يمثل جسم الإنسان انعكاسا للصورة الواقعية والفعلية لمقدار ما تحويه نفسه من اعتلال نفسي أو ذهني، فالجسد المسترخي المتألق بصحته وعطائه يعكس حالة نفسية
نور الدين الخضراوي مستشار نفسي وأسري –
يمثل جسم الإنسان انعكاسا للصورة الواقعية والفعلية لمقدار ما تحويه نفسه من اعتلال نفسي أو ذهني، فالجسد المسترخي المتألق بصحته وعطائه يعكس حالة نفسية صحيحة نسبياً، وفي المقابل فإن الجسد المتهالك المنهك قد يعكس حالة نفسية غير صحيحة وغير معتدلة نسبياً.
وتتعدد وتختلف الشكاوى الجسدية التي تصل في كثير من الأحيان لدرجة المرض العضوي مع تغيب الأسباب الطبية لها، وهنا يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم سؤال مباشر: ما الأسباب المجهولة وراء ذلك؟
إن مواقف الحياة التي تمر على الإنسان تحمل في طياتها قائمة من الصدمات المتفاوتة بين أسرية وعاطفية وشخصية ولكل موقف حالة مزاجية تتزامن معه ولكل شخص أسلوب يستخدمه للتعبير عن تأثره بتلك المواقف والأحداث. فالبعض يتمثل الإيجابية والبعض يستسلم والبعض يخفق في إدارة انفعالاته وردود أفعاله للحد الذي يخلق في ذاته مقاومة مرضية للتعامل مع تلك الصدمات والمواقف وليس مواجهتها أو ضبطها.
ويأتي الجسد ليقوم بمهمة مشاركة النفس والذهن في الألم والمعاناة كوسيلة مساعدة للتخفيف من حدة معاناة الألم النفسي، وتكمن الخطورة في عدم تفهم المريض لطبيعة هذه الأعراض الجسدية والتنقل بين الأطباء والعيادات الطبية مما قد يعرضه لخطأ التشخيص والعلاج، إنه يبحث عن سبب عضوي غير موجود إلا في صورة أعراض جسدية لا حقيقة طبية لوجودها.
إن ظهور الأمراض (النفس جسمية) هو نتيجة طبيعية للتفاعل المحتمل بين النفس والعقل والجسد، وتعتبر منطقة (الهيبوثلاموس) جهاز استقبال وإرسال يستقبل الشحنات الانفعالية من النفس ثم يرسلها إلى أجهزة الجسم المختلفة ليعبر عنها كل شخص بطريقته التي تحاكي شخصيته.
وعملية الإرسال هذه تتم من خلال أساس الجهاز العصبي اللاإرادي بفرعيه: السيمبثاوي والباراسيمبثاوي.
إن الانفعال هو شعور داخلي مثل الحزن أو التوتر أو الغضب ولكن يتم التعبير عنه بصورة خارجية كالبكاء والصراخ وأحياناً الألم وتلك هي آلية ظهور الأمراض (النفس جسمية)أوما تعرف عياديا بــ الاضطـرابات السيكوسوماتية، ومع ذلك لا يجب المبالغة في النظر لكل الأعراض الجسدية والأمراض العضوية على أنها نفسية المنشأ، فهناك تشخيصات عيادية فارقة تحدد دقة التقييم.
إن أسلوب الحياة الذي يتبعه كل شخص يكشف عن مستوى نضجه أو إخفاقه في التعامل مع الأزمات والصدمات، ويعتبر سوء التكيف والتجاوب مع الصراعات الانفعالية سبب قوي لظهور الأعراض المرضية الجسدية ذات المنشأ النفسي.
وقد تظهر الأمراض النفسية الجسمية ((Somatoform Disorders)) بصورة أمراض تتمثل في اعتلال الجهاز الهضمي أو ارتفاع ضغط الدم أو الذبحة الصدرية أو تقرّح القولون والتهاب المفاصل أو آلم متفرقة في الظهر، كما يعتبر الصداع أحد الأعراض الجسدية التي تأتي كتعبير عن القلق أو التوتر النفسي كنوع من التعبير البدني عن شدة الصراع.
ويستخدم البعض الأعراض الجسدية كحيلة دفاعية للهروب من موقف يسبب له الانزعاج كمن يشعر بالصداع الشديد ليجد حجة الاعتذار من لقاء أو اجتماع يسبب له الخجل أو الإحراج، وكذلك عندما يشتكي البعض من ألم الظهر المتكرر للهروب من عبء عمل يجد فيه المشقة والجهد، ولا يعني ذلك الإدعاء أو الكذب بل هو نوع من التوهم الذي يشعره الفرد حقيقة ليتخلص من موقف يفوق قدرته على التكيف أو المواجهة.
وقد كشفت بعض الدراسات إضافة للملاحظات الإكلينيكية (العيادية) عن ظهور الأعراض الجسمية ذات المنشأ النفسي لدى شخصيات أكثر من غيرها. ومنها الشخصية القلقة، حيث تتسم تلك الشخصية بدرجة عالية ومستمرة من القلق الذي يمتد ليشمل النواحي الجسدية فيبدأ الشخص في هذه الحالة بتضخيم الأعراض البدنية وتهويل الشعور بها للحد الذي يزيد من حدة المشاكل الصحية والتي تحتد بالخوف المبالغ به وغير المنطقي على الصحة.
كذلك الشخصية ذات الطابع الهستيري، وفي الغالب تعبر مثل هذه الشخصيات عن أعراضها النفسية بأشكال من التحول الهستيري. مما يعرضها للإغماء الهستيري أو القيء أو الآلام المتفرقة في الجسد.
وقد تظهر الأعراض الجسدية كأعراض مصاحبة لبعض الاضطرابات النفسية مثل الخوف الاجتماعي حيث يصاب الإنسان بالتعرق والرجفة والصداع، وكذلك اضطراب الوسواس القهري حيث تظهر في بعض الحالات تقلصات وأمراض في الجهاز الهضمي للإنسان، وهذه على سبيل المثال لا الحصر، فقد تمتد التوترات الجسدية لأكثر من ذلك في بعض الحالات.
إن استمرارية الاضطراب النفسي يؤدي إلى تغيرات في وظائف الأعضاء، وقد يكون ذلك أمراً عارضا في البداية إلا أنه مع الوقت قد يتحول إلى عرض مزمن ومتكرر ومزعج ومسيطر.
وتختلف أساليب علاج الأمراض (النفس جسمية) باختلاف السبب والاضطراب النفسي الكامن خلف ظهورها، ولكن يعتمد العلاج في العموم على منح المريض مساحة للتفريغ والتنفيس الانفعالي عن صراعاته ومكبوتاته، حيث تلعب سرعة الاستثارة دورا في ظهور الأعراض النفس جسمية، لذلك يعتبر التفريغ والتنفيس الانفعالي بمثابة تحويل إيجابي لمسار الاستثارة، كما تفيد تمارين الاسترخاء مع الحالات التي لديها قابلية للاستجابة في تحسين الأعراض الجسدية النفسية عن طريق إرخاء العضلات وإزالة التوتر بشكل تدريجي، إن عملية التحكم في الانفعالات هو الأساس الجوهري للعلاج ولا يتم ذلك إلا من خلال التحكم في درجات التوتر والقلق للسيطرة على الأعراض سواء كانت نفسية أو جسدية.