لا يكفي أن نرفع الحرج عن موضوع أو ظاهرة لنعالجها، بل لابد أيضا من رفع الخلل، في الفهم والتصور والمعالجة. برنامج بدون حرج، الذي بثته قناة ميدي1 تيفي،
لا يكفي أن نرفع الحرج عن موضوع أو ظاهرة لنعالجها، بل لابد أيضا من رفع الخلل، في الفهم والتصور والمعالجة. برنامج بدون حرج، الذي بثته قناة ميدي1 تيفي، في حلقة 15 يونيو، التي تطرقت لظاهرة التحاق المغاربة بجبهات القتال في العراق والشام. لم يرفع الخلل في تناول الظاهرة، بل لم يتوفق حتى في رفع الحرج عن بعض جوانبها الشائكة. في هذا التعليق، سأحاول تسليط الضوء بعجالة، على بعض جوانب الخلل التي سقط فيها البرنامج، في تناوله للظاهرة.
الخلل في اختيار الضيوف: لعل في تكرار حضور بعض الوجوه، ما يوحي بأن كل الظواهر الاجتماعية باختلافها وتضاربها، لها نفس الدوافع والأسباب، وتعالج بنفس المقاربة ومن نفس الزاوية، هذا ما تؤكده على الأقل، أسطوانة الأستاذ العطري المعادة والمكررة. التناول العام والفضفاض للظاهرة، من خلال استدعاء الضيوف غير المتخصصين، لم يقتصر على الجانب السوسيولوجي، بل تجلى في استبعاد علماء الدين، واستبدالهم بخطباء ووعاظ، لا تتجاوز معرفتهم، الأمور الفقهية والخطب المنبرية، وكذا استبعاد المتخصصين الأمنيين والحقوقيين والقانونيين، كل هذا أوجد خللا واضحا وثغرة كبيرة في البرنامج، خاصة أن الظاهرة ترتبط بكل هذه الجوانب، وكانت الاحترافية ستبلغ مداها، لو تم الاستماع لشهادات المعنيين بالأمر، سواء العائدين منهم، أو ربط اتصال أو تسجيل شهادات لمقاتلين مغاربة على الجبهات.
الخلل في التعاطي مع الإشاعات: الإشاعة عنصر مهم في الحرب الإعلامية، وكما أن لها آثارا مدمرة، فقد تكون بمثابة دعاية مجانية للخصم. الكل يعلم أن ما سمي “جهاد النكاح” إشاعة اتضح كذبها، ولا يمكن أن تنطلي على أحد، خاصة أن الجهاديين خرجوا من تربة سنية حسمت في الأنكحة المشروعة والأنكحة الباطلة، وهذه الإشاعة كان من الممكن أن تجد لها صدى في التربة الشيعية، التي يعلم الجميع المفاصلة التامة و العداء المستحكم بينها وبين الجماعات الجهادية، والتي لايمكن أن تتوافقا أو تلتقيا في أي نقطة اتصال. إن الاستمرار في ترويج هذه الإشاعة، هو دعاية مجانية تغرر بالقاصرين والمراهقين وضعاف العقول، وتدفع بهم لخوض هذه المغامرة الجنسية، وعوض التنفير من تلك الجماعات، ستؤتي الإشاعة عكس مقصودها. لم تكن إشاعة “جهاد النكاح” الفخ الوحيد الذي وقع فيه المتدخلون، الذين خلع بعضهم جبة التحليل العلمي، وراح يقفز من إشاعة لأخرى (كأيها الناس)، فقد تفتق عقل البعض عن إشاعة أخطر وأكبر وأدهى وأمر، بالمبالغة في الحديث عن إغراءات وتعويضات وتحفيزات مادية خيالية، وقد دفعت سوق المزايدات أحدهم، للإدلاء برقم 100 إلى 300 أورو، تدفعها (داعش) للمقاتل الواحد في اليوم!!! ظنا من المتدخلين أنهم بترويجهم لهذه الإشاعة يشوهون صورة الجماعات الجهادية، فكانوا كذاك الذي رام ذم صاحبه فمدحه، أي دعاية وأي عرض مغر هذا الذي يتولى هؤلاء (الباحثون) الترويج له؟ تنظيم يدفع لمقاتليه البالغ عددهم مائتي ألف، مابين مليون الى ثلاثة ملايين سنتيم للجندي الواحد في اليوم، بالإضافة لإدارة وتسيير ساكنة المناطق الخاضعة لنفوذه الواقعة بين العراق والشام، والبالغ تعدادها حوالي ستة ملايين نسمة، يفعل كل ذلك في ظل حصار وحرب تشنها عليه ستين دولة، في الوقت الذي لا تستطيع دولنا في ظروف الاستقرار فعل ذلك، ويكفي أن يقارن المتلقي لهذه الإشاعة، بين تلك التعويضات والتحفيزات، وبين قفة ومساعدة رمضان الهزيلة التي توزع على مليوني مغربي، لاشك أن هذه مناقب وليست مثالب لهذه التنظيمات المقاتلة، فهل هذه هي الرسالة التي كان يقصدها المتدخلون؟ الخلل في اختيار الخطاب والتمكن منه: الظاهرة تتناول وليدات المغاربة بتعبير الأستاذ العطري، وهي حسب البرنامج نزيف حقيقي.
المفروض إذن احتواء (هاد لوليدات) والتقرب منهم والاستماع لهم، ومعالجة النزيف، عوض تعميق الجراح، وتوسيع الهوة، بخطاب الإقصاء والتحريض والاتهام والتهديد، الذي كان طاغيا، خاصة ممن تم استدعاؤهم لتناول الظاهرة من جانبها الشرعي، فظهروا ضعافا واهنين، غير متمكنين من خطابهم، وآلياته وأبجدياته، بل بدوا كمنافسين، يتحدثون عن الظاهرة وأصحابها، كخصوم يجب إسقاطهم وسحب البساط من تحت أرجلهم، وعوض التحدث من موقع الناصح والموجه والمعلم والمربي، بلغة المشفق المحب لفلذات الأكباد، الخائف على مصائرهم، اختار من لبس لباس العلم الشرعي، التحدث بلغة كيل التهم والتشفي والتحريض، وهذا لعمري يخلف هوة سحيقة، تحول دون أي حوار أو إنصات حقيقي، هذا بالإضافة للضعف الكبير والمستوى الهزيل، للخطاب الشرعي لدى هؤلاء، والذي يمكن أن نمثل له، بتناول موضوع الجهاد، ضمن إطار السياسة الشرعية، بمعنى النزول به إلى ما دون الأمور الفقهية والشعائر التعبدية، في الوقت الذي ترفعه الجماعات الجهادية، إلى مرتبة العقيدة وتربطه ربطا مباشرا بالتوحيد، باعتباره ذروة سنام الإسلام. صحيح أن الجهاد في بعض تطبيقاته وتنزيلاته، يرتبط بالسياسة الشرعية، لكن مقاربته جملة وتفصيلا ضمن هذا الإطار، خطأ معرفي وخلل منهجي، يحول دون إقناع أصحاب المنهج الجهادي، أو حتى إيجاد مساحات مشتركة معهم، للحوار والنقاش.
وهو الأمر الذي يرسخه ويؤكده الحديث عن الجهاد باعتباره دفاعا عن الوطن فقط، إن الحديث بمثل هذا الكلام، لا يعبر إلا عن ضعف المتحدث، ولا يقنع أحدا ممن يتصفح أي كتاب في السيرة، ليكتشف أي دفاع عن الأوطان ذاك الذي يقاتل الفرس والروم ويعبر القارات. يتأزم الخطاب الشرعي لبرنامج بدون حرج، ويصبح محط تنذر واستهزاء، عوض أن يكون نبراسا للهداية والإرشاد، حين يخلط وعاظ وفقهاء الحلقة، بين مصطلحات ومفاهيم كثيرة، كجعل الضرورات الخمس والأحكام السلطانية شيئا واحدا! وتفسير المرجفين، الواردة في الآية الكريمة (لئن لم ينته المنافقون من أهل المدينة والمرجفون) بالمفسدين الذين ينشرون الخراب والدمار في المدن، وهو تفسير مضحك من عضو المجلس العلمي لتمارة. لقد بدا أن أصحاب الشأن الديني، في حاجة إلى دورات علمية مكثفة في أبجديات الفقه والتفسير، ، فضلا عن أن يقاربوا نازلة بهذا الحجم ويضعوا لها الحلول. في الختام هذه مجرد إشارات وملاحظات، مما يسمح وضعي وظروفي ببسطها، لكنها مهمة جدا لو تم الانتباه لها في تدارك الخلل على المستويات التي ذكرت، في أفق فهم أعمق للظاهرة كمقدمة لمعالجتها.