الإخوان”؛ من تغيير العالم إلى التمتع به! تحولات مشروع “الإخوان

  • بتاريخ : 12 يونيو، 2014 - 00:58
  • الزيارات : 5
  • قناة ريحانة برس على اليوتيوب

    التحولات التي عاشتها حركة “الإخوان المسلمين” على مستوى الرؤية والمشروع والتنظيم وطبيعة الكوادر والقواعد؛ تعكس تحولا في “الروح الإخوانية”، التي عرفناها

    التحولات التي عاشتها حركة “الإخوان المسلمين” على مستوى الرؤية والمشروع والتنظيم وطبيعة الكوادر والقواعد؛ تعكس تحولا في “الروح الإخوانية”، التي عرفناها قبل عقدين من الزمان، بما يوشك أن يجعلنا بإزاء “إخوان” غير الذي كنا نعرفهم.

    لقد أدى خروج “الإخوان” من الرؤية الكلية أو الرواية الكبرى للعالم والدخول في الواقع والآني والاشتباك مع تفاصيله وأجزائه الصغرى واندماج الجماعة اجتماعيا في النسيج الاجتماعي المصري إلى خفوت النفس النضالي الثوري الذي يطمح إلى تغيير العالم، وهو ما كان ملمحا بارزا للجماعة في مدها الثاني إبان حقبة السبعينيات.

    كان “الحلم” أبرز سمات جيل السبعينيات الذي قام بالتأسيس الثاني للجماعة، كان التغيير الجذري هو أساس “المشروع الإخواني”؛ يبدأ بتغيير الفرد ولا يتوقف عند تغيير النظام، وهو العمل الذي لا يعدو مجرد خطوة بسيطة في عمل لا تنتهي خطواته إلا بإعلان دولة الخلافة الإسلامية العالمية”، وكان الطريق إلى الخلافة أقصر من الانتظار، بل هو من القصر بما يغري بالانتقال إلى ما بعده؛ ما شكل الخلافة؟ وأين سيكون مقرها؟ بل وما الشعار المفترض لها؟!… وكلها أسئلة كانت تطرح للنقاش ليس في اللقاءات الخاصة فقط، بل وفي الدروس العامة، وكانت مبشرات تحقق الحلم جزءا من معاش يومي ونقاشات لا تتوقف بين “الأخوة“.

    كان طموح هؤلاء الشباب من طلاب الجماعة ليس أقل من “التغيير الشامل” لوجه الأرض، العالم الذي يجب أن يرحب بهم وبما ينتظره منهم… كان شعارهم الأثير؛ “صُمّت أذن الدنيا إن لم تسمع لنا”! كان لدي إخوان هذا الجيل رغبة عارمة في التغيير الجذري لبناء مستقبل وعالم آخر صاغته رؤية مثالية قد تبدو حالمة لكنها قادرة على أن تشحذ همهم للفعل.

    لقد تراجع “الحلم” بتغيير العالم حتى لدي جيل الشباب – الحالم بطبعه – فضلا عن الكبار، فطموحات “شباب الإخوان” في الجامعة لم تعد تتجاوز السماح لها بالترشح في الانتخابات الطلابية، وأقصى مطالبهم صارت إصلاح اللائحة الطلابية والعودة إلى لائحة 1979! وإلى قبيل اندلاع مظاهرات الإصلاح في ربيع العام الماضي كان أهم نشاط أقامه شباب الإخوان” في الجامعة في العام الماضي [2004 – 2005م] هو مظاهرة نظموها في جامعة الإسكندرية للتنديد بالعري والابتذال في أغاني الفيديو كليب! أما أقرانهم في جامعة القاهرة فكان قمة فعالياتهم تنظيم يوم طلابي بمناسبة عيد الحب أطلقوا عليه اسم “يوم محمد” [Mohamed Day]! لتقديم رؤية إسلامية في الحب!

    لقد أفلت الروح الثورية النضالية بين “الإخوان” حتى في الأناشيد – صارت تسمى أغاني – فصارت تحفل بالمتعة وتحتفي بالترفيه والبهجة بعدما كانت تمجد الشهادة والتضحية في سبيل العقيدة والأوطان، وبعدما كانت تستمد كلماتها من أشعار هاشم الرفاعى والشهيد سيد قطب التي تفيض ثورة وتمرداً، صار يكتبها مؤلفو الأغاني الجدد الذين تغلب عليهم روح “الشعبية” والفكاهة وبعضها من رومانسيات الراحل سيد درويش في الغرام والغزل!

    في “حقبة الحلم” كانت الكوادر تستغرقها روح زهد وتقشف وانصراف عن زينة الدنيا ومتاعها، فكان أقل القليل يكفي للعيش والزواج، وكان التزام القصد في النفقة وفي الملبس أصلا في السلوك، وكانت روح الجد حد الصرامة والتجهّم؛ سمتا به يعرفون، حتى في أوقات الفرح والسرور كانت تستغرقهم حالة الصرامة والجد، فيستحضرون وصية الأمام الشهيد حسن البنا التي تقول: (لا تكثر من الضحك فإن الأمة المجاهدة لا تعرف المزاح).

    أما الآن فعكس ذلك هو ما يسود، النموذج الذي يلهب “الشاب الإخواني” ليس نموذج رهبان الليل فرسان النهار” الذين كانت تتغنى لهم الأنشودة الإخوانية؛ “إذا جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا”! بل هو نموذج “الجنتلمان الإسلامي” الذي يرتدي أبهي الحلل ويقتني أفخم السيارات ويعتلي أهم المناصب ولكنه يسخّر ذلك كله في سبيل الله!

    تغيرت “حقبة الحلم”، فلم تعد الدنيا دار الابتلاء والشرور، ولم تعد “جحيم المؤمن” أو مجرد “شجرة” يستظل بها ثم يغادرها إلى الآخرة، بل صارت مرغوبة ومقصودة، والنجاح فيها معيار للإيمان الديني ومؤشرا على النجاح في الآخرة … أقبل “الإخوانعلى الدنيا وأعاد “الوعي الإخواني” توجيه بوصلته فصارت محاضن التربية والتكوين والتثقيف تخرّج نوعا جديدا من الكوادر، إنه كادر راغب في الدنيا بعد أن كان راغبا عنها، همّه أن يبني ذاته ويتعلم إدارتها ليستعد لمواجهة متطلبات الحياة أكثر مما يستعد لسؤال الآخرة، فحظه في الدنيا هو عنوان لحظه من الآخرة! ولديه من التراث ما يدعم رؤيته الجديدة فالمشروع الإسلامي يقوم به أمثال عثمان بن عفان والزبير بن العوام – رمزا لليسر والغني – وليس أهل الصُفّة من فقراء المهاجرين!

    الروح الإخوانية” الجديدة هي روح التعايش والتكيف مع الواقع كما هو دون السعي إلى تغييره، فقط إعطاؤه مسحة أخلاقية تحت لافتة الأسلمة!…إنها روح جديدة لا ترى أفقا آخر غير الذي نعيشه… فهي تريد الواقع نفسه ولكن بمزيد من التحسينات… وهذا ما سنجده في أدبياتهم الحديثة؛ ليس هناك دعوة إلي تغيير جذري وإنما تعديلات أو تحسينات على الواقع… ومن يقرأ “البرنامج السياسي للإخوان” في الانتخابات الأخيرة لن يجد فيه فروقا كبيرة عن غيره، وربما ظنه برنامج الحزب الوطني الحاكم!

    تغيرت رؤية الإخوان للعالم وللآخر المختلف سياسيا أو دينيا، فالعالم – في الرؤية الجديدة – ليس غابة بلا قانون، وأهله ليس كلهم صليبيين وصهاينة، بل هناك شعوب صديقة وأمم متحدة ومؤسسات دولية يرجع إليها ويطلب منها أن تقيم العدل وأن تكف – فقط – عن الكيل بمكيالين! ولا حديث عن صورية هذه المؤسسات أو كونها مؤسسات بيد الامبريالية العالمية والصهيونية وقوى الكفر المعادية للإسلام – كما كان الحديث من قبل

    حين وقعت أزمة الإساءة إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ تأخر التعاطي الإخواني” مع الحدث عن معظم بل ربما كل القوى الإسلامية، بل وغير الإسلامية الأخرى في مصر والعالم الإسلامي، ثم صدر في مجرد بيان قصير مختزل فيما لا يزيد عن ثلاثة أسطر، يتحدث فيه “المرشد” كما لو كان رئيسا لواحدة من جمعيات النفع العام، فيستنكر الإساءة إلى النبي الذي هو “رمز الأمة العربية والإسلامية”، مؤكدا على أن الإساءة إليه؛ “لا يقبلها أصحاب الأديان السماوية“!

    من يقرأ البيان سيختلط عليه الأمر فيما إذا كان “بيانا للمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين” أم لأحد الشيوخ الرسميين، خاصة وأنه يتكلم عن النبي كرمز للأمة العربية والإسلامية، ثم هو يحمي ظهره في موقفه هذا بأصحاب الأديان السماوية!

    لهجة البيان أقرب إلى البيانات الرسمية، تلتزم الهدوء والروية وتبتعد تماما عن الإثارة والتحريض، مكتفية بتسجيل موقف أكثر منها متطلبة لعمل يرد الإساءة، ثم هي تخلو تماما من أي إشارة إلى “المؤامرات” أو عداء “القوى الصليبية” أو “الصهيونيةو”الكفار” أعداء الإسلام ورسوله، بل وهي تستدعي أيضا تعاطف نصرة غير المسلمين.

    إن التغيرات التي طالت “الروح الإخوانية” تقول؛ إننا بإزاء حالة تحول عامة وشاملة تطاول “المشهد الإخواني” برمته، وهي – على اختلاف درجة ونوع التحول – نتيجة للمشاركة الكثيفة والموسعة في العمل السياسي والعمل العام طوال الثلاثة عقود الأخيرة التي تلت التأسيس الثاني لـ “جماعة الإخوان المسلمين“.

    الإخوان”؛ من الخلافة إلى الدولة الوطنية
    تحولات مشروع “الإخوان

    من يتابع “المشروع الإخواني” في السنوات الأخيرة؛ سيكتشف أنه شهد تحولا بالغ الأهمية، انتقل به من أفق الخلافة وإقامة الدولة الإسلامية العالمية إلى الاستيعاب كاملا في مشروع الدولة الوطنية القطرية الحديثة، التي بدا أنها استوعبت “المشروع الإخواني”، بعد أن ظل زمنا طويلا يسعى إلى تجاوزها.

    لن يجد الباحث – بالضرورة – مراجعة واضحة صريحة من قبل الجماعة لقضية الخلافة والدولة الإسلامية العالمية، أو موقفا واضحا صريحا في الشكل النهائي للدولة الإسلامية” التي يطمح إليها “الإخوان“.

    لكن مراجعة لتفاصيل العمل اليومي والآني وكثير من التصريحات المتناثرة لقادة الجماعة هنا وهناك؛ تقول – بلا لبس – أن “الرواية الكبرى” التي كانت تعيشها الجماعة وترفعها هدفا نهائيا لمشروعها؛ تفككت وتم تجاوزها تلقائيا ومن دون توقف للمراجعة أو حتى إعلان عن هذا التحول.

    ومن يتابع الخطاب و “المسلكية الإخوانية” سيلحظ بسهولة أن خطاب إقامة الدولة الإسلامية واستعادة الخلافة قد توارى تماما في السنوات الأخيرة، حتى صار لا يكاد يبين!

    يكفينا القول في هذا المقام؛ أن أهم الأدبيات “الإخوانية” التي صدرت في المسألة السياسية في السنوات الأخيرة أغفلت تماما – أو سقط منها – أي حديث أو إشارة لقضية إقامة دولة الخلافة الإسلامية، فالبيانات الرسمية للجماعة في السنوات الأخيرةبدءا من ولاية المأمون الهضيبي تقريبا – كانت أقرب إلى بيانات لحزب سياسي محلي منه إلى جماعة دينية عالمية، خاصة بعد احتدام جدل الإصلاح السياسي في البلاد.

    ومن يتابع حفلات الإفطار الرمضانية التي تنظمها الجماعة سنويا سيجد أن “المرشديبدو فيها أقرب إلى رجل الدولة منه إلى قيادة إسلامية عالمية، وأنها دائما ما تحلق في الأفق المحلي حضورا وجدلا ولا تبعد عنه إلى الشأن العربي الإسلامي إلا بشكل عام غير محدد، لا يختلف كثيرا عن مقاربة الأحزاب القومية.

    وإذا نظرنا إلى مبادرة الإصلاح التي أصدرتها الجماعة في شهر مارس من عام 2004، والتي يمكن النظر إليها باعتبارها أهم ورقة متكاملة طرحتها الحركة في السنوات الخمس الأخيرة، سنجد أنها خلت تماما من قضية الخلافة، وجاءت محلية بحتة، غارقة في قضايا وهموم الشأن المصري البحث.

    بل كانت المفارقة؛ أن أبرز التعديلات التي طالت المبادرة التي كانت تطويرا للبرنامج الانتخابي للجماعة عام 2000 هو إسقاط البعد الخارجي تماما، بما فيه القضيتين المركزيتين في العالم الإسلامي؛ فلسطين والعراق!

    وفي الانتخابات البرلمانية الأخيرة؛ 2005، أسقطت الجماعة تماما كل ما تعلق بقضية الخلافة، ليس على مستوى البرنامج السياسي فقط، بل وحتى على مستوى “الرمزية”، إذ خلت الدعاية الانتخابية من أي إشارة إلى دولة “الخلافة الإسلامية” أو حتى “الدولة الإسلامية“.

    وكانت مفارقة مدهشة أن قارب النجاة أو السفينة التي كانت محور الدعاية الإخوانية” في انتخابات 1987، التي كانت ترمز لـ “جماعة الإخوان” كقبطان يقود الأمة في معممات البحار، طرأ على شراعها التعديل، فلم يعد سداسيا كما كان يرمز إلى مراحل “المشروع الإخواني” الست، كما صاغها المرشد المؤسس الإمام حسن البنا – وهي؛ بناء الفرد المسلم، فالأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، فالحكومة الإسلامية، فالدولة الإسلامية، فالخلافة الإسلامية وأستاذية العالم

    لقد جرى تعديلها لتصبح رباعية، وأسقطت منها خطوتا إقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة الإسلامية!

    لقد أدى الدخول الكثيف حد الاستغراق في العمل السياسي وما يتعلق به من عمل عام إلى تماهي “المشروع الإخواني” في حدود الدولة الوطنية التي صارت منتهى سعي “المشروع الإخواني” الذي بدأ منذ تأسيسه عالميا.

    وقد أدى الاستغراق في العمل السياسي وتفصيلاته إلى أن يغلب على “المشروع الإخواني” الاهتمام بالقضايا الداخلية المحلية، وأن تصير مفرداته وموضوعاته محلية بحتة في الأكثر الأعم، وصار الخطاب الإخواني أقرب إلى خطاب الأحزاب أو الجماعات الوطنية المحلية منه إلى الجماعات ذات المشروعات العالمية، ومن ثم توارت بهدوء قضايا الخلافة الإسلامية وكل ما يتصل بالمشروع العالمي.

    لم يعد هناك حديث “إخواني” عن الدولة الإسلامية، بل صارت تظهر تسميات جديدة بعضها مراوغ – أحيانا – في حسن التخلص من “أزمة” الدولة الإسلامية، فصارت هناك مقاربات جديدة عن “دولة المسلمين” ثم “الدولة الآذنة بالإسلام” إلى “الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية” التي يطرحها جيل الوسط داخل الجماعة على لسان أبرز رموزه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح – عضو “مكتب الإرشاد” -!

    لقد قطع “الإخوان” شوطا كبيرا في قضية الانتقال من التصور الديني لشكل الدولة إلى تصور مدني، وتجاوزوا في هذا الانتقال خطاب الأزهر الشريف والمؤسسة الدينية الرسمية.

    وما قدمه “الإخوان” في قضية المواطنة يبدو بالغ الدلالة، إذ تبنوا التأسيس الشرعي لها متقدمين على الخطاب الديني الرسمي السائد حتى في الأزهر الشريف – رمز الاعتدال والوسطية

    وشهدت السنة الأخيرة التي احتدم فيها جدل الإصلاح في مصر؛ تصريحات من قيادات إخوانية نافذة – خاصة من جيل الوسط – تعلن القبول بالمواطنة الكاملة حتى لو انتهت برئيس غير مسلم، إذا ما جاءت بها صناديق الانتخابات.

    وهو تصريح يصعب أن يصدر عن الحزب الحاكم – الحزب الوطني الديمقراطي – أو المؤسسات الدينية الرسمية – الأزهر الشريف – بل ولم يجد بعض قادة “الإخوان” – مثل الدكتور عصام العريان – حرجا في القبول بتأسيس حزب مسيحي، وهو إعلان لم يسبق إليه تيار سياسي أو ديني معتبر في الحياة السياسية بمصر، حتى داخل الكنيسة نفسها، بل وهو أقرب إلى أن يكون خروجا عن المستقر والسائد في مصر.

    إن مراجعة سريعة في مواقف “الإخوان” من القضايا السياسية والاقتصادية الاجتماعية في مصر تقول؛ إن الجماعة صارت أقرب إلى حزب وطني قطري، بل وحزب يميني ذي توجهات ليبرالية في المسالة الاجتماعية الاقتصادية، حيث القبول أو عدم الممانعة للتحولات التي طالت البلاد باتجاه إقرار سياسيات التحول الاقتصادي نحو تبني اقتصاد السوق القائم على الخصخصة وإعادة الهيكلة وحرية التجارة وانسحاب الدولة.

    وربما اقتصر اختلاف الطرح “الإخواني” في هذه القضايا على الإضافات الأخلاقية دون أي اختلافات جذرية، حيث ما زالت المسألة الأخلاقية تلقى اهتماما “إخوانيا”، دائما ما نراه في التشديد على محاربة العري والتحلل الأخلاقي والتأكيد على ضرورة التزام وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والفنية والنخبة المثقفة بأخلاق المجتمع وتقاليده.

    إنه التزام بأخلاقية لا تضمر بالضرورة طرحا مغايرا عن السائد، بل هي أخلاقية لم يعد يختلف فيها “الإخوان” كثيرا عن المجتمع المصري الذي تكونت لديه – في السنوات الأخيرة خاصة – حساسية في المسائل الأخلاقية، لا يكاد يستثني منها شريحة من شرائحه، بل صارت موضوعا للمزايدة حتى من قطاعات كانت بعيدة تقليديا عن هذه المساحة.

    سنلحظ ذلك في أزمة مصادرة الروايات الثلاث التي تتضمن “خروجا” أخلاقيا التي صدرت عن وزارة الثقافة، فبالرغم من أن أحد نواب “الإخوان” في البرلمان هو من فجر القضية إلا أنه لم يطالب بالمصادرة، بل بألا تصدر بأموال دافعي الضرائب، فإذا بقيادة الحزب الحاكم تصعد القضية إلى الدعوة للمصادرة، فتفاجئ وزارة الثقافة الجميع بسحب الروايات وإقالة المسؤولين عن نشرها دفاعا عن الأخلاق والقيم والدين الإسلامي!

    تحولات قواعد الإخوان
    تحولات مشروع “الإخوان

    كانت حركة التحولات التي شهدها “الإخوان المسلمون” جد جذرية – خاصة في مصر معقل الإخوان” ومشهد ولادتهم

    ومثلما تغير “المشروع الإخواني” من الخلافة الإسلامية إلى الدولة الوطنية، وتغير إطاره التنظيمي، من التنظيم الشامل إلى تنظيم يعكس الخصوصية “الإخوانية”؛ تغيرت قواعد “الإخوان المسلمين“.

    لم يعد “المناضل الإخواني” هو نفس “المناضل” ذي التكوين الأيدلوجي المغلق، أو ابن “الثقافة الإخوانية النقية“.

    لقد انفتحت هذه القواعد على مراجع ثقافية وفكرية، بل وشرعية مختلفة بما يستدعي النظر في أسطورة “النقاء الإخواني” التي ظلت مهيمنة.

    في حقبة السبعينيات إلى نهاية الثمانينيات؛ كانت تروج في القواعد “الإخوانيةمقولة الشهيد سيد قطب: (جيل قرآني فريد)، التي كانت عنوانا لأحد فصول كتابه “معالم في الطريق“.

    كان لهذه المقولة فعل السحر في سعي قيادات الجماعة وكوادرها إلى الوصول لنموذج الوحدة الفكرية التي تؤسس للقاعدة “النقية” في منطلقاتها الشرعية وتأسيسها الفكري وفي معاملاتها، بل وفي صورتها وهيئتها، أو ما كان يعرف بـ “الهدي الظاهر“.

    وكلها كانت تتحالف على بناء “مناضل إخواني نقي” و “مختلف” عن أقرانه وزملائه في بيئته.

    غير أن تحولات كثيرة – خاصة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي – جعلت هذه المقولة أقرب إلى أحلام الرومانسية أو – في أفضل الأحوال- إلى ذكرى جميلة من مرحلة البراءة” التي يحن إليها “المناضل الإخواني” ويجترها في حديث الذكريات، دون أن يلتزم بالسعي إلى تحقيقها.

    حلت بدلا منها مقولات أخرى تعكس الرغبة في الانفتاح وتنوع الأفكار والمراجع دون النظر إلى التمييز أو المفاصلة الفكرية والعقدية الحادة التي كانت تسم هذا المناضل.

    انفتح “الكادر” الإخواني على الدنيا، بعد أن فتحت أبوابها أمامه، ولم تعد مقولات النقاوة والمفاصلة تناسبه، وربما حل بديلا عن مقولة “قطب” في الوعي “الإخوانيمقولات أخرى، دينية أيضا، لكنها تعكس هذه الرغبة في الخروج من أسر “النقاوة”، والكف عن رؤية العالم من “ثقب الأيدلوجيا”، فتوارت من خطابه ووعيه مقولة “قطب” لتفسح الطريق لآثار أخرى مثل؛ “اطلبوا العلم ولو في الصين”، و “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها“.

    الكادر “الإخواني” يقرأ في التراث الإسلامي أقل مما يقرأ في شؤون الحياة، وتزخر مكتبته بمجموعات “ستيفن كوفي” في علم الإدارة وروايات “باولو كويلو”، ولا يشعر بحرج أن يقتبس في إحالاته إلى فلاسفة ومفكرين غربيين وغير مسلمين، بل وربما رآها عنوانا للثقافة والتميز، على خلاف ما كان عليه أسلافه في جيل السبعينيات.

    وهو ينفق جزءا لا باس من تفكيره في الإجابة عن سؤال؛ أين وكيف يقضي عطلة الصيف؟ يذهب إلى السينما ويتناقش في آخر ما شاهده من أفلامها، ويقتني الأطباق اللاقطةوإن سعى في بعض الأحيان لتشفير القنوات الإباحية – لكنه فيما عدا ما يجرح الأخلاق مقبل على المتعة والترفيه، خاصة مباريات كرة القدم التي لم يعد يختلف “المناضل الإخواني” في حبها ومتابعتها والاهتمام بها عن بقية أفراد الشعب المصري الذي يذوب فيها عشقا.

    لقد كف “المناضلون الإخوان” عن التهكم على “الولع” المصري بكرة القدم، ولم يعودوا يرونها مظهرا للخفة أو مضيعة للوقت أو وجها من وجوه الانصراف عن قضايا الأمة كما كانت نظرتهم من قبل

    لقد أدان نواب “الإخوان” في البرلمان – مثل غيرهم – تشفير “مباريات كاس الأمم الأفريقية” الأخيرة وحرمان الشعب المصري من متعة مشاهدتها، وشاركوا غيرهم من السياسيين في نصب شاشات العرض في الساحات الكبرى، لتشاهد الجماهير المصرية المباريات مجانا! وحين فاز المنتخب المصري بالبطولة؛ سارع رئيس الكتلة “الإخوانيةفي البرلمان إلى إصدار بيان تهنئة بالفوز، ولم تمض عليه ساعات حتى اصدر “المرشد العام” – في سابقة هي الأولى- بيانا رسميا للتهنئة بالإنجاز القومي الذي حققه اللاعبون المصريون!

    انفتاح الكادر “الإخواني” ودخوله في تفصيلات الحياة ومعاركها جعله أقرب إلى العادية”، وانتزعه، أو انتزع منه روح الاستعلاء والتفرد والإحساس المبالغ فيه بالرسالية التي تجعله مختلفا، بل ومميزا في سلوكه وأفكاره وطريقته في الحياة.

    فهو دخل في فضاء العمل العام وما يستدعيه من علاقات ومشاعر وعواطف وما استلزمهبالضرورة – من الوقوع في الأخطاء، مثل بعض وقائع الفساد المالي والإداري، بل والأخلاقي التي نسبت لكوادر “إخوانية” – خاصة في تجربة إدارة العمل النقابي – وهو ما رفع عنه هالة القداسة وقربه من غيره من كوادر الحركات السياسية والاجتماعية الأخرى.

    لقد بدأنا نرى ونسمع عن “القيادي الإخواني” الذي توجه إليه تهم التحرش بموظفات عنده – رغم عدم التيقن من صحتها، وغلبة الظن بكونها جزءا من خصومات سياسية – وعن القيادي الإخواني” البارز الذي يقع ابنه في حب فتاة عصرية في ملبسها ورؤيتها من خريجات الجامعة الأميركية ويتقدم لزواجها، رغم أن والدها “الفنان عادل إمام” هو أكثر فناني مصر هجوما على التيار الإسلامي وسخرية منه في أعماله التي تزيد فيها جرعة الإثارة والجنس! ثم لا يمانع والده في ذلك، بل يحشد للمناسبة قيادات الجماعة وعلى رأسها “المرشد العام“!

    وزاد من تحولات الكادر الإخواني المنفتح نحو “العادية”؛ طبيعة الخطاب “الإخوانيالذي غلب عليه الحرص على عدم الدخول في التفصيلات، بما أدى إلى تعدد الخطابات والاتجاهات إلى حد التناقض تحت مظلة الجماعة الواحدة، فصرنا بإزاء “جماعات الإخوانوليس جماعة واحدة، مهما قيل عن الوحدة الفكرية الجامعة، فهناك رؤى إخوانية تتعدد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تتفاوت رؤيتها السياسية ما بين الاندراج في حزب سياسي قطري يدعم دولة عصرية، وما بين أفكار ما زالت تستدعي صورة غائمة لدولة الخلافة الإسلامية العالمية، كما تتجاور فيها مقولات أهل الذمة مع قاعدة “المواطنة” دون حسم أو تمييز.

    ويصعب دائما تحقيق الفرز وتنعدم الرغبة فيه مع استمرار تمسك الجماعة في خطابها بتقديم نفسها كعباءة تتسع لكل العاملين بالإسلام، مع تحديد سقف واسع يحكم الجميع، وهو مبدأ السمع والطاعة لقيادتها مع نبذ العنف منهجا.

    لذا نجد بين كوادر التنظيم؛ “أزهريين” و “أنصار سنة” وجمعية شرعية وتيارا سلفيا وجهاديين سابقين وسياسيين بدأوا في أحزاب سياسية أخرى، وقطاعات من العمال والفلاحين تنحصر علاقتها بالجماعة في كونها الإطار أو الصلة التي تربطها بالله!

    ثم جاءت التطورات التي أوجدت ظواهر جديدة في حقل التدين، مثل “المفكرين الإسلاميين المستقلين” و “الدعاة الجدد”، لتنهي أي حديث عن النقاوة الأيدلوجية في القاعدة “الإخوانية”، فمع تراجع دور المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، صار تأثير الخارج – ثقافيا وفكريا – في “الداخل الإخواني” أكبر بكثير، وذلك عبر ظاهرة الدعاة الجدد، وقبلها المفكرون الإسلاميون المستقلون، التي تعكس حجم تأثر الصف الإخواني – بدلا من تأثيره – بمقولات وأفكار لم تنتجها الجماعة، وإنما جاءت من مفكرين ودعاة من خارجها.