مذكرات ضحية زمن الإنصاف والمصالحة المزعومة(الحلقة 2)

  • بتاريخ : 14 يوليو، 2014 - 19:14
  • كانت تلك آخر رسائله, انقطعت بعدها أخباره عني . أحسست حينها بغربة ووحدة قاتلة ضلت  تحاصرني من كل الجهات. كنت عن طريقه أتنسم أخبار الأحبة,أعيشها لحظة

    كانت تلك آخر رسائله, انقطعت بعدها أخباره عني . أحسست حينها بغربة ووحدة قاتلة ضلت  تحاصرني من كل الجهات. كنت عن طريقه أتنسم أخبار الأحبة,أعيشها لحظة بلحظة. أفرح لأفراحهم,وأحزن وأبكي أحيانا طويلا لأحزانهم وحسرة على عدم اللحاق بهم . حين حدثني عن ملحمة الفلوجة الأولى,وعن جوعهم وعطشهم لأيام عدة. عافت نفسي الطعام وفقدت شهيته كنت كلما جلست أمام المائدة تذكرتهم. تذكرت حكاية الشباب الذين حملوا أرواحهم على أكفهم حين تطوعوا لخرق الحصار المضروب قصد جلب جرعات ماء لإخوانهم ,وكيف مروا من بين دبابات الصليبيين وآلياتهم وسمعوا أصواتهم وقرع أكوابهم وآنيتهم,دون أن يفطنوا أو يحسوا بهم وكأنما غشيت أبصارهم وجعل وجعل في آذانهم وقرا. كانت تلك كرامة من عشرات الكرامات التي حدثني بها وعن تفكيره في جمعها وتدوينها حين يجد فرصة ووقتا لذلك.

    رأيته في منامي بجناحين يطير ويخاطبني مبتسما,مشيرا بيمينه مناديا

    “إلحق بنا لقد تأخرت, ولا تنس الوصية”

    استفقت مرعوبا مذعورا كعادتي مع كل حلم أتصبب عرقا. قلبي يخفق بسرعة وأكاد أسمع ضرباته: اللهم اجعله خيرا. أي وصية يقصد؟! رسائله التمويهية أرسلها بانتظام لأسرته! لم أرهق نفسي في حل رموز الرؤيا وتأويلها . رأسا توجهت صوب الأنترنت . الأيقونة تشير إلى أن لدي رسالة جديدة, أحسست بنشوة من فرح لم تدم طويلا. لم يكن عنوان المرسل عنوانه… وبريدي هذا لا يعرفه أحد سواه… ارتبت في أمرها مما جعلني أتوقف عن فتحها إلى أن استعنت بما أعرفه من إجراءات الحماية الأمنية الإكترونية في مثل هذه الحالات. ثم توكلت على الله وفتحت الرسالة. تسمرت حينها مكاني وأحسست بحمام عرق بارد يغسل كامل بدني, أعدت قراءتها بسرعة واضطراب. رسالة من دون مقدمات. وجمل متقطعة. يبدو أن صاحبها كتبها في عجلة وتوتر.

    “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, أنا أخوكم أبو….العراقي مسؤول في هيئة الإعلام أزف لكم نبأ استشهاد صديقكم وأخوكم –خ- الدكتور نسأل الله أن يتقبله. وصيته التي عهد إلي بإبلاغكم إياها هي وبعض صوره وكتاباته ستجدها على هذا الرابط …. لطالما حدثني عنك وانتظر وصولك على أحر من الجمر. يبدو أنه رحمه الله كان يعزك كثيرا. ولك مكانة خاصة في قلبه الكبير… أحبه الجميع هنا,مهاجرون وأنصار. منذ دخوله المبكر ارتأى الإخوة أن يضعوه في مكان يناسب تخصصه عملا بمبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب وأبدع وأفاد في مجال الإعلاميات والإلكترونيات ونفع الله به إخوانه وأمته. فكان من تفانيه وإخلاصه لاينام سوى أربع ساعات في اليوم والليلة حتى هزل جسمه وشحب لونه, فكان كلما طلب منه إخوانه أخذ قسط من راحة يجيب الراحة هنالك في الجنة ويشير بسبابته نحو السماء… وكان رحمة الله عليه يبكي بحرقة وتأثر كلما همت مجموعة من الشباب بالخروج إلى الميدان حسرة على عدم إشراكه في العمليات وشوقا للنزال. إلى أن اختير تطييبا لخاطره أكثر من أي اعتبار آخر. في عملية الثأر لأعراض المسلمات التي انتهكت في إحدى البلدات. سجد سجدة شكر وعانقني حين أعلمته ببشرى الإختيار التي كنت حريصا على أن أكون أول من يزفها له… لم ينم تلك الليلة من الفرح… ضحكنا طويلا وبدا كطفل مرح في يوم عيد أو عريس في ليلة زفافه… ونحن نستعد للخروج انفرد بي هامسا : 

    ” أحس أنني لن أعود, مدني بمفتاح + صغير قائلا:

     “هنا كل شيء , بريد صديق الطفولة الذي حدثتك عنه وصيتي, صوري ومجموعة من أشعار وخواطر. أتمنى أن تلح عليه بشدة لتنفيذها حرفيا بحذافيرها… دس يده في جيبه, هذا مبلغ مالي بسيط أهداني إياه الأخ أبو… الكويتي قبل استشهاده رحمه الله, نصفه سلمه لأسرة أبي… البغدادي ـ وكان من أحب إخوانه إلى قلبه ـ والنصف الثاني اشتري به أحدية رياضية للشباب ـ كنا حينها نعاني أزمة أحدية حتى لقبت كتيبتنا بمجموعة الحفاة. أما عن قصة استشهاده فقد أبلى رحمه الله في ذلك اليوم البلاء الحسن وكان أسدا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. بعد ساعتين من الإثخان في عباد الصليب وأذنابهم, جاءهم الدعم الجوي والبري لفك الحصار عن من بقي منهم حيا وإخلاء الجرحى الذين كانوا يصرخون كالنساء الثكالى .

    في مثل هذه الحالات جرت العادة أن ينسحب الإخوة في هدوء ووفق الخطة المرسومة والمدروسة سلفا وبعد أن تتطوع مجموعة للتغطية على هذا الإنسحاب وإشغال العدو. فكان رحمه الله أول المتطوعين فداءا لإخوانه وحماية لظهورهم رفقة ثلاثة شباب آخرين. قتل الدكتور وهو اللقب الذي كنا نطلقه عليه وشاب لبناني من أصل فلسطيني وعاد عراقي جريح وآخر فرنسي سليم. حدثنا الأخ العراقي أنه منذ الغزو الصليبي لأرض الرافدين ناذرا ما رأى رجالا كالدكتور تقبله الله. قاتل بضراوة حتى نفذت ذخيرته وضاعت نظاراته الطبية, وضل يناور من خندق لخندق ومن بيت لبيت لصرفهم عن الإخوة المنسحبين وشغلهم عنهم إلى أن أصيب في كتفه وصدره .

    حاول الأخ الفرنسي سحبه لكنه رفض وألح عليه بمساعدة الأخ الجريح والانسحاب الفوري. لم ينس رغم سكرات الموت أن يبلغ سلامه للجميع . طالبا الاعتذار والصفح عن كل ما قد يكون بدر منه في حق أحد. ثم نطق الشهادتين وابتسم ابتسامته المعهودة التي ضلت مرسومة على محياه رغم خروج روحه .”

    ختم الناعي رسالته بلا تنسوه وتنسونا من دعائكم وتنفيذ وصيته .

    أخوكم أبو …. العراقي خادم المجاهدين.

    وأنا أقرء مناقبه رحمة الله عليه وحادثة مقتله كنت أقاوم جاهدا الدموع المحتبسة في عيني . نسخت الرابط بأصابع مرتجفة, وأبحرت حيث الوصية وما رافقها من صور ومذكرات يوميات وأشعار…ثم همت على وجهي كعادتي حين تنتابني موجة حزن أوحالتي المرضية التي صرت بسببها كمن قرأت عنهم يوما ما ممن سموا (بالمشائين) أعتقد أن أرسطو كان أحدهم.

    همت على وجهي إلى أن وجدتني على شاطئ البحر.علاقة غريبة صارت تجمعني به مذ غادرت السرداب.  لو كلفني بهد هذا الصخر لكان أهون علي من تكليفي إبلاغ أسرته بخبر استشهاده.

    كان الوقت قد قارب غروب الشمس التي احمر قرصها وبدت شاحبة كئيبة وهي تغوص بتثاقل في الأفق الأزرق البعيد… استسلمت لبكاء مرير غير مبال بنظرات بعض العشاق الذين تناثروا في المكان . قد أكون عكرت عليهم ( صفو خلوتهم ) تجرأ أحدهم فتوجه صوبي تاركا مرافقته على بعد أمتار. كانت خطواتها مترددة تنتظر ردة فعلي مع مرافقها لتتشجع على التقدم نحونا أكثر…يبدو مثقفا في بداية الثلاثينات من عمره يحمل حقيبة يدوية جلدية ويرتدي بدلة أنيقة بدون ربطة عنق …

    “السلام عليكم…”

    خنقتني الدموع والشهيق فلم أجبه.

    مالك أخويا تبكي واش خاصك شي مساعد ؟؟؟

    استمر نحيبي وشهيقي . أمدني بمناديل ورقية ذات رائحة زكية أخرجها من جيبه. وأنا أمسح بها دموعي أعاد طرح السؤال مبديا رغبته واستعداده في مساعدتي. ظن المسكين أنني غريب تقطعت به الحبال. هكذا فهمت من كلامه. تشجعت صاحبته وتقدمت نحونا هي الأخرى قد يكون أشار عليها بذلك :”

    ماذا به… المسكين؟؟؟”

    لم تنتظر جوابه, فخاطبته بفرنسية سليمة.

     “يبدو أنه يعاني من مرض نفسي أو صدمة قوية أنظر إلى حركة خده الأيسر”

    (Il parait  qu’il est choqué ou  il souffre d’une maladie psychologique. Regarde sa joue gauche qui bouge).

    لا أدري كيف عرفت حالتي المرضية حين نطقت بها تحديدا باسمها العلمي الطبي. قد تكون أخصائية وربما ساعدتها الأعراض التي تظهر علي في مثل هذه الحالة لا إراديا من رجفة اليدين وارتعاش الشفتين واهتزاز رأسي كملاكم سابق أو مصاب بمرض الزهايمر. تلك حالتي كلما توترت أعصابي أو بكيت منذ غادرت سراديبهم في المرة الأولى. شجعت خطواتهما شاب آخر ورفيقته ضلا يرقبان المشهد من بعيد فتقدما نحوي . سألوا عن سكناي فلم أجب. عرض علي الثاني إيصالي بسيارته إن أنا رغبت في ذلك… أكره مواقفا كهذه أجدني فيها ضعيفا عاجزا مثيرا لشفقة الآخرين وإنسانيتهم . أحسستهم يصطنعون ذلك أمام مرافقاتهم . لم أدر ولم أذكر أمام إلحاحهم  وأدبهم المبالغ فيه, أو هكذا بدا لي, كيف خرجت الكلمات من بين شفتي المهتزة :

    “مات أخي… أخي مات …عانقني الأول صاحب الحقيبة الجلدية معزيا ومواسيا بكلمات يتداولها الناس في مثل هذه المناسبات وكأنه يعرفني من زمن طويل تقاطرت على مسامعي كلمات التعزية والمساواة على الطريقة المغربية في مثل هذه المناسبات والمواقف. لا أدري كيف كانوا سيتصرفون لو علموا كيف مات وأين قضى . أبديت لهم بلباقة وأدب رغبتي في البقاء وحدي فتفهموا الأمر. كنت رغم لطفهم أحسهم أثقل من جبل على صدري. عادوا لخلوتهم وبقيت متسمرا مكاني أرقب قرص الشمس الآفلة أنتحب كثكلى فقدت كل أبنائها …

    في هذه اللحظة كان من المستحيل أن لا أسترجع شريط ذكرياتي أن لا أسترجع شريط ذكرياتي معه. كلام (الفليلسوف) هكذا كنا نلقبه. لازلت أحتفظ به كعقد ثمين لا يفرط به. كان دائم الصمت وإذا نطق أرغم الجميع على الإنصات …

     ” إنتباه …إنتباه… سكوت …سيدي عبد الرحمن المجذوب سينطق بالحكمة”.

     هكذا كنت أمازحه منتشيا, فرحا, بقدرتي دون غيري على إخراجه من دوامة صمته وإشراكه في نقاشاتنا اللامنتهية التي لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ من جديد. وتنتهي بخصومات ثم حفلة عناق للتسامح والإعتذار…

    كنت أكنيه ب “ولد دانون”ّ أو الدجاج الرومي. فكان يجيبني متحديا سأصبح بلديا رغم عن أنفك…بعد أن أصبحنا من رواد بيوت الله زادت علاقتنا توطدا. لم نكن نفترق إلا عند النوم , قال لي يوما:

    “أحس أن لا أحد يفهمني في هذا العالم سواك.”

     لم يعرف الفقر كما عرفته, فكان ينفق إنفاق من لا يخشاه . ويعرف كيف يوظف ذكاءه المفرط وماله الوفير لإسعاد الآخرين ودعوتهم إلى الله… شغوفا… مندفعا بقوة لحل مشاكل الجميع, وصفه أحد الأصدقاء يوما مادحا كرمه وإنفاقه أنه لم يقل لا يوما إلا حين ينطقها في شهادة التوحيد. فكنت حين أجوع أو أحن إلى إحدى أجود أنواع الحلويات المنزلية المحشوة جوزا ولوزا وفستقا أواعد ع عند حاتم الطائي بعد أن نهاتفه فيفرح بذلك …

    بعد غزو التتار الجدد لبلاد الرافدين لم يعد يذوق طعم النوم . دائم البحث والسؤال دون ملل عن طريق موصل إلى هنالك . قال لي يوما :

    “لو وجدت من يوصلني إلى هناك وطلب مني نصف ما ورثته عن والدي رحمه الله لاقتسمت معه تركتي دون تردد…أخشى أن يمسنا عذاب الله . ويستبدلنا لأننا لانصلح ولسنا بحجم المسؤولية. أخشى من النفاق…”

    حين لاحظ استغرابي من كلامه تلا علي قول الله تعالى(يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض , أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة, فما متاع الحياة الدنيا إلا قليل ,إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير…

    ثم يشرع يذكر لي أقوال المفسرين والعلماء في تلك الآيات واستدلالاتهم بأسلوب سلس, رائع, جذاب, بديع, رغم مروري على هذه الآيات مرات عدة, كنت وكأنني أسمعها لأول مرة. الكلام حين يخرج من القلب يصل مباشرة وبسرعة إلى القلوب. هكذا قالوا قديما…

    تلك الأيام… حين كان الناس يعيشون تحت وقع الصدمة يضربون أخماس في أسداس تحسرا كما ضربها آباؤهم من قبل حين سقوط فلسطين. وحين صاروا كجمهور انحسر دوره في الفرجة وانتظار نهاية مباراة معلومة نتيجتها مسبقا. لا تكاد مؤخراتهم تفارق كراسي المقاهي متسمرين أمام القنوات الفضائية ببلاهة يتابعون تحليلات بائعي الكلام والوهم ومحللي الفضائيات المأجورين. وفتاوى تؤصل لدمي الحيض والنفاس ولا تلقي بالا لدم ثالث مهراق. دم المسلمين على أرض العراق وغيرها. حينها كان رحمه الله يقطع البلاد طولا وعرضا , مذكرا الشباب والدعاة بتعين فريضة الجهاد, وبمسؤوليتهم الشرعية والتاريخية , لأنهم طليعة الأمة, وأن التتار الجدد لن يردعهم ويردهم على أعقابهم سوى شباب الإسلام أحفاد القعقاع والمثنى وطارق بن زياد ….

    اكتشفت فيه حينها ما لم أكن أعرفه رغم عشرتنا التي دامت أزيد من عقدين من الزمن. شعلة متوقذة من حماس, طاقة دفينة مخزنة انفجرت فجأة, صار يتكلم كخبير متمرس في الإستراتيجية العسكرية والدراسات المستقبلية. كلما زرنه كان يبسط الخريطة أمامنا وأسهب في الشرح والتحليل بحماس غريب : ” أنظروا …منطقة الأنبار وديالى أقرب بقعة في بلاد الرافدين من فلسطين ثلاث مائة كيلو فقط تفصلنا عن القدس إنها فرصة العمر لقد ابتلعوا الطعم . ستذكرون ما أقوله لكم !!!

    لم يعد حينها -خ- الذي عرفت من قبل. في تلك الأيام وفي غمرة الحماس والاستعداد حصل الامتحان. هكذا سماه. بعد المناداة عليه لتسلم وظيفة جيدة براتب شهري مغري وامتيازات كبيرة تناسب شهاداته العليا. كان قد ربط الخيوط ووجد الطريق السالك. قال لي :

    “إنه اختبار من الله فهو سبحانه يمتحن عباده ليعلم الصادقين من الكاذبين “

    ثم تلا قوله تعالى(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره. والله لا يهدي القوم الفاسقين).

    لا أريد أن أكون من هؤلاء القوم الفاسقين ….لم يتأخر لحظة ورحل عند أول فرصة تاركا الدنيا والوظيفة وكل شيء خلف ظهره.

    أذكر تلك الليلة الأخيرة كأنها البارحة . كنا أربعة بتنا الليلة في بيت – ز- بدا سعيدا كعريس في ليلة دخلته. تحدثنا الساعات الطوال. لأول مرة دون توقف. تكلم كمن سيموت في اليوم الموالي ويخشى الرحيل دون قول ما كان يحتاج قوله. ضحكنا طويلا بعد أن حلق ذقنه وارتدى بدلة إيطالية الصنع بربطة عنق سماوية اللون . تغير شكله تمتما, وأجاب على تعليقاتنا الساخرة بكلمات مقتضبة:

    ” الحرب خدعة …هل تريدونني أن أسافر بلباس عسكري؟؟!!”

    قبل أن يغادر بكى ونحن ننشد بصوت جماعي خافت:

    وداعا أيها البطل            لفقدك تدمع المقل

    بقاع الارض قد نذبت      فراقك واشتكى الطلل

    لإن ناءت بنا الأجساد      فالأرواح تتصل

    ففي الدنيا  تلاقينا           وفي الأخرى لنا الأمل

    فنسأل ربنا المولى         وبالأسحار نبتهل

    بأن نلقاك في فرح        بدار ما بها ملل

    بها أبطال أمتنا            بها شهداؤنا الأول

    بها الأحباب قاطبة        كذا الأصحاب والرسل

    فيا من قد سبقت إلى       جنان الخلد ترتحل

    هنيئا ما ظفرت به         هنيئا أيها البطل

    أي وجه أواجه به أمي الحاجة؟؟؟ لا أدري… وكيف أتصرف في الوصية؟؟ بالأمس القريب وقبل يومين من تسلمي للرسالة. كنت لا أزال أمارس تمويهي وكذبي على المسكينة. زرتها كالعادة للسؤال عن رفيق الطفولة المسافر إلى ألمانيا. وهل من رسائل جديدة؟ وكيف هي أحواله البرد هنالك؟؟ في داخلي كنت أشعر بالألم والخجل وهي تحدثني عن رسائله وشوقه وأحوال الطقس التي لم يتعود على قساوتها. لم تكن تنسى إبلاغي سلامه الحار وشوقه لمعرفة أخباري. أهز رأسي أمامها ببلاهة مصطنعا السعادة والإصغاء لحديثها . كنت أنا كاتب الرسائل ( التمويهية) هكذا ارتأى رحمه الله قبل أن يرحل . لم يترك لي أي فرصة لمجرد الإستفسار.

    وإلا لكنت امتنعت عن هذه المهمة المعقدة والمشبوهة. ربما تعمد مفاجأتي بذلك في آخر لحظات الوداع , أو ربما لضيق الوقت حين سلمني الورقة الصغيرة وهو في طريقه إلى المطار: ” هذا إيميل الأسرة, تصرف أكتب لهم بين الفينة والأخرى رسالة حدثهم فيها عن أي شيء. عن ألمانيا وظروف الدورة التدريبية وضيق الوقت وكثرة الإنشغالات….و..و…و

    آخر مرة زرتها . كانت بعد استشهاده. ما إن رأتني حتى بكت . انخلع قلبي من مكانه . من أخبرها ؟؟؟ كدت أخر مغشيا علي أن تنشق الأرض وتبتلعني أهون علي من أن تكتشف أمي الحاجة ومعها بقية الأسرة كذبي وتواطئي. كانوا يعدونني واحدا منهم . كلما طرقت الباب رمت لي مفتاح البيت من الشرفة  كما تفعل مع أبنائها وأمرتني بالصعود. قالت لي مرارا:

    “لا تدري يابني معزتك عندي والله لو كانت لدي بنت بلا زواج لزوجتك إياها…”

     وقفت أمامها مشدوها … سحبتني من بوابة المنزل لفنائه كأنها تريد البوح لي بسر ما. حدثتني بعد أن أغلقت الباب ودموعها مسكوبة لا تنقطع.

    “قلبي يحدثني بشيء ما يا ولدي . رأيت البارحة خيرا وسلاما فيما يرى النائم. مجموعة من الجنود اليهود, في أعناقهم الصليب!!! لم أشأ أن أصحح معلوماتها وخلطها. كان الأمر أكبر من ذلك. طرقوا بابي وسلموني جثة إبني. كان مصابا في صدره ووجهه ودون نظارات. دمه أحمر غزير كشلال. وعلى وجهه هالة من نور قوي. قالوا لي هذا ابنك. فصرخت فيهم, قتلتموه يا مجرمين يا قتلة…قتلتموه… قتلتموه يا يهود…

    قلبي يحدثني بشيء غير جيد. أنا هكذا دائما ,غالبا ما تتحقق رؤاي …حتى رسائله (تقصد المسكينة رسائلي ) إنقطعت… والهاتف يستحيل أن يكون إبني بخير ولا يكلمنا في الهاتف…لم يهاتفني منذ سافر سوى مرتين, ورسائله لم تكن تشفي غليلي…ثم لماذا لا يكلمني مباشرة وأراه بكاميرا الكمبيوتر كما يفعل معي شقيقه من فرنسا مساء كل ليلة…لا …لا…لا..

    كنت كلما حاولت تهدأتها تعثرت الكلمات وانعقد لساني. خانتني العبارات . ماذا أقول في مثل هذه المناسبة . أي موقف هذا وضعتني فيه يا -خ -؟؟؟

    كنت حينها أغالب شلالات الدموع المنحبسة في مقلتي . أنقذني من ورطتي وحساسية الموقف رنين هاتفي في جيبي. غادرت البيت متمتما لها بكلمات لم أعد أذكرها … من يومها وأنا أحاول تفاديها… ضلت تلك الوصية كحمل ثقيل على عاتقي . زادت همومي, كربي, أرقي ووساوسي, فكرت في عشرات الحيل والطرق لإبلاغ أسرته بالنبأ. فكنت كلما وضعت خطة لذلك وهممت بالتنفيذ, تراجعت. شيء ما لم أستطع تفسيره كان يمنعني. عانيت من ثقل المسؤولية وبقيت على ترددي إلى أن تلقفوني من جديد. مازلت ليومي هذا تحيرني الرؤيا التي حدثتني بها أمي الحاجة, والدته رحمه الله. غريب أمرها. رأتها في نفس الليلة التي بلغني فيها خبر استشهاده . ازددت يقينا وإيمانا بالمقولة الشعبية التي رددتها والدتي مرارا على مسامعي في ما يشبه جلسات اعتراف كانت تقيمها لي كلما أحست أنني أخفي عنها شيئا:

    ” يا بني قلبي يحدثني عنك بكذا وكذا (غالبا ما كانت تصيب) افصح يا بني فقلب الأم يعلم…”

    حتى في سنوات الطيش الأولى والمراهقة حين كنت أعود من بعض  سهرات النزوات العابرة التي كان يقيمها أحيانا رفاق الدراسة. ورغم تأبطي للكتب والإدعاء أنني بت عند فلان أو علان لمراجعة الرياضيات. ورغم كل الإجراءات الاحترازية. كانت تقول:

     ” اكذب على إنسان آخر, أما أنا فإني أمك عجنتك بيدي هذه …الله يهديك …الله يهديك…” ثم تنصرف.

    لا شك أن الله استجاب دعواتها تلك فلم تطل فترة النزوات الحمقاء… سرعان ما أبصرت دربي وعفتها…

    رغم مرور سنوات فلا يزال الألم يعتصرني كلما ذكرته رحمة الله عليه. وذكرت إخفاقي في تنفيذ وصيته كما أراد وألح في ذلك. خبر استشهاده بلغ أسرته بعد سنة من القذف بي وراء الشمس. وصلني بعضا من كلامهم الجارح الذي أسمعوه والدتي حين زارتهم للتعزية. ما كنت أخشاه تماما هو ما وقع. صرت في نظرهم أنا من شجعته على سلك الدرب الذي سار فيه وغررت به …و…و…و

    رغم كل شيء لم ولن ألوم أمي الحاجة. إنها أم مكلومة على كل حال .فقدت بؤبؤ عينها كما كانت تصفه. فقدت آخر عنقودها المدلل…

    ساءت علاقة الأسرتين. انقطعت بينهما حبال الود, الزيارات, المجاملات.. فتكلم بذلك الشامتون وخاض فيه نمامو الحي ومهووسو الإشاعة. طبعا مع إضافة البهارات اللازمة في مثل هكذا مناسبات.

    حاولت ولا زلت أحاول النسيان. نسيان الموضوع فلم أفلح. عقدة ذنب وصية أعز الأحبة إلى قلبي والتي لم أعمل على الوفاء بها تؤرقني. ألح بقوة وكرر مرارا في رسالته -الوصية- علي بالعمل الجاد على توضيب ما كتبه في ساحات المعارك وعلى أصوات لعلعة الرصاص وأزيز الطائرات من خواطره ومشاهداته وكرامات أوصى أن تجمع تحت عنوان (آيات الخلاق في جهاد أهل العراق) وتنشر في المنتديات والمواقع . بعد الليلة السوداء, ليلة اختطافي أحرقت والدتي بمساعدة من أختي التي أرشدتها لمخبأ أوراقي وأقراصي المضغوطة المدسوسة تحت تراب (محبق) نبتة من فصيلة الصبار بين عشية وضحاها أصبحت حريصا على العناية بها وكنت حريصا على أن لا تسقى ولا يمسها ماء بدعوى أنني قرأت في كتاب للنباتات عن عدم حاجتها له وإمكانية عيشها بدونه لمدة طويلة من الزمن. وكان حرصي هذا وعنايتي على غير عادتي بذاك النبات الشوكي المهمل هو سبب في كشف شقيقتي لمخبئي. أحرقوا محتواه, وأحرقوا معها قلبي وآخر أمل في تنفيذ وصية صاحبي الغالي.