بشرى والقارئاتاليوم صدر كتاب أمي كاملة عقل ودينعن دار الوطن بالرباط في المملكة المغربيةنقتبس الفقرات التالية من مقدمة الكتاب ليكون القارئ فكرة سريعة
بشرى والقارئات
اليوم صدر كتاب أمي كاملة عقل ودين
عن دار الوطن بالرباط في المملكة المغربية
نقتبس الفقرات التالية من مقدمة الكتاب ليكون القارئ فكرة سريعة عن الكتاب.
حجم الكتاب:17/24 (القطع الكبير) عدد الصفحات 568
يهم الكتاب المتخصصين والباحثين والأمة بكاملها..
إنه كتاب القرن بامتياز.
أحجز نسختك الآن مباشرة من دار الوطن/ الكتاب سيوزع قريبا في كافة أنحاء المملكة.
للتواصل:212673420256
مقتطفات من أحد فصول الكتاب
“الحديث” في العصر الذهبي
يلاحِظُ القارئ مِن الوهلة الأولى أنه يسمع مصطلحا جديدا يصِف عصرَ النبي بالعصر الذهبي. هكذا تُصنَع المصطلحات لتعبِّر عن فكرة مبتكرة، ربما يستاء منها البعض وربما يستحسنها البعض. بعامل الزمن يعتاد عليها الجميع فتصبح مِن الثوابت ثم تدخل كُتُبَ التاريخ فتصبح مِن إبداعات السلف، ثم يتم تقديسُها يوما ما. هكذا أصلا تُصنَع الأديان.
الحقيقةُ أنني احتجتُ لابتكارِ المصطلح لأني أقدِّم فكرةً جديدة، فلا بد لها من اسم مبتكَر. وأقصِد بالعصر الذهبي الفترةَ التي امتدت منذ بداية الوحي إلى موت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو آخِر الخلفاء الراشدين قبل أن يتحول أمر المسلمين إلى مُلك بني أمية. وهذا العصر اتَّسَم بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابَه لم يكونوا في كُتُب التاريخ بعد، وإنما كانوا هُم المجتمع المسلِم نفسه.
وحتي ندخل في الموضوع مدخلا سلِسا يُستَحسن أن ننظر في مادة “الحديث” و”السُّنّة” مِن نواحٍ لُغوية أولا، ثم نرى كيف تعامَل معها القرءانُ الكريم.
“الحديث” في اللغة:
اللغةُ العربية مِن أقدم اللغات التي نَطق بها الإنسان، وربما هي أقربُها على الإطلاق للفطرة والطبيعة، إذ إن الكلماتِ فيها تَكتسِب مدلولَها ليس مِن معناها في القاموس الذي وضِع لاحقا للتيسير، وإنما مِن عدد الحروف ونوعِ الحروف التي تتكون منها الكلمة وترتيبها. فالحروفُ الحلْقية لها مدلولات، والحروف اللسانية لها مدلولات، والحروف الهوائية لها مدلولات وهكذا. وتُجمَع الحروفُ التي نشأت مِن الطبيعة أولا بترتيبٍ أو نسق محدد يرتبط بمفاهيمَ محددةٍ كلها تشترك في المدلول الطبيعي الذي أدَّى إلى ترتيبها لتتكون الكلمات. عِلم اللسانيات عِلمٌ مستقِل وبحرٌ عميق تعرَّض للجمود كما تعرضت كل العلوم المرتبِطة بالتراث الإسلامي لكن هذا ليس مجاله هنا الآن.
ما أودُّ الوصولَ إليه هو أن لفظَ “حديث” له مدلولاتٌ كثيرة وأبعادٌ جد خطيرة على الصعيد العقيدي والسياسي الذي نسلِّط عليه بعضَ الضوء في هذه العجالة. لنراجع مدلولَ اللفظِ أولا في المعاجم:
حديث: الحاء والدال والثاء أصلٌ واحد، وهو كونُ الشيء لم يكُنْ. يقال حَدَثَ أمرٌ بَعْد أن لم يكُن. والرجُل الحَدَثُ: الطريُّ السّن. والحديثُ مِنْ هذا؛ لأنّه كلامٌ يحْدُثُ منه الشيءُ بعدَ الشيء. (معجم مقاييس اللغة)
الحديثُ: نقيض القديم. والحديثُ الخبرُ، يأتي على القليل والكثير، ويُجمَعُ على أحاديثَ على غير قياس. قال الفرَّاء: نُرَى أنّ واحدَ الأحاديثِ أُحْدوثَةٌ، ثم جعلوه جمعاً للحديث. (الصحاح في اللغة).
المتعارَف عليه ، والشائع بين الناس هو أن لفظ “حديث” يعني إمّا “جديد”: بمعنى عكس قديم، أو “كلام”: حَدَّث يُحدِّثُ حديثا، ومنه يَفهم عامةُ الناس أن حديثَ الرسول صلى الله عليه وسلم هو “كلامه”، لكنَّ الواقعَ أعمقُ مِن هذه السطحية. وحتى أُسهِّل فَهْمَ ما أَرمي إليه أقارِنُ بين لفظ “جديد” و “حديث”:
لفظ “جديـد” يتكون مِن شِقين : “جد” و “يـد”:
“جد” تُرجِع المعنى للماضي ” الأجداد”… و”يد” تفيد القوة الممتدة.
إذاً “الجديد” هو شئ “قديم” تم امتداده للمستقبل، لكنه يحتفظ بصفة القديم “الأجداد”. لذلك فحينما نتحدث عن تجديد جواز السفر أو بطاقة الهوية إنما نعني استرجاعَ صلاحيتِها القديمة.
مِن ناحية أخرى فلفظ “حديث” يتكون أيضا مِن لفظٍ معلوم وحروفٍ لها مدلولاتُها: “حد” يـفيد أقصى ما يمكن الوصولُ إليه بالخيال… و”الياء” تفيد الإمعانَ في المد والنمو الذاتي، بينما حرف “الثاء” هو حرف الانبثاق.
إذاً “الحديث” هو الشئ غير المسبوق ، يقوم على فكرة مبتكَرة مستحدَثة بأقصى حد للخيال، ولديه قابلية الانبثاق والانتشار مستقبَلا.
فأنت يمكن أن تصنع سيارة موديل 1900 “جديدة” الصنع، لكنها لن تكون “حديثة” الفكرة. أيضا فإن المولودَ يسمى طفلا “حديثَ الولادة” وليس “جديد الولادة”، لأنه حدثٌ مرتبط بالمستقبَل وليس بالماضي. والأطفال يُسمَّون “أحداثا” لطراوتهم، ولأنهم يحملون روحَ المستقبل والانبثاق فيه، على عكس “الأجداد” الذين أصبحوا في زمرة القديم.
مِن هنا كان لفظ “حديث” بمعنى كلام يفيد فكرةً مبتكَرة فيها خاصية الانبثاق، ويستمر تناقلها وانتشارها مستقبَلا.
لاحِظْ: ليستوفي الكلامُ صفةَ “الحديث” لا بد أن يكون حديث اليوم ولكل يوم حديثه، لأن الكلامَ “المستحدَث” اليوم الذي هو حديث، سيصبح قديما غدا، فتَسقط عنه صفة الحداثة. وعليه فإن دوامَ “الحداثة” في المحتوى الفكري لأي كلام لا يمكن أن يكون إلا مع كلام الله تعالى.
لقدْ حاولنا جهدا بسيطا فَهْم مدلول “الحور العين” في الباب الثاني “ملكة النحل”، لكن لأن الفكرةَ ليست إلا حدثا سيقع ليس في مستقبل الأيام في هذه الدنيا وإنما في الآخرة بعد أن تُبَدَّل الأرضُ غير الأرض والسموات، فإن العقل اليوم لا يمكنه استيعاب أحداث الغد مهما وصفت له. وعليه فإنه حتى يوم القيامة سيكون القرءان حديثا جدا يشرح لنا واقعَ ذلك العالم. وإنْ كانت تلك الكلمات بين أيدينا الآن فإننا نحتاج لعقل الغد ونحتاج للخروج من محورَي الزمان والمكان والوصول للآخرة حتي نفهم حداثة القرءان في ذلك الزمان القادم رغم أن القرءان بين أيدينا الآن.
“الحديث” في القرءان:
من هذه السياحة الفكرية المختصرة فى أصول الكلام ومدلولات الحروف نفهم أن القرءان ليس كلامَ اللهِ كما نفهم الكلامَ في الماضي والحاضر والمستقبل، وإنما سمّاه الله تعالى “حديثا” لأنه سابق لكل الأزمان ويحمل مضمونَ “الحداثة” كلما أشرقت شمس لا يصيبه القِدَم ولا يسبقه حديث. مِن هذا المدخل يمكننا أن نتدبر بعض الآيات التي احتكرت لفظ “الحديث” للقرءان فقط، لكن حتي تتضح المقارنة في دقة اللفظ، أبدأ بوصف الله تعالى لكلامه مع موسى بالكلام وليس الحديث:
{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} النساء
{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)} الاعراف
فالكلام حديث حين حدوثه. لكن كلام الله مع كل الرسل وصف بالكلام لأنه محكوم بالإطار الزمني، و لم يحمل صفة ديمومة الحداثة إلا القرءان وحدَه كما في هذه الآيات:
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} الأعراف.
لاحِظْ أن المحتوى الفكري لهذه الآية لا يرتبط بزمن محدد. فالنظر إلى ملكوت السموات والأرض وخلْق الله حدثٌ مستمرٌ إلى يوم القيامة، وكل يوم يحدث فيه اكتشاف حديث لم يعلمه الأولون، لذلك فالتنبيه لاقتراب الأجل ليس تنبيها لمن ماتوا وزالوا، وإنما هو حديث الحي الذي لا يموت لمن يقرأ الآية في أي زمن من الأزمان. وهكذا نجد أن الله تعالى يحتكر صفة الحداثة للقرءان وحدَه:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} الكهف.
إضفاء صفة “الحديث” على قصص القرءان تعني أن بين طياتها علما حديثا سيكتشفه الناس في كل زمن مستقبلي فيكون حديثا لهم وليس كلاما من الماضي.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)} الاحزاب.
هنا نلاحظ أن لفظ “حديث” والذي يشير لِما كان يدور من كلام في بيوت النبي كان حديثا حينها، لكنه انحصر في إطار زمان ومكان محدد ببيوت النبي، وعليه فقدْ كان حديثا حين الحدث وما عاد حديثا اليوم، وإنما تاريخ وسيرة. وعليه فإننا نأخذ من هذه الآية المعلومة التاريخية فقط لكن الأحكام فيها لا تنطبق علينا لأننا لسنا جزءا من مجتمع النبي. لكن ما زالت الآية حديثا وفيها مفاجآت حديثة جدا، أترك التعليق عليها الآن وهي أمامك، لكن سنكتشف فيها أفكارا حديثا أكثر من مرة في هذا الكتاب. وعليه فالقرءان بصورته المطلقة هو حديث لا يصيبه القِدَم:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} الزمر.
الآية أعلاه آية سيادية ملكوتية قدسية تحتكر لفظ “حديث” على القرءان وحدَه، ولا يمكن لقول البَشر أن يكون نِدا للقرءان في ديمومة الحداثة معه.
{تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} الجاثية.
لاحِظِ النبرةَ الحاسمة السيادية في احتكار لفظ “حديث” لله وآياته، التي تحذر من الإيمان بأي حديث غيره. لا بد من التذكير بأن لفظ آية لا يقتصر بالضرورة على الألفاظ في الآية ، وإنما على المحتوى الفكري الذي يهدي إلى الله ويمثل دليلا على وجود الله وأن هذا كتابه، وقد ناقشنا ذلك في باب “علوم القرءان”.
{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)} الطور.
هنا لا تدع لنا الآيةُ مجالا للشك أن لفظ الحديث في القرءان هو القرءان نفسه. فالتحدي هنا أن يأتوا بـ “حديث” مثل القرءان، وهذا محال لأن أي كلام مهما كان حديثا اليوم سيصبح قديما غدا إلا كلام الحي الذي لا يموت.
ولعل المتدبرين لكتاب الله يلاحظون بين الفينة والأخرى أنهم فجأة سيلتفتون إلى معنىً حديثٍ لآية قرأوها عشرات أو مئات المرات من قبل لكنهم يستشعرون رعشة وهُم يطالعونها وكأنها كُتِبت اليوم فقط. ولعلّ محتوى “نظرية آذان الأنعام في الخلق والتطور” خيرُ دليلٍ على هذه الحداثة، إذ إن الألفاظ هي نفسها الألفاظ لكن ما كان للسلف أن يفهموا منها إلا “أذنيها” لأن الآية 119 من سورة النساء لم تكن تخص مَن سبقنا فلما جاء زمانها أصبحت مرئية لنا وللملايين الذين أصابتهم الدهشة معنا، وكأنها أحدثُ ما كُتِب في القرءان. بل من معجزات القرءان لمن يؤمنون به، ومِن تحدياته لمن لا يؤمنون بمصدره الإلهي، أنه يتحدث عن المستقبل بصيغة الماضي. فلا مستقبل ينتظر عند الله، إذ إن كل ما سيحدث معلوم له، لذلك سيكون حديثا علينا لكنه في علم الله حدث مضى وانتهي ولا تبديل لكلماته، مثلا:
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} المائدة
من هنا يمكننا استيعاب التحدي في قول الله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)} الطور. هل تستطيع أن تكتب سيناريو لقصة ستحدث سنة 3500؟ فالحوار أعلاه بين الله وعيسى والذي أتي بصيغة الماضي سيحدث يوم القيامة بلا شك وسيكون حديثا حينها لكن من المحال لكلام البشر اليوم أن يكون حديثا غدا.
إذاً : ” فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ” لا تعني أنْ تأتي ببعض الترانيم التي أتي بها أمثال مسيلمة : “الفيل وما أدراك ما الفيل، كرشه كبير وذيله قصير”…. وإنما أن تأتي بكلام ثقة وحق عن المستقبل ويكون حينما يأتي المستقبل حديثا أي سبق الزمان في توثيق الحدث. إنه التحدي الذي لا يطرحه إلا الله وما زال قائما.
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} النجم. الحديث هنا هو القرءان وليس غيره. وتمضي الآيات تؤكد أن “الحديث” هو القرءان وحده:
{إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)} الواقعة
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} القلم.
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} النساء.
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} النساء.
فيما سبق ورد اللفظ ليصف الكلامَ المكتوب والمقروء في القرءان أنه هو الحديث ولا حديث غيره. أمّا الآية التالية فتصف الطبيعةَ الذاتية للخطاب القرءاني أنه دائم الحداثة:
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)} الأنبياء.
فالآية أعلاه تصف حداثة الذِّكْر الذي أنزله الله، لكن لمّا كان الذِّكْرُ حديثا محدثا في كل الأزمان فإن معناه ينطبق عليهم وعلينا وعلى مَن بعدنا ولا ينطبق مفهوم “ديمومة الحداثة” إلا مع كتاب الله وآياته.
على عكس ذلك نجد لفظ ” جديد” يرتبط بما ذهبنا إليه وهو إعادة القديم في ثوب جديد:
{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)} السجدة.
لقد رأينا في باب “خير القرون” أن هناك تمييزا كبيرا بين الخطاب النبوي والخطاب الرسالي في القرءان حين الإشارة لشخص محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بـ ” يا أيها النبي أو “يا أيها الرسول”، فالنبي كان بَشرا يأكل الطعامَ ويمشي في الأسواق ويتفاعل مع قومه في حياتهم اليومية كعامة البشر. وكان فوق ذلك الفقيه الذي يستنبط الأحكامَ الشرعية مما أُنزِل إليه في القرءان، وكان الحاكمَ الذي ينفذ السياسة الشرعية ويصرِّف شؤون المجتمع، وكان القائدَ العسكري بقدْر ما كان الزوجَ والأب في بيته. وعليه فإن ما كان يصدر عنه من كلام وأفعال لم يكن يُطلَق عليه لفظ “حديث” حيث لا يستقيم اللفظ منطقا ولا عقلا إلا بمقدار ما كان يُطلَق على كلام كل البشر مسلِمهم وكافرِهم أنه “حدَّثَني” بمعنى قال لي. وكل حديث في يوم يصبح كلاما قديما غدا.
هنا نحتاج لمقارنة تعيد لنا ترتيبَ الأفكار التي تم التلاعب بها قرونا طويلة. فقدْ رأينا في باب : ” في الطريق إلى دمشق” أنه بعد أن تمت صناعة الدين المسيحي الذي يرتكز على حياة المسيح عليه السلام كمخلِّصٍ للبشرية وابنِ لله، فقد أطلق مصطلح “العهد الجديد” في الكتاب المقدس ليشمل التراث المسيحي بما فيه الأناجيل المعتمدة ورسائل القساوسة مِن بعد عيسى. بمجرد تسمية تلك المرحلة بـ “العهد الجديد” والتي تعني عهدَ اللهِ الجديد مع الإنسانية، أصبح التراث اليهودي التوراتي وشريعة موسي والأنبياء والمرسلين مِن بعده في بيت إسرائيل، أصبحت هي “العهد القديم”. لكن لا يعقل أن موسي في زمانه كان يُسمِّي التوراةَ “العهد القديم”. التراث اليهودي والشريعة الموسوية كانت هي عهد الله مع بني إسرائيل على امتداد التاريخ إلى أن ابتُكِر “عهد جديد”، فأصبح منطقيا حينها فقط أن يطلق على ما تم تعطيله “العهد القديم”. لو طبقنا المنطقَ نفسه على زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعقل أن أصحابَه وأعداءه على السواء كانوا يطلقون على كلامه اليومي وأحداث حياته اسما محددا؛ لأنه كان حياً بينهم وواقعا يعيشونه معه.
لذلك كان القرءان حاسما في تخصيص مصدر الهداية منه وحده:
{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)} الأنعام.
نلاحظ أن الأمر هنا للنبي نفسه أن يتبع ما أوحي إليه في القرءان، ولم يكن له حق التشريع الذاتي خارج القرءان إلا من باب الاجتهاد في فهْم ما أوحي إليه. دوره كان تنزيل ما أوحي إليه على أرض الواقع في بيئته وزمانه ليتحول إلى نصائحَ وأفعالٍ وأوامر ونواهٍ هي التي تم جمعها ووصفها وتصنيفها لاحقا في “حرب المصطلح” تحت مسمى مضاد للقرءان منتزعا منه صفة الحداثة ومانحا إياها لأقوال منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم التي لم تكن إلا استنباطا موقوتا من القرءان حينها. وأقصد بـ “حرب المصطلح” الحرب الفكرية التي تتبني مصطلحا له مدلول محدد فتطلقه على مدلول مضاد له حتى تختلط المعاني والمدلولات في الأذهان كما رأينا في باب “حليمة بائعة اللبن”. مع بداية تلك الحرب بدأ الطريق يتشعب حينها:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} الأنعام.
والصراط المستقيم ليس طريقا رفيعا كخيط العنكبوت بين الجنة والنار كما روت كُتُب الأساطير وإنما هو المنهج السليم الذي رسمه الله وحده لتحقيق مفهوم العبودية لله في هذه الدنيا، لكن بعد أن تم تحريف مدلول الصراط المستقيم تحقق ما حذر الله منه، وكان أن تفرقت بهم السبل ثم ورثنا منهم متاهاتٍ لا يحصيها الا الله تعالى.
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} الأنعام.
الأمر هنا للنبي نفسه وقومه. فلم يكن هناك مصدرُ تشريعٍ أو وحي غير القرءان وحده. أمّا علاقة كل الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم فقدْ سماها الله تعالى بالأسوة الحسنة وليس “السنة النبوية المطهرة” كما ورثنا المصطلح المقدس:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} الأحزاب.
الأسوة تعني الاقتداء والتشبه بالشخص المَعني في منهجه وسلوكه لكنها لا تعني أن تتخذه مصدر تشريع مستقل. وهذا يقودنا لمناقشة لفظ “السُّنّة” الذي اتخذ مرادفا للحديث في التراث الإسلامي لاحقا حيث يقول العلماء إن التمييز بين مفهوم “السُّنّة” و”الحديث” صعبٌ نتيجةً للتداخل الكبير بينهما. وهذا واحد من الاسباب التي جعلتني أُسقِط لفظ “علوم” مِن مفهوم “علوم الحديث”، لأن لفظ عِلم يدل على علامة بالشيء تميزه عن غيره. بينما ما يُعرَف بـ “الحديث” اليوم لفظ تجنَّى على اللفظ نفسه الذي احتكره القرءان لنفسه، وقد وصف به كلام لا يستوفي الحداثة في كل زمان ومكان، وأخيرا لا يمكن التمييز بينه وبين مصطلحات “السُّنّة” و”السيرة”. وقبل أن نناقش آراء المختصين يستحسن أن نقدم “حديث” الله تعالى في تعريف لفظ “السُّنّة”:
“السُّنّة” في اللغة والقرءان:
لفظ “سن” في المعجم يفيد جريانَ الشئ واطراده في سهولة ومِن هذا الأصل اشتقت قياسات. ولفظ “سُنّة” المتداول يفيد جريان واتصال سيرة شخص ما في الأجيال القادمة. ومنه أيضا مفهوم “سن” القوانين والتشريعات التي تسري على المجتمع في اتصال. أمّا القرءان فقد استعمل اللفظَ في كل الآيات التي ورد فيها لفظ “السُّنّة” لتفيد تقدير العلي الحكيم وحده وتشريعه الثابت في الكون الذي يسري على الخليقة ومخلوقاتها:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38)} الانفال.
“سنة الأولين” هنا تعني سنة الله في الأولين. الآية تدعوا لأخذ العبرة من قانون الله وحكمه على مَن سبق أنه يسري على مَن هو آتٍ أيضا:
{لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)} الحجر.
ولأن سنة الله ، أي تشريعه لا تبديل فيه فقدْ صرح القرءان بذلك:
{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)} الإسرء.
من هنا نفهم أن مسار الكون والحياة محكوم بسُنّة وشرعِ الله الأزلي الذي لن يتبدل أو يتحول:
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)} الكهف.
فما تم سَنُّه مِن الله للأولين ماضٍ فينا إنْ إتبعنا طريقهم المعوج. تتغير الأجيال لكن السُّنّة ثابتة إن تشابهت الأفعال.
{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} الأحزاب.
نلاحظ نبرة السيادة الملكوتية القدسية هنا في احتكار لفظ “السنة” لله وحده وأنها تعني تقديرَه لكل أحداث الكون، وأن النبي نفسه محكوم بها وما وظيفته إلا تبليغ رسالة الله واتباع سنة الله في الكون. وهكذا في كل الآيات التي ورد فيها لفظ “سنة” في القرءان نجد أن مصدر السنة أو “السَّن” هو الله تعالى، وأن سُنَّتَه ماضيةٌ على الجميع لا تبديل فيها ولا تحويل:
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) الاحزاب
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)} فاطر
{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} غافر
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} الفتح
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} ال عمران.
نلاحظ مِن الآيات السابقة أن “سُنة الله” وهي تشريعه وتقديره لمسار الأحداث في الكون ثابتة لا تبديل فيها ولا تحويل. وما التذكير بها إلا لنأخذ العبرة ممن سبقنا، لأن هذا هو “الصراط المستقيم” الذي سَنَّه الله للجميع وهو سبيل الرشاد المنشود الذي فرضه على المرسلين وعلى مَن أرسل إليهم المرسلين سواء بسواء:
{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)} النساء.
يمكننا الآن، وقبل أن نخوض في الحقبة الزمنية التي بدأت فيها “حرب المصطلح” و تبدل فيها استعمال الألفاظ، وتغيرت فيها مدلولاتها وأختلقت أحاديث غير ” أحسن الحديث” وشرعت فيها سنن غير “سنة الله”، أن نخلص للحقائق التالية:
أولا: القرءان مهيمن على الدين كله، والمصطلح القرءاني لا يمكن تغييره والإتيان برديف له في الفقه أو التراث الإسلامي، وإلا كانت النتيجة انحرافا عن الصراط المستقيم.
ثانيا: في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك حديث واحد هو القرءان . وكانت هناك سنة واحدة هي سنة الله تعالى. وما حياة النبي ومَن حوله إلا تطبيق بشري للشرع القرءاني في واقع وبيئة النبي لكنها ما أشير إليها لا بلفظ “سنة” ولا بلفظ “حديث”.
ثالثا: الرسول نفسه كان ملزما باتباع “أحسن الحديث” كلام الله، وبتطبيق “سنة الله” كما أمره الله وما كان له أن يحيد عنها وإلا فما بلغ رسالته.
الـ “وتس آب”:
وقبل أن أختم العصر الذهبي هناك سؤال منطقي سألني إياه الكثير من الإخوة والأخوات عن تاريخ لفظ “الحديث” يحتاج منا لإجابة عقلانية بحتة لأن الدلائل التاريخية غير متوفرة إلا ما وثقه القرءان أعلاه. وكما ذكرتُ في باب “أفلا تعقلون” فإن مِن أهم سمات عملية عقل الأمور هي المقدرة على وضع “الحدث” أو “الحديث” في مكانه التاريخي السليم، ومن ثم فهم مدلوله هناك.
لنجيب عن هذا السؤال الموضوعي نحتاج لأن نضرب مثالا من واقع تطور علمنا في حياتنا اليومية: في أيام الطفولة كان كل منا يتعامل مع “السكَّر” و”الملح” و”الماء” و”الكهرباء” و”النور” و”النار” تعاملا عفويا تماما كما يتعامل معها أجدادنا الذين لم يذهبوا للمدارس، حيث نستعمل كل منها استعمالا سليما من غير التفكير فيما هي. فالسكّر للحلو والملح للطعام والنور للظلام والنار للطهي والكهرباء تشغل أدوات كثيرة في البيت وكفي. مع دراستنا الأكاديمية أدخل لعلمنا مفهوم “الكيمياء” و”الفيزياء” كمصطلحات علمية تندرج تحتها الكثير جدا مما ألفناه في طفلولتنا من غير تصنيف علمي. فأصبح “الملح” في علمنا مركّبا كيميائيا يتكون من اتحاد “الكلوريد” مع “الصوديم”، ثم علمنا أن هناك أملاحا تؤكل وأملاحا تَقتل. و”السكَّر” أصبح مركبا كيميائيا عضويا يمكن أن يكون “جلوكوز” أو”سكروز” أو “فركتوز” أو “لاكتوز” أو غيرها من مسميات الكيمياء الحيوية. وأصبح الماء عبارة عن حالة فيزيائية لاتحاد ذرتَي هيدروجين مع ذرة أوكسجين كمركبات كيميائية، ويمكن أن يوجد في ثلاث حالات فيزيائية هي: السائل “الماء” أو الغاز “بخار الماء” أو الصلب “الثلج”. وأيضا أصبح النور والنار يندرجان تحت ما يعرف بالطاقات…. إلخ. كل هذه التصنيفات تتم بأثر رجعي في أذهاننا لشيء كنا نتعامل معه من غير تصنيف علمي من قبل.
لو حاولنا أن نطبق الفكرة نفسها على العصر النبوي في محاولة لفهم كيف تعاملوا مع مضمون “الاصطلاحات” التي ابتكرت بعد عصر النبي بفترة، لكنها الآن تسمي “عصر السلف” وتقع بيننا وبينهم، سنجد أن المجتمع النبوي كان يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية الطبيعية البسيطة، كما سمي جَدّي وجدُّك الملحَ والسكر بأسمائها من غير علم لهم بتصنيفها الكيميائى. فالأفعال تسمي كما هي : من أكل وشرب ومشي وركوب ونزول ونوم واستيقاظ وغيرها. والكلام يسمي حديثا أو قولا أو كلاما وهكذا. هذه المفاهيم هي التي كانت سائدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لتصف أعماله وأقواله، لكنها لم تكن تندرج تحت مسمي جامع اسمه “الحديث النبوي الشريف”. مجرد ما وجدت هذه التسمية التصنيفية في كتب التراث لا بد أن تتذكر أنها تمت في زمن لاحق وبأثر رجعي، لكن لو بُعِث أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلن يفهم ماذا تعني. ما كان متداولا بينهم هو القول الطبيعي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول …. كنا مع رسول الله ففعل كذا وكذا… لقد فعلنا كذا فنهانا رسول الله …. وهكذا. المصدر العلمي والفكري الوحيد الذي كان له اسم في زمن النبي هو “القرءان”، وكانوا يقولون: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا من القرءان، وهذا لأن القرءان سمي نفسه القرءان كما ناقشنا ذلك في باب “علوم القرءان”، فأصبح اسماً علَمَاً ينطبق فقط على الوحي الذي سماه الله على لسان النبي ” القرءان”، لكن كل حياة النبي من أقوال وأفعال خارج القرءان ما كان لها اسمٌ جامع يصفها، تماما كما كانت حياة أي فرد في المجتمع. بل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن يرتدي لباسا يميزه عن بقية الناس، ولا كان له مجلسٌ يميزه وسط أصحابه كما نتوهم اليوم من فرط تأثرنا بفخامة المسجد النبوي في المدينة المنورة. وقد وثق التاريخ رواياتٍ كثيرةً لأعراب أتوا يسألون عن الإسلام فبدأوا بالسؤال عن هذا الذي يزعم أنه نبي، فيجيبهم النبي صلى الله عليه وسلم أنا هو. وقد اشتُهِر أن أبا بكر الصدِّيق قد وضع عباءَته على كتف النبي في لحظة دخولهما المدينة يوم الهجرة لأن أهل المدينة والمهاجرين مِن قبائلَ أخرى ما كان بوسعهم التمييز بين أبي بكر ومحمد حينها. إذاً نحتاج لنعيد التصور الطبيعي السائد حينها عن النبي صلى الله عليه وسلم وكيف تعامَلَ أصحابُه معه، فقد كان طبيعيا أنهم كانوا يتبادلون أخبار النبي ومقولاتِه وأفعاله بالصورة العفوية التي تصف الحدث أو تنقل الكلام منسوبا للنبي صلى الله عليه وسلم من غير تصنيف. بمعنى آخر لم يكن هنا شئ اسمه “الحديث” موازٍ للقرءان وإنما كانت أخبار “محمد” من أفعال وأقوال يتناقلها الجميع: الصديق والعدو. فمحمد صلى الله عليه وسلم حينها لم يكن تاريخاً ولا أسطورة بعد، وإنما كان بَشرا يعيش مع قومه وفقا لظروفهم، فقط كان يوحَى إليه القرءان . وهناك فرق شاسع بين أن تكون أنت الآن كما أنت، وبين أن يُكتَب عنك كتابٌ أو يصور عن قصة حياتك فِلْم سينمائي بعد مئة عام.
والمتعارف عليه في كل الثقافات الإنسانية أن الأحداثَ تصبح تاريخا على الأقل بعد 25 عاما من الحدث. أي بعد وصول جيل كامل لسن النضج والمسؤولية وأن يكون هذا الجيل قد ولد بعد حدوث الحدث. فإنْ كان ما يسمي علم الحديث بما فيه السيرة والسنة يوثق تاريخ النبي وأخباره، فإن كل اصطلاحاته الفنية قد ابتُكِرت بعد أن أصبح العصر النبوي نفسه تاريخا، وبدأت شخصياته تتحول إلى أساطيرَ لدى البعض. لكن في زمن النبي لم يكن ذلك التاريخ الذي تمت كتابته لاحقا جزءا من حياتهم وما كان له أن يقع في إطار معرفتهم لأنه كان مستقبلا لم يقع بعد.
هذه الحقيقة نحتاج لاستيعابها جيدا لأنها تعيننا على التمييز بين الواقع والممكن حين الحدث أو الحديث، وبين ما تم توثيقه لاحقا حينما أصبح الحدث والحديث تاريخا. وهنا لا بد من ابتكار مصطلح عصري سهل الفهم لشباب اليوم يلخص هذه الفكرة؛ لأننا سنحتاج إلى لإشارة إليها في الأبواب القادمة من غير إعادة شرح، ونحن نراجع مصداقية بعض الرويات الخطيرة المنسوية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
لو كَتَب أحدُهم اليوم مقالا وذَكَر فيه أنه تلقى رسالة بــ “الوتس آب” من صديق له، فإن غالبية الشباب والشابات المتعلمين في هذا الزمن سيعلمون ما هو “الوتس آب”. وأيضا سيعلمون أن هذا المقال لا بد وقد كُتِب بعد سنة 2009 وهو تاريخ ابتكار ” الوتس آب”. فإذا قرأتَ مقالا يزعم كاتبه أنه يرجع إلي سنة 1980 وورد فيه لفظ “وتس آب”، ستعلم حينها أن الكاتب كذاب لأنه استعمل لفظا ما كان متداولا ولا معروفا في ذلك الزمان، وأن المقال لا بد وقد تم تزييفه بأثر رجعي، ونسي من زيفه أنه استعمل لفظا لم يكن من ألفاظ الزمن الذي نسب إليه المقال.
هذا الأسلوب في فحص المقالات والوثائق التاريخية أسلوب علمي حديث معروف في الطب الشرعي كما هو معروف في علم الآثار. فالطبيب الشرعي كثيرا ما يُطلَب منه تحديد ما إذا كانت هذه الرسالة حقيقةً مِن كتابة المتهم أم مدسوسة عليه. وهنا نأخذ في الاعتبار بجانب التفاصيل الدقيقة عن خط اليد وطريقة الضغط على الحروف كيفما يكتبها المتهم، نأخذ في الاعتبار كل لفظ من ناحية تاريخية متي أصبح مستعمَلا، وما إذا كان مِن ألفاظ المتهم وزمانه وظرفه الاجتماعي ومستواه العلمي والثقافي .. وهكذا.
فلا يعقل أن يقف خطيبُ جمعةٍ ويزعم أن الرسول قد حسم معركة أُحُد بسلاح الطيران. الأمر سيكون مضحِكا للمُصلِّين بالبداهة لأن مفهوم “سلاح الطيران” لم يدخل العلم التراكمي للإنسانية إلا بعد 1300 سنة من موقعة أُحُد. لكن الجملة نفسها ربما تكون حقيقية إذا كان الحديث عن حرب اكتوبر 1973.
في مراجعتنا لبعض الروايات الخطيرة في الأبواب القادمة سنكتشف عددا من الألفاظ والأفكار حُشِرت حشراً في روايات زعموا أنها من زمن النبي لكنها لم تكن من مصطلحات ولا أفكار زمانه. هذا الحشر سأشير إليه فقط بــ “الوتس آب” للاختصار. ووجود ” الوتس آب” في مثل هذه الروايات يفضح أنها مزوّرة، ويمكن بمعرفة متي ظهر المصطلح نفسه أن نفضح تاريخ التزييف. وابتكاري للفظ “الوتس آب” لهذه الوظيفة لأن الكتاب الذي بين يديك يخاطب جيلَ اليوم والأجيال القادمة، ولا أتوقع أن يناقشني فيه ابن تيميةَ أو ابن حنبل. وفيه أيضا أتِّخِذ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنة في مخاطبة الناس بقدر عقولهم ولسان حالهم وزمانهم لأن المقصد هو وصول المعلومة بصورة ميسَّرة سهلة وليس استعراض عضلات في نقل عمن سبق.
بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كان طبيعيا أن يتناقل الناس ما كان من حاله وما قال من أقوال، لكنها لم تكن دينا منفصلا أو تشريعا موازيا، وإنما كانت أسوة حسنة يهتدى بها في فهم تطبيق القرءان في كل واقع مستجد.
ظلت الحال كما هي في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حيث لم تظهر مصطلحات مناقضة أو مرادفة للمصطلح القرءاني تجعل من النبي نفسه مصدر تشريع موازٍ للقرءان. لذلك لم يكن هناك علم اسمه علم الحديث، ولم تكن هناك سُنّة تسمي سُنّة النبي، وإنما كانت هناك سيرة حسنة سارها النبي ومِن بعده الخلفاء الراشدون مصدرهم الوحيد في التشريع هو أحسن الحديث كلام الله في القرءان، ثم الاجتهاد والقياس على ما طبقه النبي في حياته من فهمه القرءان . فلما انهارت الخلافة الرشيدة انفجر الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي ليبدأ عصر جديد ابتُدِعت فيه مسميات جديدة تصف ما أصبح تاريخا حينها، فأصبح لفظ “الحديث” يشير بأثر رجعي لأقوال وأفعال النبي، بينما سيرته أصبحت تحمل اسم السُنّة النبوية، وهذا ما سنناقشه في القسم الثاني في “عصر الأقاويل”.
وعليه فإن إطلاق لفظ “حديث” على كل قول أو عمل نُسِب للنبي صلى الله عليه وسلم منذ بداية “حرب المصطلح” إلى اليوم هو أول “وتس آب” في التراث الإسلامي. ببساطة لأنه لو بُعِث على بن أبي طالب كرَّم الله وجهه وهو أقرب المقربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بِصِلة الرحم وبحكم النشأة في بيته، ثم إنه كان أول رجُلٍ آمن به وهو طفل وتزوَّج ابنتَه الحبيبة فاطمة الزهراء وعاصر كل حياته، لو بُعِث علي وسألتَه: {هل مقولة “اطلبوا العلم ولو في الصين” حديث؟} فإنه لن يجيبك ” لا .. إنها مقولة شائعة لكن رسول الله لم يقلها”…مثل هذا الرد يمكن أن يأتي من عالم اليوم، لكن علي لن يفهم السؤال مِن أصله لأنه لن يفهم ماذا يعني لفظ “حديث” إذ إنه “وتس آب” اختُلِق لاحقا وما كان معروفا زمن النبي وأصحابه!
فقط أضيف هنا أن عصر الخلفاء الراشدين من ناحية توثيق تاريخي يندرج تلقائيا في “العصر الذهبي” حيث كان القرءان هو مصدر التشريع ومصدر العلم الوحيد في الإسلام، وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة واقعا عايشوه معه ولم يكن تاريخا بعدُ يتلقونه من مصدر آخر غير ذاكرتهم ومعاصرتهم له. لكن سنلاحظ أن الخلفاء الراشدين كانوا قد فطنوا لحقيقة أنه بمجرد أن يصبح العصر النبوي تاريخا، سيفتح بابا واسعا للفتن بالكذب علي رسول الله وعلى أصحابه، لذلك كانت مقاومتهم لتلك الفتن قبل أن تقع واضحة جدا في سيرتهم كما سنرى.
سعر الكتاب في المملكة المغربية:180 درهم
خارج المملكة:18 أورو أو ما يعادلها بالعمساللات المحلية
ملاحظة:تضاف أجور الإرسال