أثار التصوف منذولادته كثيرا من الجدل، ولم يرضى فريق كبير من الناس أن يزداد في بيت الإسلام مولود باسم جديد، وكثر الحديث عنه مفهوما وسلوكا، شق هذا الضيف
أثار التصوف منذولادته كثيرا من الجدل، ولم يرضى فريق كبير من الناس أن يزداد في بيت الإسلام مولود باسم جديد، وكثر الحديث عنه مفهوما وسلوكا، شق هذا الضيف الجديد طريقه وسط كل هذا اللغط القائم حوله وأسس لتجربة فريدة تجاوزت سلطة النص ومنطق الجغرافيا وحدود الزمن، فكان منارة تهدي التائهين، وواحة تأوي المتعبين، وخمرة تسقي العاشقين، ومقامات يعبر إليها العارفين.
آمن أجدادنا بمشروعه التربوي وأدركوا أهميته في بناء الفرد وصناعة الحضارة ونهضة الأمة ، فالتربية آنذاك لم تكن لها وزارة قائمة أو هيئة متحكمة بقدر ما كانت لها عقيدة يتربى عليها النشء قبل تحصيل العلوم واكتساب المعارف،فالعقل عندهم مجرد آلة قد تصدا وتتلف، فسعوا لتأثيثه بقيم إنسانية وأذواق روحانية، فكان كل فرد منه يحفظ عشر آيات فلا يتجاوزها حتى يترقى في معاني الجمال والجلال، امنوا “أن الأمم أخلاق ما بقيت فان همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا” بينما تضل مناهج التعليم عندا اليوم مقتصرة على التعلم دون أية أولية للسلوك التربوي والطلب الروحي، ولا أدل على ذلك من كشف النقط التعليمي للتلاميذ الذي يرفع معاملات المواد الأدبية والعلمية والفنية ولا يبقي للسلوك والمواظبة غير معامل واحد، والنتيجة واضحة حتما لا سلوك لا تربية ولا حتى مستوى تعليمي جيد، فأجدادنا عندما تربوا تعلموا، وعندما تعلموا حملوا بوعي هم الرسالة الكونية، ففتحت لهم أبواب الدنيا، فعمروا الأرض وعبروا البحر وأقاموا صرح الحضارة.
واليوم وفيضل متغيرات الواقع، واكراهات الحداثة، وتحديات العولمة، ما يزال التصوف بيننا حي يرزق، وأعداده تزداد بالمئات إن لم نقل بالألف، لكنه رغم كل ذلك لم يعد ذلك التصوف الذي ملا الدنيا وشغل الناس، وصنع الرجال وحقق الانتصارات، فقد غاب عن واقع الناس وهموم الناس، وأصبح محصورا بين جدران الزوايا، لا يتخطاها حتى يؤذن له، لا يسافر حتى يؤذن له، لا يناقش ولا حتى يفكر أن يعارض، لقد تحول إلى صنم خرافي يسكن جبة الشيخ، يغسل ثياب الشيخ، يكنس الأضرحة ويوزع الأوراد بالتقسيط والجملة، فترسخ لدى عموم الناس أن التصوف فقط سبحة في يد، وسواك في ثغر، وطاعة شيخ، هذا الشيخ لذي أصبح الانتماء إليه اكبر من الانتماء للأمة و الوطن، وكرس تبعية تعطل فيها العقل والنقل وتخلفت امة الإسلام عن باقي الأمم، فكيف يعقل أن تصدر من منابر مشهود لها بحضورها القوي في السلوك إلى الله خطابات تبدو متناقضة وغير واقعية وغير ناضجة تحدد هويتها الصوفية فيما يخص الشأن السياسي العام وتلزم أتباعها بعدم الخوض في شؤون السياسة أو غيرها والاشتغال فقط بالله عن الخلق، أليس الله سياسي؟ أليس الله اقتصادي؟ أليس الله صوفي؟ ينبغي أن يكون حضور الله كلي وكوني فلا يغيب هنا ليحظر هناك، فالله سياسة واقتصاد ودنيا وتجارة وفكر وتعبد، إلا أن هذا الاشتغال عن الله بالناس كذبته كثير من الشواهد التاريخية المعاصرة، وبرزت خطابات صوفية تدعو مريديها وأتباعها للنزول في خصم الربيع العربي إلى الشارع للتصويت بالملايين على الدستور ومناصرة طرف دون أخر، فهل التصويت على أمر يخص امن واستقرار بلد يخص فصيل بعينه؟، وهنا يطرح السؤال بإلحاح ألا يحق للمريد أن يكون متحزبا؟ يصوت أو يخوض غمار الانتخابات أو يدعم توجه دون أخر؟، ولماذا يراد للتصوف الحقيقي الرباني الصادق أن يغيب عن تقديم البديل الحضاري المتميز؟ وأين اختفى الخطاب الصوفي الذي كان يزاحم السياسي ويقتسم مع الفقيه سلطته لدى الحاكم ويخاصم النصوص ويجدد الواقع؟.
كثير من المحطاتالتاريخية المعاصرة صمت فيها التصوف، وأغلق عليه بابه، وتجاهل واقع الناس ومشاكل الناس بحجة انه لم يؤذن له، ونسي أن مسالة الإذن التي يعلق عليها بعض رجالات التصوف جاهزيتهم لفعل أمر أو تركه مسالة نسبية وليست مطلقة، فالحق في الخطأ مأجور، والعصمة ليست أمرا مطلوبا لذاته، كثير منهم اجل زواجه لأنه مازال ينتظر الإذن، كثير منهم قعد عن السفر لأنه غير مأذون، وكثير من مصالح الناس تأخرت لان الشيخ مازال لم يتلقى بعد الواردات أو تأتيه الإشارات والهواتف، فهل نسي الشيخ أو تناسى اليوم أن التصوف تجربة؟،والتجربة ربما يشملها الصواب والخطأ، ولكنها تبقى تجربة متميزة بنية السلوك الصادق إلى الله، ويبقى الشيخ إنسانا قبل كل شيء يقود سفينة الله بأهل الله حيث لازمان ولا مكان إلا بالله.
لقد انشغل معظم أهل التصوف في زماننا اليوم بالخوض في عوالم غريبة جدة عن زبدة التصوف، وانكبوا على دراسة ما يسمى بعلم الحرف، وكأنهم بامتلاك ناصية هذا العلم سينطلقون إلى السماء السابعة، ويطوعون الأشياء ويلين لهم الحديد، فالله لا يعبد بالحرف بقدر ما يعبد بصدق النية وحسن التوجه إليه، ويخشى أن يصدق عليهم في هذا الباب قوله ” ومن الناس من يعبد الله على حرف”، ناهيك أيضا عن اختراع أوراد وطلاسم لا تستند على أساس نقلي أو عقلي، فافتتن الناس بهم أيما افتتان فهذا يقول” شيخي قطب” وذلك يردد” شيخي غوث” وأخر يفتخر ” شيخي مأذون”، وضاع التصوف المشرق وتفرق دمه بين القبائل.
لقد بقيت الطرق الصوفية زمنا مستكينة وراضية بما قسم الله من تشييد الزوايا، وإطعام الجوعى، وإقامة المواليد، بعيدة عن كل صراع حضاري وهم إنساني، وقلما تجدها في مظاهرة لنصرة شعب أو التنديد بفكر أو فضح مخطط، وكأنها أبرمت مع الدولة عقد ضمني يتيح لها هامشا من الحرية في ممارسة الطقوس، وجلب الأتباع مقابل دعم ماديا وإعلاميا ضخم قصد فك ارتباطها مع الواقع، والسكوت عما يجري من تغيير في جل مناحي الحياة العصرية، هذا الواقع وبدون مبالغة ينذر بأزمة روحية خطيرة، تتحمل الزاوية فيه بعدما كانت معقلا للمقاومة والبطولة والوطنية مسؤولية جسيمة أمام الله وأمام الوطن والتاريخ.
ينبغيللتصوف الحقيقي أن يعود بقوة، حتى تراهن الدولة عليه في مواجهة خطر الإرهاب واستتباب الأمن الروحي لدى المواطنين، ولا تكرس تصوفا بعينه، أو تدعم طريقة بذاتها، فالتصوف عالم من الجمال العرفاني والحب الإنساني، خذ منه ما شئت لما شئت، والمغرب ولله الحمد له ذاكرة قوية في تقبل شتى الطرق باختلاف أدبياتها، ومعظم رجالات التصوف الذين مروا من هنا تركوا تراثا حيا ولم يفرقوا بين هذا الشيخ وذاك، بل كانوا على قلب رجل واحد لأنهم كانوا مع الله في البدء وفي المنتهى، واقعنا في حاجة ماسة لاتحاد كل الطرق والزوايا في مواجهة الفوضى الأخلاقية وكل مظاهر جمود الفكري والعلمي والوجداني، على التصوف أن ينهض أو أن يولد من جديد كما بدا لكن ليس بعملية قيصرية.