لهم يحتكمون إليها إلا شريعة الإسلام.

الدستور والقانون .. كفر وخروج من الملة :

ثم تنقلنا الجماعة إلى القسم الثانى من وثيقتها لبيان أدلتها حول كفر القوانين الوضعية فتقول ..

لقد كان ما سبق بياناً لحكم التشريع من دون الله بصفة عامة، ونريد الآن أن نتحدث بصفة خاصة عن القوانين الوضعية التى ألزم حكامنا الناس بالتحاكم إليها لنبين – لمن لا يعلم – أنها أحلت الحرام وحرمت الحلال وبدلت الشرع مما يعنى أنها كفر وردة باتفاق الفقهاء كما سبق نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وسنكتفى هنا بذكر أمثلة قليلة توضح ما نقول :

أ – فأما تحليل الحرام فإن قانون العقوبات المصرى يخلو من نص يحرم الزنا إذا وقع من غير متزوج أو غير متزوجة، ومعنى ذلك أن الزنا فى هذه الحالة مباح لأننا نعلم أن القاعدة عند أهل القانون أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وأيضاً فإن الزنا إذا وقع من الزوج فى غير منزل الزوجية فإنه مباح فى قانون العقوبات المصرى لأنه ينص فى مادته السابعة والسبعين بعد المائتين على إن كل زوج زنى فى منزل الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة يجازى بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر”، كما أن الزنا إذا وقع من الزوجة برضا زوجها فإنه لا يعد جريمة يعاقب عليها لأن المادة الثالثة والسبعين بعد المائتين من قانون العقوبات تنص على أنه “لا يجوز محاكمة الزانية إلا بناء على دعوى زوجها …” الغريب أن الجماعة الإسلامية تنسى قول النبى (ص) للرجل الذى أتى بعبد له زنى ليحده “لو سترته بثوبك لكان خير لك”، وقوله (ص) للرجل الذى جاءه يخبره بزنى زوجته فقال له النبى “والله لو لم تأتينى بأربعة شهود لحددتك” – وكان ذلك قبل أن تنزل آية اللعان-.

حـــد الــــــردة :

وتمضى الجماعة فى سرد أدلتها على كفر القوانين الوضعية فتقول “أن الدستور المصرى وقانون العقوبات يخلوان تماماً من الإشارة على حد الردة ومعنى ذلك أن ارتداد المسلم عن دينه مباح عند هؤلاء القوم لما أسلفنا من أن القاعدة عندهم أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وقس على ذلك الكثير مما حرمه الله ورسوله وسكت عنه الدستور والقانون فصار مباحاً عندهم، بل إن هناك من القوانين ما ينص صراحة على إباحة ما حرمه الله ومثال ذلك المادة (226) من القانون المدنى المصرى التى تبيح بل تلزم بدفع الفوائد (أى الربا) على التأخير فى سداد الديون وذلك حيث نصت على أنه “إذا كان محل الالتزام مبلغاً من النقود وكان معلوم المقدار وقت الطلب وتأخر المدين فى الوفاء به كان ملزما بأن يدفع للدائن على سبيل التعويض عن التأخير فوائد قدرها 4% فى المسائل المدنية، 5% فى المسائل التجارية، وتسرى هذه الفوائد من تاريخ المطالبة القضائية بها هذا ما لم ينص القانون على غيره”.

كما تنص المادة (228) مدنى على أنه “لا يشترط لاستحقاق فوائد التأخير قانونية كانت أو اتفاقية أن يثبت الدائن ضرراً لحق به من هذا التأخير”.

ب – وأما تحريم ما أحله الله فمثاله المادة (201) من قانون العقوبات المصرى والتى تنص على أن “كل شخص ألقى فى أحد أماكن العبادة أو فى حفل دينى – حتى لو كان من رجال الدين – مقالة تضمنت ذماً فى الحكومة أو فى قانون أو مرسوم أو قرار جمهورى أو فى عمل من أعمال جهات الإدارة أو أذاع أو نشر بصفة نصائح أو تعليمات دينية رسالة مشتملة على شئ من ذلك يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين ..”.

فهذه المادة تجعل النصيحة الدينية التى هى واجب شرعى غير جائزة وتعاقب من يقدم عليها، وهذا تحريم صريح لما أحله – بل لما أوجبه – الله تعالى، أترون كيف تصف الجماعة محاولة الحكومة منع المتاجرة بالدين وتوظيف المنابر الطاهرة لأغراض سياسية على أنه تحريم لما أحله الله وحسبنا الله ونعم الوكيل !! وتمضى الجماعة فى غيها فتقول : وأما تبديل شرع الله فأمثلته كثيرة منها:

نص المادة (274) من قانون العقوبات التى تنص على أن “المرأة المتزوجة التى ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مدة لا تزيد على سنتين، لكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم بموافقته على استئناف معاشرته لها”. وأما الزوج الزانى فقد سبق أن المادة (277) تنص على أنه إذا زنى فى منزل الزوجية فإنه يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر، وفى هذا كله تبديل لحد الرجم، كما أن إعطاء الزوج حق إيقاف العقوبة فى حالة زنى الزوجة تبديل لشرع الله أيضا، وغير ذلك كثير.

ويكفى أن نعلم هنا أن حق التشريع قد أعطى لغير الله عز وجل فقد نصت المادة (86) من الدستور المصرى على أنه “يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع ..”، والتشريع كما أسلفنا حق خالص لله عز وجل لا يجوز أن ينازعه فيه أحد، والمادة المشار إليها لم تقيد سلطة المجلس فى التشريع بأى قيد فلم تقل مثلاً “فيما لا يخالف الشريعة”، ومعنى ذلك أنهم يشرعون ما يشاءون أو ما يشاء حاكم البلاد.

ومن أجل ذلك قلنا إن هذه القوانين الوضعية مناقضة لشرع الله بل إنها محادة له أكبر المحاداة، وإن من سنها فقد كفر ومن رضى بها وحمل الناس على التحاكم إليها فقد كفر، ثم نسمع بعد ذلك من يقول أن الجماعة الإسلامية لم تقل بالتكفير مطلقاً”.

ونسير مع مقولات الجماعة حول التكفير، ونورد من وثيقة “حكم قتل المدنيين” التى أصدرها مفتى الجماعة فى لندن محمد مختار مصطفى المقرئى عام 1998 وأثارت ضجة كبيرة وقت صدورها وأفرد لها الأستاذ مكرم محمد أحمد صفحات عديدة كتبها بنفسه تحمل نفس انطلاقا والروح التى كتب بها حواراته الأخيرة مع مجلس شورى الجماعة وفيها يؤكد مفتى الجماعة بعد استعراضه للغلو فى تكفير أنصار الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام والمعاونة لها “لأجل هذا لا نرى كفر أنصار الطواغيت على التعيين وإن قلنا بكفر الطائفة نفسها – طائفة الطواغيت – التى تخرج على شريعة الله على العموم، وهو مذهب الأئمة المتبعين كالإمام الشافعى والإمام احمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم فإنهم لم يكونوا يكفرون المعين من الطائفة الكافرة المنتسبة لأهل القبلة”.

ويضيف المقرئى : إن أكبر ما تعانيه الأمة اليوم فى فكرها ووعيها الدينى هو استحالة كثير من الثوابت إلى متغيرات، وقد باتت المسلمات قضايا جدلية وتقديرات نسبية تقبل النقاش وأدى فى الرأى..

فمن ذلك: تجويز العمل “الديمقراطى” الذى لا خلاف بين الناس أنه منح سلطة التشريع لغير الله.

ومنه: اعتبار هذه القوانين الوضعية الكفرية قوانين شرعية لمجرد موافقة بعضها لأحكام الشريعة، مع علم الكافة أن واضعها لم يقصد إلى هذه الموافقة ولم ينطلق من قواعد الإسلام أصلاً.

ومنه: الترخيص فى التعاملات البنكية الربوية وتوصيفها على أنها أنواع من المرابحات المشروعة.

ومنه: إيجاب طاعة ولاة أمور نابذين لشريعة الله، متمردين على منهج القرآن، مغتصبين للسلطة على الرغم من إرادة الناس.

وبعد .. هل من مزيد .. نعم ما زال هناك المزيد من التكفير فى جعبة الجماعة الإسلامية تطعن به صدر هذا الوطن.

محاكمة النظام السياسى فى مصر :

فالجماعة الإسلامية لم تكتف بتكفير الحاكم المبدل لشرع الله أو الطائفة الممتنعة، ولكنها مضت فى طريقها لتحاكم النظام السياسى برمته فالنظام وفق مفهوم ورؤية الجماعة قد أرتكب جرماً كبيراً باتخاذ الديمقراطية أساساً فكرياً له ولقوانينه ومؤسساته، لماذا ؟! لأن الديمقراطية تحمل فى طياتها مخالفات جوهرية وعميقة للمنهج الإسلامى، بما يجعلها فى تناقض صارخ مع الإسلام. ويتضح ذلك من الاستعراض السريع لمبادئ الديمقراطية :

فالديمقراطية تجعل الشعب هو صاحب السيادة، أى أنه هو صاحب السلطان المطلق. وهذا ما لا يقره مسلم أبداً، ذلك أن المسلمين جميعهم – طائعهم وعاصيهم – لا يسلمون بأن تكون السيادة لأحد من دون الله.

والديمقراطية تجعل الشعب مصدراً للسلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية). فأما وجود سلطة تشريعية بشرية تشرع ما لم يأذن به الله وفق هواها وما تراه عن طريق برلمان أو غيره، فهذه جاهلية، إذ إن حق التشريع غير ممنوح لأحد من الخلق، لأنه خالص لله تعالى.

والديمقراطية تخالف الإسلام عندما تمنح للشعب حقاً مطلقاً فى توليه من يشاء وعزله وفق الهوى والمزاج، ودون التفات للقواعد التى أرساها الإسلام للتولية والعزل ودون ازدياد بالشروط التى وضعتها الشريعة الغراء لكل من يولى على ولاية من الولايات.

أما الحريات، فالديمقراطية تطلقها دون قيد أو شرط، ولكل المواطنين يستوى فى ذلك عندها الحق والباطل، والطيب والخبيث، والصواب والخطأ، والإيمان والكفر، إذ أنها لا تعرف حقا من باطل، ولا تقر بدين أيا كان هذا الدين. ومن ثم فالحرية ممنوحة لكل الناس .. من شاء أن يعتقد أى عقيدة فله ما يريد، ومن يشاء أن يرتد عن إسلامه، فليفعل دون أى عقاب أو حتى عتاب ضاربين عرض الحائط بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من بدل دينه فقد كفر”.

فمن رضى بالشيوعية يحق له أن يدعو إليها، وكذا من أراد الدعوة للفجور أو البدع أو غير ذلك من أفكار وآراء وأهواء تخطر على العقول. والإسلام لا يقرهم مطلقاً على هذا المفهوم الباطل للحريات، إذ أن الإسلام يقرر أن الناس عبيد لله تعالى، فلهم الحرية دون مخالفة لدين الله تعالى- بالطبع كما تتصوره الجماعة – ودون تجاوز أو تعد للحدود – التى تراها الجماعة أيضاً – سواء فى الأقوال أو الأعمال فلا يحل – عند المسلمين – إطلاق حرية الدعوة لأى فكرة تخالف شرع الله ودينه، – وبالطبع فكل الأفكار عدا فكرتهم تخالف شرع الله ودينه -.

والتعددية الحزبية كفر أيضاً :

كما أنه لا يحل ترك الحرية للناس تلبس ما تشاء وتأكل ما تريد وتتعلم ما تهوى، لا، فهناك حرام وحلال وواجب، فما حرمه الله تعالى فهو محرم علينا، ونحن مأمورون باجتنابه، وبمنعه فى مجتمعاتنا. وما أحله الله تعالى فنحن أحرار فى فعله أو تركه. وما أوجبه الله تعالى فنحن مطالبون بفعله.

والديمقراطية ترسى قاعدة تعدد الأحزاب، وتلك القاعدة – هى الأخرى – تختلف مع الإسلام اختلافا جذرياً، ذاك أن تعدد الأحزاب لا ينشأ إلا عن تعدد (الأيديولوجيات) فى المجتمع، فتحتاج كل منها إلى التعبير عن نفسها والدعوة لفكرها وجمع الأنصار للاعتماد عليهم فى السعى نحو كرسى الحكم بينما الحكم فى الدولة المسلمة لا تتنازعه أيديولوجيات مختلفة لسبب بسيط هو أن الحكم وسلطته لا تكون إلا فى أيدى المسلمين ليست لهم إلا عقيدة واحدة ودين واحد ومنهج واحد، ومن ثم فلا خلافات (أيديولوجية) بينهم كتلك القائمة فى المجتمعات الديمقراطية وبناء عليه فليس هناك فى المجتمع المسلم إلا حزبان (حزب الله) المأمور بإقامته، (حزب الشيطان) وقيامه ممنوع.

وتنادى الديمقراطية بالمساواة بين جميع المواطنين، فتجعل المواطنة هى أساس التسوية بينهم بغض النظر عن الدين والتقوى .. ويأبى الإسلام ذلك … يأبى التسوية بين المسلم والكافر }أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون{يأبى تسوية العالم بالجاهل }قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون{يأبى تسوية المطيع بالعاصى }أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً. لا يستوون{.

والحق أن المساواة تكون بين أناس متساوين أصلاً، أما إذا تميزت فئة عن أخرى – بإسلام الأولى وكفر الثانية مثالاً – فإنه لمن العبث أن نحاول التسوية بينهما فالكافر لا تجوز ولايته، ولابد من أن يدفع الكتابى الجزية للدولة المسلمة، وغير ذلك مما هو معروف عند الفقهاء وبعد فهذه هى أهم المبادئ الديمقراطية، وهذا هو تعارضها وتناقضها مع الإسلام وإن شئت الدقة فقل : هذا هو عداؤها للإسلام وحربها على شريعة الواحد الديان.

إعلان الحرب على مجلس الشعب :

ولا تقف الجماعة عند محاكمة النظام السياسى فى مصر وإنما تذهب فى غلوائها إلى “إعلان الحرب على مجلس الشعب” ففى وثيقة تحمل ذات العنوان تقول الجماعة رغم أن لعبة الانتخابات البرلمانية ليست جديدة على الشعب المصرى، ولا على الحركة الإسلامية المعاصرة.

ورغم أن التيارات السياسية العلمانية لم تكف طوال السنوات الماضية عن دعوتها التيار الإسلامى لمشاركتها اللعبة الديمقراطية، منكرة عليه تميزه عنها وإصراره على الاستعلاء عليها، مطالبة إياه أن يطرح نفسه كفكرة على قدم المساواة مع بقية الأفكار المطروحة ليختار الناس من بينها – بطريق الانتخابات – ما يريدونه ليحكم مجتمعاتهم.

رغم كل هذا فإننا لم نستشعر الحاجة إلى تحذير التيار الإسلامى من الانزلاق فى المستنقع العلمانى مثلما استشعرناها هذه الأيام.

فلقد عاصرنا أياماً كان الحق فيها متضح المعالم مميز السمات مستعلياً أن يدنسه شئ من ضلالات وأباطيل الجاهلية فى أى صورة من صورها، وتحت أى دعوى من الدعاوى.

وكان غالبية رموز الحركة الإسلامية حريصون على إعلان هذا التمايز. ولقد كان هذا فى حد ذاته عاملاً من أكبر عوامل إقبال الخلق على الحق وانتشار دعوة هذا الدين.

الجماعة تستنكر الحزبية وترفض الانتخابات :

غير أن الأمور أخذت تسير سيراً غير مرض، وتدهورت الأحوال وظلت تتأخر يوماً بعد يوم. فسمعنا من يقول إنه وأتباعه يلتزمون بالقانون الوضعى الجاهلى ويحترمونه، ورأينا من يخوض انتخابات المجلس التشريعى (مجلس الشعب) وقرأنا لمن يسأل الحاكم أن يمنح الإسلاميين حزباً كما أن للماركسيين حزباً !! وتضيف الجماعة، ويبدو أن السيل المنهزم مضى فى طريقه لا يلوى على شئ ويبدو أنه ينتوى قطع الشوط إلى نهايته وأنه لن يتوقف فى طريقه قبل أن يصل إلى القاع وينحط إلى الهاوية.

وعلامة ذلك هذه الدعوة المجنونة التى تتردد اليوم على ألسنة البعض بأن طريق المجلس التشريعى البشرى هو الطريق إلى تحكيم كتاب الله، وذلك بالحصول على الأغلبية بداخله، والتى نتمكن من خلالها من الحصول على إقرار البشر وإجازتهم لإنفاذ أحكام الله بعد التصويت عليها الواحد من بعد الآخر، مثلها فى ذلك مثل أى مشروع قانون يضعه أى مخلوق، فإذا ما وفق على شرع الله أخذ مشروعيته من إقرار الخلق له لا من إنزال الحق له.

وأمام هذا الواقع الجديد الذى فرض نفسه على الساحة الإسلامية … وفى مواجهة تلك الانتكاسة المحزنة التى منى بها البعض ممن نجحت العلمانية فى الإيقاع بهم فى مصيدة اللعبة الديمقراطية، كان لزاماً علينا أن نبين الحق ونجهر به، لئلا ينخدع الشباب المسلم بما يدور حوله، ولئلا يلتبس الأمر على عوام المسلمين، ولئلا تضيع المفاضلة التى كانت قائمة بين أهل الحق وأهل الباطل.

الله وحده المُشرع .. والجماعة وحدها ظل الله على الأرض :

وتمضى الجماعة لتؤكد على رؤيتها المنطلقة من فهم قاصر مغلوط للدين الإسلامى فتقول :

لا يعرف المجتمع المسلم سلطة تشريعية بشرية يكون لها حق التشريع المطلق، فمثل هذه السلطة لا وجود لها البتة فى المجتمعات التى تؤمن بالله، لأن إيمانها بالله يجعلها تسلم بأن الله تعالى وحده هو المشرع سبحانه وأن دينه الخاتم قد جاء مشتملاً على التشريعات التى يحتاجها أى مجتمع – فى جميع مناحى الحياة – فى أى زمان ومكان.

هذه القضية ليست محل جدل أو نقاش بين المؤمنين، بل هى إحدى ركائز الإيمان التى ينهدم إيمان العبد بزوالها. قال تعالى : }فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً{.

وأفراد المجتمع المسلم يخضعون جميعاً لشرع الله وينقادون له، وكذا كل مؤسسات الدولة تخضع لهذا الشرع الذى يكتسب سيادته ومشروعيته من كونه من عند الله، قال عز من قائل }إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم{.

تلك هى عقيدة المجتمع المسلم. وهذا هو نظامه وسياسته وعلى النقيض من ذلك تأتى تلك المجتمعات الضالة الآبقة التى تمردت على دين الله، فوقعت فى إشكالات ومعضلات لا نهاية لها، وكان من أعظم تلك المشكلات وأعقدها عدم وجود صاحب السيادة المطلقة الذى يذعن له الجميع – حكاماً ومحكومين – ويؤمنون بحقه فى أن يقول فيسمع له، ويأمر فيطاع أمره دون نقاش أو جدال.

فكان أن أدعى بعض فلاسفتهم أن الشعب فى مجموعه هو صاحب هذه السيادة التامة المطلقة فما شرعه الشعب فواجب الخضوع له، وما حكم به وجب إنفاذه فصار الشعب هو المشرع عندهم.

ولما تعذر أن يقوم الشعب بأسره بهذه المهمة، ابتكروا فكرة المجلس النيابى الذى يختار الشعب أعضاءه ليتولى هذا المجلس التشريع باسم الشعب ونيابة عنه.

فصار ما شرعه المجلس النيابى – عندهم – هو الحق الذى لا جدال فيه وهو الصواب الذى لا خطأ فيه، وهو العدل الذى لا جور فيه، وهو وحده الواجب النفاذ، لأنه يستمد مشروعيته من كونه من عند نواب الشعب، وهم بدورهم يستمدون الشرعية من كونهم من عند الشعب وبذلك تتحقق سيادة الشعب. والتى هى عندهم لا تخضع للدين بل ولا تسمح له البتة بالتدخل فى شؤونها، وغداً سيدها وإلهها هو الشعب صاحب السيادة المطلقة.

ومن هنا صارت المجتمعات العلمانية تحكم بإلهين .. إله فى الأرض يشرع ويأمر وينهى وهو الشعب ومجلسه النيابى التشريعى … وإله فى السماء من أراد أن يصلى له ويصوم فليفعل ولا حق لإله السماء – فى زعمهم – التدخل فى اختصاصات إله الأرض !! تعالى الله عما يصفون وعما يقولون وعما يشركون علواً كبيراً.

وتتساءل الجماعة : وقد يحدث أن يسن مجلسهم التشريعى قانوناً يوافق ظاهره شرع الله فى جزئية أو أكثر، فماذا يكون الحال ؟ وهل إذا تحاكم الناس لذلك القانون تحاكموا إليه بصفته شرع الله أم بصفته شرع مجلس النواب ؟ وتلك المشروعية الوضعية التى ينالها هذا القانون هل أكتسبها لكونه من عند الله أم لأنه أقر من المجلس التشريعى ؟

فالعلمانيون صرحاء فى ضلالهم، لأن القضية عندهم قضية اعتقاد وإيمان بحق إلههم فى التشريع بلا منازع ولا شريك، ومن ثم فهم حريصون على إثبات حق الحاكمية له .. حريصون على التأكيد على سيادته المطلقة وأنه يعلو ولا يعلى عليه، فإن وافق قانون الشعب ومجلسه شيئاً من شرع الله، أخذ هذا القانون مشروعيته وعمل به لأنه من عند إلههم، وليس لأنه من عند الله، تعالى الله عما يقولون. وتشير الجماعة إلى أن الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله – قد تنبه لهذه القضية، وعرف أن القوم عندما يضعون القوانين إنما يلتفتون لأصولهم ودساتيرهم الجاهلية المنقولة عن أوروبا ولا يلتفتون إلى شرع الله قط. فقال : “لا نرى فى بعض بلاد المسلمين إلا قوانين فرضت عليها، نقلتها إلينا أوروبا الوثنية الملحدة، وهى قوانين تخالف الإسلام مخالفة جوهرية فى كثير من أصولها وفروعها بل إن فى بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه، وذلك أمر واضح وبديهى لا يعارض فيه إلا من يغالط نفسه ويجهل دينه، أو يعاديه من حيث لا يشعر. وهى فى كثير من أحكامها أيضا توافق التشريع الإسلامى ولكن من وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوروبا – أو لمبادئها وقواعدها وجعلها هى الأصل الذى يرجع إليه فهو آثم مرتد بهذا سواء وضع حكماً موافقاً للإسلام أم مخالفاً له” أ هـ. وتُذكر الجماعة بما قاله د. عمر عبد الرحمن فى كتابه “(كلمة حق) من أن حق التشريع غير ممنوح لأحد من الخلق، غير ممنوح لهيئة من الهيئات، ولا لحزب من الأحزاب ولا لبرلمان ولا لمجموع الأمة ولا لمجموع البشرية”.

“فالناس ليس لهم حق التشريع ابتداءً وكل ما لهم هو مزاولة التطبيق لما شرعه الله أو الاستنباط والقياس على أحكام الله فيما لم يرد به نص”.

لهذا نتبرأ من مجلس الشعب.

الإخوان المسلمون .. كفار وجهلاء :

وتهاجم الجماعة فريقاً من الإسلاميين أرتضى دخول البرلمان وأتباع السبل الديمقراطية فى التغيير فتقول :

“ولقد كان المفترض على دعاة الإسلام وعلمائه أن يعلموا الناس أن حق التشريع غير ممنوح لأحد من الخلق، وأنه خالص حق الله تعالى : وأن من شرع من دون الله كفر، وأن من تحاكم إلى هذا المشرع البشرى فقد عبده من دون الله، وأنه لا يجوز السكوت على وجود سلطة تشريعية كمجلس الشعب وأن هذا المجلس من أكبر الكبائر وأشنع المصائب الموجودة فى بلادنا، وان الواجب حياله هو ما فعله موسى عليه السلام بالعجل الذى عبدته بنو إسرائيل }لنحرقنه ثم لننسفنه فى أليم نسفاً{وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسجد الضرار من تحريقه وهدمه.

ولكن فريقاً منهم لم يفعل، وليته إذ لم يفعل سكت، بل سارع بعضهم إلى ترشيح نفسه لهذا المجلس.

ولا نعرف هل يدرى هؤلاء أنهم بذلك يقرون وجود سلطة تشريعية بشرية أم أنهم لا يدرون ويسيرون وراء كل ناعق، فلما نعق ناعق بالمسارعة إلى مجلس الشعب، سارعوا دون أن يعطوا أنفسهم المهلة الكافية لمعرفة هذا المنزلق الرهيب الذى ستنزل فيه أقدامهم وأقدام من أتبعهم.

ويحسب بعضهم أنه ينفعه أو يشفع له أن نيته من الدخول إلى المجلس هى إقرار شرع الله عن طريق الأغلبية، ويقولون إنه متى حصل الإسلاميون على الأغلبية داخل المجلس أمكنهم إقرار شرع الله عن طريق عرضه والتصويت عليه وإجازته.

فمن ذا الذى زعم أنه يجوز إقرار الشرك لتحقيق التوحيد؟ لقد أوضحنا فيما سبق أن هذا المجلس قائم على استلاب حق الله تعالى فى التشريع ومنح هذا الحق للعبيد، وهذا شرك أكبر، واضح، جلى.

فكيف نتسابق للحصول على مقعد فى هذا المجلس الشركى كى نناقش شرع الله، ثم نوافق عليه ونقره، فينال مشروعيته وقانونيته عند الدولة لأنه أتى عن طريق الأغلبية، لا لأنه من عند الله ؟

فمن الذى أعطى أعضاء مجلس الشعب – بما فيهم الإسلاميون – الحق فى أن يناقشوا شرع الله ليقولوا نجيزه أو لا نجيزه ؟

وأى مسلم هذا الذى يرضى له إيمانه أن يعرض أمامه شرع الله فيرفع يده ليقول موافق على أن يكون هذا قانوناً يعمل به ؟ ومن الذى أعطاك الحق فى أن تقول موافق أو غير موافق ؟ إن أنت إلا عبد تؤمر فتطيع، وليس من حقك أن يقف شرع الله ودينه منتظراً منك أو من غيرك إجازة وتشريعاً حتى يمر إلى خلق الله بعد أن ينال موافقتك .. سيقول قائل : هذا هو نظامهم.

نقول: هل هو نظام إسلامى أم جاهلى ؟ فإن قال، جاهلى قلنا واجبك حياله هو التبرؤ منه، والكفر به، والتحذ

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.