مسائل جوهرية في فكر السلفية الجهادية (من التوحيد إلى صناعة القيادة)

  • بتاريخ : 22 يوليو، 2014 - 19:29
  •      في يوم جمعة من أواخر الثمانينات من القرن الماضي، كنت واقفا أمام مقر عملي وقريبا من المسجد في إحدى البلدان العربية رفقة أحد الزملاء، وأمام ناظرينا

    سلسلة دراسات عن السلفية الجهادية (3)

    بحث بعنوان:

    مسائل جوهرية في فكر السلفية الجهادية

    (من التوحيد إلى صناعة القيادة)

    د. أكرم حجازي / كاتب وأستاذ جامعي

    الأردن / إربد

    أيلول / سبتمبر 2007

    محتويات الدراسة

     

    مقدمة  ………………………………………………………………………..     3

    المحور الأول: لغة السلفية الجهادية في مسائل معينة  ……………………………..     5

    أولا: ثقافة التوحيد  …………………………………………………………….      5

    ثانيا: “محاربة الطواغيت”  ………………………………………………………     12

    ثالثا: سايكس – بيكو، واقع وثقافة  ………………………………………………      16

    رابعا: العلماء والفقهاء، أي دور؟ وأية وظيفة؟  …………………………………..       22

    المحور الثاني: صناعة القيادة  ………………………………………………….      29

    أولا: الراية، للأمة؟ أم للجماعة؟  ……………………………………………….       30

    ثانيا: القيادة، مواصفات وشروط  ……………………………………………….       37

       I.      العلم الشرعي  ………………………………………………………..         37

    II.      التمرس في ساحة الجهاد  ……………………………………………..           40

    خلاصة القول  ………………………………………………………………..       45

    قائمة المصادر والمراجع  …………………………………………………….        50

    مسائل جوهرية في فكر السلفية الجهادية

    (من التوحيد إلى صناعة القيادة)

    د. أكرم حجازي / كاتب وأستاذ جامعي

    مقدمة

         في يوم جمعة من أواخر الثمانينات من القرن الماضي، كنت واقفا أمام مقر عملي وقريبا من المسجد في إحدى البلدان العربية رفقة أحد الزملاء، وأمام ناظرينا وعلى مقربة من موعد الصلاة، توقفت شاحنة صغيرة وهي تقل مجموعة من الشباب الملتحين وهم يرتدون جلابيب بيضاء، ثم بدؤوا ينزلون من الشاحنة بصعوبة ليقع بعضهم أرضا أو ينفلت الآخر فيمسك به زميله وثالث يتلمس الأرض بقدمه كما لو أنه يخشى السقوط! وبينما أراقب الموقف وكزني زميلي في خاصرتي ساخرا: أهؤلاء سيحررون فلسطين؟ وللحق فقد ضحكت من المشهد وقهقهت وقلت له: أتراني أخالفك الرأي؟

      في تلك الأيام، وقبل عشرين عاما على وقوع المشهد، لم تكن السلفية الجهادية، التي كانت تخطو آنذاك خطواتها الأولى، لتثير كثيرا فضول الباحث أو المراقب، ولم يكن أحد ليصدق أو يتخيل أنه سيأتي يوم يمكن أن يهتز فيه العالم بأسره من فعل هؤلاء الذين كانوا في حين ما موضعا للسخرية والآن هم في دائرة صناعة الحدث العالمي، وفي دائرة القلق العالمي، بل وفي دائرة الحرب العالمية على ما يسمى مكافحة الإرهاب.

       كيف ينتظمون؟ لا أحد يعرف، من هم؟ لا أحد يستطيع تتبعهم بسهولة، كيف يتجندون ويتكاثرون؟ هي مشكلة المشاكل، من يدعمهم ويمولهم بعد تجفيف منابعهم؟ الكل يخمن ويتنبأ، ما هي أطروحاتهم واستراتيجياتهم؟ قلَّ من يعلمها أو يعبر عنها خلا الأعضاء والأنصار وبعض المراقبين ممن يعدون على الأصابع، ونسبيا الباحثون الذين غفلوا عن الظاهرة فباغتتهم على حين غرة وطعنت في كفاءتهم. وعليه فإننا نقر مسبقا أننا لسنا بصدد ظاهرة تقليدية مألوفة، ولعل في هذا بعض العزاء، فلا الغربيون المعاصرون ولا العرب ولا المسلمون في شتى أنحاء العالم ولا غيرهم أيضا عاشوا مثيلا لها. فما الذي يمكن أن يفهمه عالَم اليوم، وليس الأمس، بمسلميه ونصاراه وبوذييه وهندوسييه وملحديه من أطروحات السلفية الجهادية عن قضية التوحيد أو الراية أو الحاكمية أو سايكس- بيكو بينما هو غارق حتى ناصيته بالحداثة والعولمة ولغة السوق؟

       بالتأكيد فهذه الأطروحات ليست موضع ترحيب ولا تتمتع بالكثير من المصداقية عند أقران السلفية الجهادية، أو أنها منبوذة، فهي بنظر البعض مستحيلة التحقق ومتطرفة عند البعض الآخر وخارجية عند ثالث وباعثة على الفتن عند رابع وسبب رئيس في تشويه الإسلام عند خامس ومشبوهة عند سادس وهكذا. ولكن هذه التوصيفات لا تختلف كثيرا بالنسبة للسلفية عما واجهه محمد بن عبد الوهاب ومن بعده أئمة الدعوة النجدية حين جهروا في دعوتهم إلى التوحيد، بل أنها لا تختلف عما واجهه الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه في أعقاب حادثة الإسراء والمعراج، فمن صدق حينذاك، غير قلة في مقدمتها الصحابي الجليل أبو بكر، بأن ما وقع كان حقيقة؟ فهل سيصدق أحد أن ما تفعله السلفية اليوم منطقي؟ أو مشروع؟ أو ممكن التحقق؟     

       لا شك أن ضربة 11 سبتمبر وحرب العراق وما أعقبهما من ظهور الجماعات الجهادية وفي مقدمتها تيار السلفية الجهادية مثّل فرصة ثمينة جدا لفهم الظاهرة، ولا شك أن الإعلام الجهادي الإلكتروني عبر عشرات الشبكات الجهادية قد وضع النقاط على الكثير من الحروف ونجح إلى حد كبير في استفزاز الباحثين والدارسين للاطلاع على حقيقة الخطاب السلفي الجهادي ليس من خلال الرموز فقط بل، وهو الأهم، من خلال رؤية الرواد والكتاب والعلماء وطلبة العلم والمنظرين وما يطرحونه من مواقف ورؤى. والحقيقة أن هذه الأطروحات، الواقعة في إطار حرب الأفكار الدائرة في ساحات المنتديات بين مختلف التيارات الإسلامية الجهادية وغير الجهادية، كشفت عن بعض مكنونات الظاهرة وكيفية التصدي لها بالبحث. لكن، يبقى الإشكال الرئيس في قدرة الباحث على الاستمرار في متابعة الظاهرة التي نؤكد، للمرة الثانية، بأنها مرهقة جدا ومهمة عسيرة للغاية خاصة ما تصدره الشبكات أو ما يدور في المنتديات من حوارات ساخنة وتعبير عن المواقف التي تمثل، ولا ريب، رصيدا معرفيا خاما وهائلا باشتماله على أدق التفاصيل ومختلف التوجهات، ولعل معاينة كبريات القضايا التي تطرحها السلفية الجهادية لا ينبغي، منهجيا، أن يخرج عن هذه الساحات.

        في مناسبات سابقة، كنا قد بحثنا في جذور نشأة السلفية الجهادية، وسلطنا الضوء على بعض أفكارها[1]، ولكن عذرية الظاهرة تتسبب دوما، ودون رحمة، بإلقاء المزيد من التساؤلات الغزيرة عن ماهية هذه الأطروحات بحسب فهم السلفية الجهادية لها؟ ومن يصنع القيادة فيها؟ وبأية شروط؟ ووفق أية آليات؟ ولماذا تحتاج الأمة إلى قيادة؟ وراية؟ وما علاقة سايكس بيكو بنوعية القيادة؟ ولماذا ترفض السلفية تسليم القيادة لأية جماعة أخرى؟ أما لماذا هذا العناء فلأن الظاهرة لم يجر توصيفها حتى الآن، ولما يكون الأمر كذلك فهل بمقدورنا، كباحثين، تحليلها؟ ناهيك عن نقدها؟

       الأكيد أن التساؤلات كثيرة وكبيرة، أما الإجابات فقليلة إن لم تكن نادرة أو خاوية إنْ وجدت، والأسوأ أن السلفية الجهادية ذاتها ما زالت تقدم خطابا بلغتها هي لا بلغة العصر ولا بلغة العامة، وخطابا، إذا ما قسناه بلغة العلم، فهو أقرب إلى خطاب النخبة منه إلى خطاب العامة من الناس بمن فيهم المثقفين، فإذا نادت السلفية، مثلا، بمقاومة “الطاغوت” أسقطته الغالبية حصرا على الحاكم وحده وعدّته خروجا على الإمام، وإذا نادت بمحاربة “سايكس – بيكو” رأت فيه العامة والخاصة فتنة ورجعية وخروجا عن التحديث وسنن التغيير، وإذا ربحت معركة وصفوها بالإرهاب وإذا خسرتها حملوها المسؤولية، ومع كل هذه التناقضات تستمر السلفية الجهادية كظاهرة في تحديها دون أن تلتفت كثيرا لما ينتظرها، هكذا هي في أفغانستان والعراق ولبنان والشيشان وباكستان … وبصورة تبعث على الدهشة فعلا حيثما وجدت، فما من جماعة جهادية أو حركة تحرر سابقة عليها اشتغلت بنفس الطرق والأدوات ماضيا وحاضرا، ولعلنا كنا نسمع ونراقب على الدوام، ولمّا نزل، عن محاولات سياسية من جماعات جهادية ووطنية تبدي استعدادها للمفاوضات ولو بشروط بينما لم نقع على أية مبادرات من هذا النوع من قبل السلفية الجهادية اللهم تلك التي لا تخلو من إهانة للقوى الغازية

     وبشروط عسكرية صرفة أو شرعية[2].

     

    المحور الأول: لغة السلفية الجهادية في مسائل معينة

     

       بداية لا بد من الحسم بأنه لا يهمنا مطلقا أن نقبل أو نرفض لغة القوم بقدر ما يهمنا معرفة المعنى وما ترمي إليه حقيقة، إذ أن الظروف لا تتيح لنا أكثر من التوصيف والتحدث بلغة الظاهرة علّنا نفهم بعض ما تشي به من مضامين ما زالت خبيئة أو أنها عصية على الفهم خاصة وأنها تُطرَح بلغة العلم الشرعي فيما الغالبية الساحقة من الأمة بعيدة عن العلم بعقيدتها أو فهم مراميها، فلنتحدث إذن بلغة ميسرة قريبة من الأفهام، مع التأكيد على أننا لا نرى غضاضة في استخدام أدوات تحليل من شأنها أن تساعد على فهم الظاهرة دون أن يعني ذلك بأي حال من الأحوال المس بجوهر المسائل المطروحة أو إحداث أي خدش يقلل من قيمة التوصيف.

     

    أولا: ثقافة التوحيد

       يردد الشيخ أسامة بن لادن حكمة تقول: “من أصعب المهمات توضيح الواضحات“. ولعل أصعب قضية في عقل السلفية الجهادية وأثقلها على المسلم هي قضية التوحيد، إذ ما من قضية يعادل وزرها وزر التوحيد. هذه القضية، بداية، تعني في اللغة الإفراد والتفرد الذي لا نظير له ولا شريك، وفي الاصطلاح الديني هو الشهادتان وتحقيق مقصودهما، وأول الأركان الخمسة، ويقسم إلى ثلاثة أقسام:

    ·      توحيد الربوبية، وهو إفراد الله تعالى بأفعاله كالخلق والملك والتدبير والإحياء والإماتة، ونحو ذلك.  

    ·      توحيد الألوهية، وهو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة قولا وعملا، ونفي العبادة عن كل ما سوى الله كائنا من كان، ويمكن أن يعرَّف بأنه: توحيد الله بأفعال العباد، وهذا النوع هو الذي وقع فيه الخلل، ومن أجله بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وخلق الخلق، وشرعت الشرائع، وفيه

    وقعت الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم.

    ·      توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله عز وجل بما له من الأسماء والصفات عبر (1)  إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو ما أثبته له الرسول صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات من غير تحريف لها أو تأويل لمعناها أو تعطيل لحقائقها أو تكييف لها و (2) تنزيه الله عنكل عيب، ونفي ما نفاه عن نفسه من صفات النقص.

        ولكن في الواقع ماذا نفهم من التوحيد غير ظاهر القول؟ بل ما هي العلاقة بين التوحيد والواقع المعيوش؟ وإذا ما طبق المفهوم على السياسة والاقتصاد والثقافة والجهاد وغيرها من دروب الحياة الاجتماعية والدينية

    فهل سيختلف الأمر؟ وهل سيكون للتوحيد معنى مختلف عما هو كائن؟

        لو سألت مسلما سؤالا بسيطا: ما هو دينك؟ لأجاب على الفور: إنه الإسلام، ولو أردت استفزازه فاسأله: هل تقبل أن تكون نصرانيا أو يهوديا؟ ذلك أن الوجه الآخر للتوحيد هو الشرك. ومن يتخذ من التوحيد دينا له فلأنه يدرك قطعا{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (لقمان 13)، وعليه فإذا ما تلقى مسلما، أيا كان تدينه، وصفا له بالنصراني أو اليهودي فهو، في الواقع، كمن تعرض لشتيمة وإهانة من العيار الثقيل،ولعلي أذكر حادثة وقعت في إحدى حافلات النقل العام في الجزائر حين صعد أحد المخمورين إليها وهو يتأرجح يمنة ويسرة على الركاب حتى هوى على السائق سقوطا فاغتاظ ونهره موبخا إياه على سكره قائلا:” راك يهودي؟“، بمعنى هل أنت يهودي؟ فما كان من الرجل إلا أن جن جنونه وخرج عن كل طور وهو يشتم ويصيح ويعربد محتجا على الوصف ومرددا عبارة “أنا مسلم موحد، أنا كافر؟ أنت اليهودي … أنا موحد … أنا موحد … أنا أقول لا إله إلا الله وأنت تقول عني يهودي … ينعن بوك يا وِلْد …“، وفي المقابل، إذا اختلف أحدنا مع الآخر أو طغى أو غضب ترى من حوله يتطوعون لزجره وإعادته إلى جادة الصواب بالقول: “وحد الله” أو “صلي على النبي“.

      هاتان صورتان تعكسان، ولا شك، مكانة التوحيد في نفسية الفرد، لكن هل يمكن القول أن الأمة على توحيد خالص؟ سؤال يصلح للبحث بامتياز، أما من حيث المبدأ عامة ومشاهد الحياة الاجتماعية والثقافية اليومية خاصة فليس من الصعب الإجابة عليه بالنفي، بل أن من يقرأ الكتب التاريخية في المائتي سنة الأخيرة من الحكم العثماني سيصاب بدهشة من فظاعة أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي سادت بين الناس، والتي وصلت في مناطق كثيرة خاصة في شبه الجزيرة العربية إلى ما يشبه الردة، فالفساد والرشاوى وأسعار الفائدة والابتزاز والسلب والنهب والإغارات القبلية والسمسرة والنفاق والكذب والزوايا والاستغاثة بالسحرة والمشعوذين والأموات والتبرك في القبور كانت علامات بارزة في حياة الناس الذين تعاملوا معها كما لو أنها عادات اجتماعية وحقائق راسخة خاصة وأننا نتحدث عما يشبه القيم التي عاشت بين الناس وبلغت من الزمن عتيا.

       على أن أغرب ما في كَتَبَة هذا التاريخ أن الباحث قد لا يجد في متونها ولا حواشيها إنكارا أو تلميحا إلى مخالفة شرعية لا من شيخ ولا من مؤرخ ولا من عالم أو فقيه، ولولا بعض الحركات الإسلامية والدعوية كالوهابية في الجزيرة وغيرها في السودان ومصر لكان حقا على المرء أن يتساءل فعلا: أوَلم يشعر هؤلاء الناس من الأجداد أن الشرك يداخلهم من كل ناحية؟ وأنهم باتوا، في ضلالاتهم وبدعهم، أقرب ما يكونوا إلى الشرك من قربهم إلى التوحيد؟ وهل يمكن الحديث في ظل هذا النمط من الحياة عن مجتمع إسلامي أو أمة مسلمين؟

            الحقيقة لمن يطلع على مجريات الحياة الاجتماعية العربية في أواخر الحكم العثماني سيغلب عليه الشعور وكأنه يقرأ تاريخا لمجتمعات وثنية أكثر منها مجتمعات إسلامية. فأي نوع من التوحيد هذا الذي يجعل أهله ممن قست قلوبهم وغلظت طباعهم وجَلُفَ سلوكهم؟ بينما الدين المعاملة؟

       إذن لعل الأمة[3]، ومنذ قرون من الزمان، تبدو أبعد ما تكون عن التوحيد رغم أنها عاشت في خضم غطاء

    إسلامي ممثلا بالخلافة، فكيف يكون حالها وهي خارج هذا الغطاء منذ نحو قرن من الزمن؟ ألا ينطبق عليهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:“إذا تبايعتم بالعينة، وتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلاًّ لا يرفعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم”؟

       في المقابل فلعل أهم ما أنجزته السلفية الجهادية في التاريخ الراهن لهذه الأمة أنها أعادت إحياء وتفعيل التوحيد كأهم مصطلح شرعي على الإطلاق لا يوازيه في المكانة والعمل حتى إعلانها للجهاد. فهي تقيس كل سلوكها وفعالياتها طبقا لمفهوم التوحيد ودلالاته وشروطه بوصفه الباروميتر الذي سيؤدي العمل به إلى إعادة استنبات جديدة لكل التشريع الإسلامي بحيث يكون بديلا عن كل التشريعات الأخرى ويسعى لخلق ثقافة مغايرة على النقيض من كل الثقافات والأيديولوجيات التي جلبتها معها سايكس – بيكو.

       لا ريب إذن أن عقيدة التوحيد ينبغي أن تكون مقدمة لأية فعاليات تقع على مستوى الأمة باعتبارها منهاج حياة وليست قولا في اللغة ولا مجرد اصطلاح في الدين، ذلك أن الزج بالمفهوم في خضم الحياة اليومية سيقدمه باعتباره الفيصل في الحكم على النوازل التي قد تصيب الفرد والجماعة والأمة مثلما هو الفيصل في الحكم على سلامة الاعتقاد والوطن والمقدسات والحقوق والواجبات، وهو الفيصل في الحكم على كل فعل أو سلوك، وهو الفيصل في الاجتماع والانقسام، بل هو الفيصل في تقرير الأمور لكل الموجودات من خلق الله وما ينتج عنها. وهذا يعني أنه ما من مرجعية يمكن أن يعتد بها غير التوحيد وإلا فهي باطلة شرعا وقاصرة عقلا، وهذا ينسحب على الأيديولوجيات والسياسات ذات المصادر الوضعية. هذا هو الاعتقاد عند السلفية الجهادية ودونه “زخرف القول والحياة الدنيا“. لذا فإن أول ما تعنيه السلفية بالقول أن كل سلوك يخالف عقيدة التوحيد هو بالضرورة سيكون واقعا خارج التوحيد بقدر ما، وفي هذه الحالة فصاحب السلوك المخالف يمكن أن يُحكَم عليه، بحسب قربه أو بعده عن التوحيد: بالآثم أو العاصي أو الفاجر أو الفاسق أو الظالم أو المفارق للجماعة أو الكاذب أو المنافق أو الضال وصولا إلى المرتد والكافر.

      بطبيعة الحال تنتظر السلفية الجهادية من إسقاط المفهوم على الحياة الاجتماعية والاقتصادية تغيرا جوهريا في أنماط المعيش والتفكير والسلوك الإنساني والسياسي والاقتصادي والثقافي، بحيث يغدو التوحيد معيارا لسلامة الإيمان وحسن السلوك وعقلانيته بما أنه لن يصدر عن الهوى بقدر ما سيتقيد بمتطلبات الحكم الشرعي، وإذا كانت سايكس – بيكو تهيمن على الأمة عبر تجزئتها وتفكيكها وغزوها بثقافات وافدة واستباحة أراضيها ومقدساتها وحرماتها والمساس بدينها وعقيدتها وفرض الأنظمة والقوانين الوضعية عليها[4] وخلق أنماط ثقافية ومعيشية تلائمها فإن تفعيل ثقافة التوحيد سيكون بالمرصاد لكل مخرجات العقلية الوضعية ومن يدافع عنها أو يروج لها أو يحتمي بها. وسيجد المسلم نفسه، تحت سقف التوحيد، مدعوا للاستجابة{ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } (الأنفال 24) وليس لصناديق الاقتراع والصراعات الفكرية والحزبية والمفاوضات والمساومات والتحالفات المشبوهة والمصالح التنظيمية والحزبية،كما سيجد نفسه مدعوا للاختيار بين ثنائيات القانون الإلهي أو القانون الوضعي، والعدالة الاجتماعية أو الظلم، والاستقامة أو الفساد، والجهاد والتضحية أو السلامة والذل، والتواضع أو الكِبْر، والصدق أو الكذب، والصرامة أو الميوعة، والحق أو الباطل، وهكذا وصولا إلى التوحيد مقابل الشرك.

        ورغم أن الحقيقة الصارخة في أيامنا تثبت أن التوحيد غدا، منذ زمن ليس بالقليل، إشكالية عصية على الفهم والالتزام لكن لا مفر منها ولا بديل عنها ولا يمكن المساومة فيهاأو عليها، إذ أن التوحيد عقيدة ليست من صناعة البشر ولا الظروف، ولأنها عقيدة ربانية خالصة فهي من الحسم بحيث لا تتقبل أية اجتهادات أو رؤى أو تأويلات خارج ما تفرضه من شروط، ولا تقبل بأية مبررات تاريخية تجاه هذه الجماعة أو تلك، ولا تتسامح مع أية مواقف سياسية إلا بإخضاعها حكما لعقيدة الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين والبراء من الشرك والكفر والطواغيت، وعليه فإن التوحيد بالنسبة للسلفية هو عقيدة كالسيف القاطع، تقسم ولا تقبل القسمة، وتأمر فلا تقبل نفاقا ولا كذبا ولا إفكا ظاهرا أو باطنا، وتَقهَر ولا تُقْهَر، وتفضح كل تُقيا ولا تبالي، وتفرض ولا تجادل، وتبقى هي وما دونها من عقائد وأيديولوجيات تزول، أما من اختار الجهاد فله القول الفصل:{فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (العنكبوت 6)‏[5].وأما من تأول وثَقُل عليه التوحيد فلن يفيده ليّ النصوص ولا العبث بها حتى لو نجح في مسعاه، إذ أن: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}(الكهف29)، ولأن”الحق أحق أن يتبع“، فالدوران ينبغي أن يتجه حيث “تدور العقيدة[6] وليس حيث تستدعي الظروف والمصالح وموازين القوى.

      هذا المنطق الصارم يمكن إسقاطه على الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلم والأخلاق والمعاملات والعلاقات الاجتماعية والروابط القرابية… والمقارنة مع منطق الوضعية، ولكننا سنتتبعه هنا فقط في ساحات الجهاد حيث يجري تفعيله على نطاق واسع باتساع الساحات، وسنلاحظ أي نوع من العقليات تربي السلفية الجهادية أبناءها عليه، وأي عقليات تنتج مقارنة بعقلية الجهاد والنضال الوطنيين:

    ·        { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } (الأنفال 67).

    ·        { أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ }‏(الفتح 29).

    ·        { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ }(التوبة 73).

    ·        { أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}(الإسراء 5)[7]

    ·        { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ} (آل عمران 126).

    ·        [ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ ]، [حديث نبوي صحيح].

       إذن التمحيص عبر المزيد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية[8] تحيلناحتما إلى العقلية السائدة في التعامل مع الأعداء، وهي عقلية جهادية صيغت بموجب المرجعية الدينية لتكون محملة بسمات الغلظة والبأس والشدة والذبح والإثخان في الأرض بالنسبة للأعداء يقابلها عقلية اللين والرحمة بالمؤمنين، والملاحظ بجلاء أن النبي ذاته كان أول من التزم بالتعليمات الإلهية وأول من أُمِر:

    ·        بأن يهدد بالذبح قبل أن يخوض معركة؛

    ·        وأن يثخن في الأرض وهو في المعركة أولا قبل أن يأسر من العدو؛

    ·        وأن يجاهد بالغلظة؛

    ·        ويتحلى بالشدة والبأس على الأعداء؛

    ·        ويترحم بالمؤمنين؛

    فمن الأولى بالمسلمين والمجاهدين، تأسيا بالمنهج النبوي، وليس اجتهادا ولا بدعة، أن يلتزموا في ميادين المعارك وخارجها بالتوجيهات الربانية بديلا عن أية مرجعيات أخرى، ولما يكون هذا هو الأساس في التعامل مع العدو فكيف يصح لهم، بحجة الاجتهاد وتعدد أشكال الجهاد[9]، بأن يلجوا باب التفاوض والمساومات والديمقراطيات ويعرضوا عن الجهاد وهم في قلب المعارك وصولات الأعداء في بلادهم؟

    لا شك أنها عقلية لا يمكن أن تنتجها ثقافة سايكس – بيكو أبدا بقدر ما تنتجها عقلية التوحيد، وحتى هذه فإن تطبيقاتها في التجنيد فريدة إلى حد ما خصوصا إذا عرفنا أن أغلب مقاتلي السلفية الجهادية هم من صغار السن أو ممن لم يخوضوا تجارب أيديولوجية علمانية أو إسلامية وطنية وبالتالي فلم تتلوث عقولهم ولم تهرم. إنها عقلية العذارى الذين يتقبلون ثقافة التوحيد[10] ويقدرون على تحملها أكثر من أولئك الذين علقت برؤوسهم أيديولوجيات ورواسب على الأغلب ستحد من نقاوة توحيدهم وقدراتهم على الالتزام بأسخن مخرجاته، فقد يتحمل هؤلاء دخول المعارك التقليدية بالأسلحة النارية ولكن أنَّى لهم أن يتحملوا معارك “الذبح” و “الغلظة” و”الشدة” و “البأس“؟

       كانوا يقولون: فقط اصمدوا قليلا قدر يومين، وماذا بعد؟ بعدها ستجدون العالم كله يناصركم ويهب لنجدتكم، فلا صمد أحد ولا وصلت نجدة، ولكن هذه هي عقلية سايكس – بيكو وهي تستنجد بالروس أو بالشرعية الدولية أو بأحرار العالم ناهيك عن الأشقاء والأصدقاء، ولا ريب أنه ثمة فرق بين عقلية العمل والدعاء والتوكل على الله بصيغة {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(التوبة 105)، أو {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ} (الأنفال 10)وبين عقلية الاتصالات السياسية والوساطات والتدخلات والشرعية الدولية. وثمة فرق أعظم بين ثقافة الجهاد وثقافة المقاومة والنضال[11]، وفرق مماثل بين عقلية تستنجد بالله وتستمد النصر من عنده غير آبهة بالنتائج، بعد الإعداد بقدر الاستطاعة، وأخرى تحسب حسابا دقيقا أو مغلوطا لموازين القوى السياسية والعسكرية وما إذا كانت الظروف ملائمة لخوض معركة أم لا.

       هذا المنطق الصارم أيضا يمكن استعماله لملاحظة ردود الفعل على فعاليات الجهاد بالمواصفات السلفية، ذلك أن أقل الاتهامات الموجهة للمجاهدين هي الدموية والقتل والإجرام وسفاكو الدماء[12]، فما تقوم به مثلا دولة العراق الإسلامية والقاعدة ليس من الجهاد في شيء وليس من الأخلاق الإسلامية، أما لماذا؟ فلأن العدو إذا كان يسمح لنفسه بالقتل العشوائي وارتكاب أبشع جرائم الحرب ضد الإنسانية ويستعمل أشد الأسلحة فتكا بما فيها المحرم دوليا فهذا شأنه! أما نحن فأخلاقنا الإسلامية وديننا لا يسمحان لنا بمجاراته في جرائمه ولا بالتشبه بأفعاله، لذا علينا ألا ننزلق إلى أخلاقه!، وكأن خصوم السلفية، بهذا الخطاب، ينتظرون منها جهادا رقيقا ناعما يستجيب للغة العصر ويرأف بالأعداء!، أما { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }(البقرة 194)فهذه مسألة فيها ما يقال. وغني عن البيان أن مثل هذه الردود لو عملت بها السلفية الجهادية لما كان هناك جهاد إلا بمواصفات سايكس – بيكو الوطنية وهو ما تعده السلفية خارج التوجيهات الدينية ومخالفا للشرع وحينها ما من معنى للغلظة والشدة والإثخان[13].

       لكن الخلاف بين الجهاد الوطني والجهاد السلفي لا يتوقف عند عقلية الشدة والبأس بقدر ما يمتد ليصل إلى تخوم جبهة الأعداء، فالعدو عند السلفية هو عدو سواء كان محليا أو أجنبيا، ولأنه كذلك وحالة العداء قائمة فلا تصالح معه ولا مهادنة، لكنه عند الخصوم يمكن أن يكون بريئا وضحية كما هو الحال بالنسبة لضحايا أبراج التجارة العالمية أو تفجيرات لندن ومدريد وبالي وغيرها أو حتى جنود الاحتلال الأمريكي. أو حين دمرت جماعة التوحيد والجهاد مقر الأمم المتحدة في العراق. وفي المحصلة فإن مثل هذه الأحداث التي خفت حدتها ظلت تستعمل كمبررات للطعن في مشروعية الجهاد العالمي. لكن الأطروحة السلفية تؤكد أن الخلاف قائم ليس على شرعية الأهداف من عدمها بل على مضمون التوحيد نفسه وما يفرضه من اختيارات والتزامات بعكس ما تفرضه المرجعيات الوطنية وتأويلها للتوحيد. فبعض الجماعات الإسلامية ناهيك عن العلمانية أصبحت مغرمة بعقلية سايكس – بيكو لدرجة أنها لم تعد قادرة على مغادرتها، والأعجب أنها باتت خيارها الذي تدافع عنه بشراسة وتبحث لها عن موطئ قدم وشرعية في إطاره الأمر الذي يعرضها إلى نقد شديد من السلفية الجهادية وهي تأخذ عليها مثلا:

    ·        التفريط بالحاكمية؛

    ·        وتضييع عقيدة الولاء والبراء؛

    ·        والتخلي عن الأهداف التي وجدت من أجلها؛

    ·        وحصر نفسها في أطر ضيقة؛

    ·        وتبعا لذلك السعي للتفاهم مع أعداء الأمة والدين إن لم يكن التحالف معهم؛ وبالتالي فبأي حق ومضمون تعرِّف عن نفسها كجماعة إسلامية[14]؟

         وفي السياق من الجدير الإشارة إلى أن مسألة التوحيد تشكل جوهر الخلافات التي تعصف بالجماعات الجهادية في العراق على خلفية مستقبل البلاد وبالتحديد بين تيارات السلفية الجهادية من جهة وتيارات الجهاد ذات النزعة الوطنية من جهة أخرى. ويمكن القول بصريح العبارة أن كل الصراعات والاتهامات والتحالفات وردود الفعل والحملات الإعلامية وغيرها أيا كان محتواها أو آلياتها إن كان لها من منطق فهو منطق واحد لا يتجاوز مسألة التوحيد بأي شكل من الأشكال، إذ أن السؤال المطروح: هو: لماذا نقاتل؟ ولأية أهداف؟[15]:

    ·        إذا كان الجواب، بلغة السلفية، لتعميم جهاد التوحيد وتحرير بلاد المسلمين وإقامة حكم الله في الأرض فهذا يعني أن الجهاد ماض لن يتوقف بقدر ما سيعمل على عبور الحدود، فكما في العراق وأفغانستان والشيشان وغيرها موحدون ففي فلسطين والأردن وسوريا ولبنان ومصر والمغرب ونيجيريا وإندونيسيا والفلبين موحدون أيضا، فلمن يُترَك هؤلاء؟ وبأي نوع من التوحيد يمكن إرجاءهم وإهمالهم؟

    ·  أما إذا كان الجواب جهاد التحرير بغرض طرد الاحتلال واستعادة العراق لحريته وكفى الله المؤمنين شر القتال فمن الطبيعي أننا إزاء منظومتين فكريتين متناقضتين[16] ليس وقوع الصراع بينهما غريبا خاصة وأن التوحيد مسألة لا تقبل القسمة بحيث يمكن توزيعها وفقا لاحتياجات ومتطلبات هذه الجماعة أو تلك. فالتوحيد إذن واحد، وما ينطبق على هذه الجماعة أو البلد ينطبق بالضرورة على ذاك أو تلك.

        غير أن أهم الملاحظات على تعميم ثقافة التوحيد لدى السلفية الجهادية تكمن فيما تتلقاه من اتهامات بالتكفير لدرجة أن الخصوم باتوا يلمزونها أو يجهرون صراحة بوصمها وروادها بـ “التكفيريين“. على أن القاعدة تنفي هذه التهمة جملة[17]. وحقيقة الأمر أن مسألة التوحيد بحد ذاتها هي مصدر الاتهامات باعتبار الكفر أو الشرك رديفا لها، ولعل ساحات المنتديات في الشبكات الجهادية هي من ساهم مساهمة فعالة بتعميم فكرة التكفير بسبب المشاحنات الحامية بين الأعضاء والعجلة في إصدار الأحكام حتى على صغائر الأمور مع الإشارة إلى ما يراه الشيخ عطية الله وغيره اختراقات للمنتديات[18].

       لكن هذه المشكلة التي غالبا ما يقع تجاوزها في ساحة ما يستعصي مواجهتها في ساحات أخرى أكثر أهمية خاصة حين تكون في الميدان الجهادي أو على تماس مباشر مع المجتمع. فبعض المنتسبين للسلفية الجهادية وصلوا مرحلة من الاعتقاد والسلوك تستعصي على الفهم فيما يتعلق بالتوحيد والكفر ومتطلبات الحياة اليومية، وإذا ما تعارضت قناعاتهم وأفهامهم مع العلماء والفقهاء من السلف فلا يجدون غضاضة من التنكر لهم وعدم الأخذ عنهم، وحتى فقه الضرورات لا يعملون به ولا يقيمون له وزنا فتراهم عالة على أنفسهم وأبنائهم وغيرهم خاصة وأنهم لا يعترفون بمسجد ولا بمؤسسة ولا بهوية ولا بجواز سفر ولا بفاتورة كهرباء أو ماء أو هاتف ولا بأية علاقات مالية متضمنة لمدفوعات ضريبية للدولة، ولو رغبوا في الزواج لفضلوه بلا عقد! بل أنهم لا يتوانون عن التكفير لأتفه الأسباب، وإذا فعلوا قاطعوا الآخر حتى لو كان من أقرب المقربين فلا يسلمون عليه ولا يدعون له ولا يجالسونه ولا يجادلونه لا بالحسنى ولا بغيرها، والحوار معهم منقطع، ولعل النبذ والعزل كان من نصيبهم لما تسببوا فيه من التنفير والأذى للعامة والخاصة وللدين، ومثل هؤلاء يتبرأ منهم حتى أنصار السلفية الجهادية لجلافتهم وسوء معاملتهم وتطاولهم على المجاهدين وعلى مشايخهم[19]

        واقع الأمر أن هذه الخلافات والردود والصور مبررة بما أنها تكشف حقيقة عن أن التوحيد في الأمة موضع خلاف بالنظر إلى اختلاف منظومات القياس لدى القوى الإسلامية ناهيك عن القوى العلمانية، وحتى أنه موضع جهل مدقع لدى الأفراد، فالأمة حتى هذه اللحظة لم تبلغ تحقيق التوحيد بعد، وليست على دراية به ويصعب التعويل عليها بالنظر لحجم التخريب الذي أوقعته الأنظمة السياسية والثقافات الغربية في عقولها[20]، ومع ذلك فالسلفية الجهادية ماضية في شدتها وغلظتها حتى لو كلفها ذلك حياة كل رموزها ومقاتليها، ولا يتسع المجال لذكر الكثير من الشواهد والاستدلالات على ذلك، لكن من الملفت للانتباه ملاحظة العبارة الطريفة التي قالها أبو حمزة المهاجر في خطاب له وهو يعقب على سياسات الحزب الإسلامي تجاه مشاركتهم في حكومة نوري المالكي وعلى الإخوان المسلمين في العراق وغيره: لا نريد منكم شيئاً؛فقط دعونا والعدو فإن انتصرنا عليه فهو عزّ الدنيا والآخرة لنا ولكم، وإن قضي علينا فهي شهادةٌ لنا وتكونوا قد استرحتم منا ولن تلقوا الله بدمائنا[21].

     

    ثانيا: “محاربة الطواغيت”

       يحفل لسان العرب لابن منظور بعديد المعاني والدلالات المشتقة من كلمة “طَغي” التي تعني في أول معانيها “جاوز القدْر وارتفع وغلا في الكفر“. ومن تصريفاتها اللغوية ومنها “الطاغوت أو الطواغيت“، وتنسحب على “الواحد والجمع والمذكر والمؤنث” من “الجن والإنس“، وتتخذ من المعاني أسماء ودلالات لها كـ “الشيطان” و”الكاهن وكل رأس في الضلال” و “الأصنام” و “الأحمق المستكبر الظالم” و “الذي لا يبالي ما أتى يأكل الناس ويقهرهم لا يثنيه تحرج ولا فَرَقٌ” و “من طغى بالكفر وجاوز الحد” و“هم عظماؤهم وكبراؤهم” و “الجبت والطاغوت” حيث ينسحب “الجبت” على أسماء بعينها مثل “اليهوديان حيي بن الأحطب وكعب بن الأشرف” فيما “الطاغوت” توصيف يمس “رئيس النصارى” كـ “ملك الروم“.  

       هذه التوصيفات اللغوية غالبا ما يقع إسقاطها على الحاكم، ففي كل مناسبة نجد دعوات تنهال على الحكام  الطواغيت مصحوبة بسيل من الاتهامات بموالاة الكفار والمشركين أو بمنعهم الجهاد أو بقمعهم لشعوبهم أو بسيطرتهم على ثروات البلاد أو بهيمنتهم على الشعوب أو حتى باختزال الوطن بشخصياتهم، في حين أن الطاغوت في التوصيف القرآني ليس له هوية أبدا، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ}(البقرة 256)،  ومن الواضح أن الآية:

    ·       فيها عموم (الطاغوت) بحيث يدخل فيها الحاكم وغير الحاكم من الناس وغير الناس.

    ·       كما أنها لم تحدد هوية الطاغوت الدينية هل هو المسلم أم الكافر.

    ·        مثلما أنها لم تحدد جنسيته هل هو عربي أم أجنبي، وهل هو أفريقي أم آسيوي، وهل هو أوروبي أم أمريكي …الخ

    ·       فضلا عن أنها لم تحدد هوية الطغيان فيما إذا كان اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا أو ثقافيا…الخ

    ·       وبالتالي فالآية تنبئ عن طغاة وطغيان كائنين في كل مكان وزمان.

    واقع الأمر أن للمفهوم سعة لا حدود لها بحيث ينطبق على الفرد والمجتمع والمؤسسة والحزب والجماعة والأيديولوجيا مثلما ينطبق على كل ما يعبد من دون الله سواء كان مسلما أو غير مسلم، ولعل سبب حضوره الطاغي في عالمنا العربي والإسلامي أكثر من غيرهما أن الحاكم بالذات هو المتهم بكونه طاغوتا يمارس الطغيان، فالحاكم، بعرف السلفية الجهادية[22]، جاوز كل حد في تبعيته للقوى العدوانية والشريرة والكافرة ونسج معها كل التحالفات الضامنة لبقائه في الحكم وتوريثه وخاض الحروب ضد شعبه وضد المسلمين بشكل مباشر أو بالوكالة، وهو الأمر الذي يدخل في بابي الاضطهاد أو الاستعانة بالمشرك على المسلم ما يكفي لإخراجه من الملة. بل أن السلفية الجهادية تذهب أبعد من ذلك حين توسع من المفهوم بالقدر الذي يتيح لها أن تسبغ على الحاكم صفتي الهيمنة والنفوذ اللتين تجعلان منه ليس مشركا فقط بقدر ما بات وكأنه صار “ربا يعبد من دون الله في الأرض[23]، فهو الحاكم المطلق بأمره، المشرع من دون الله والحاكم بغير شريعته، وهو المتصرف بأمر البلاد والعباد، وهو الرئيس المؤمن والإمام المبايَع وصاحب العطايا والهدايا، وقائد الجيش ورئيس البلاد وباني عزها ونهضتها ومجدها، وهو كبير تجارها وأثريائها ومشايخها وأمير أمرائها، ولديه من الصفات ما يشبه الغزل ومن الألقاب ما يجعله صاحب سلالة ومن النياشين ما يثقل كاهله ولا يتسع لها صدره، ومن المنجزات ما جعل شعبه من أرقى الشعوب ووضع دولته في مصاف الدول المتقدمة! بل هو فرعون العصر بحسب تعبير جماعة الجهاد المصرية.

       هذا الحاكم ظل حريصا على تراث ميكيافيلي ووفيا لمبادئه ونصائحه، لكنه ليس مثيلا لقادة أوروبا الميكيافيليين الذين يلعبون دورهم المسند إليهم، ففي عالمنا العربي خاصة والإسلامي عامة يتجاوز الحاكم حتى النزعة الميكيافيلية نحو نزعة عجيبة غريبة على الحكام في الدولة الحديثة. وفي هذا السياق يقدم المفكر الكويتي عبد الله فهد النفيسي توصيفا طريفا لما يسميه بـ”الطغيان السياسي” العربي الذي يعد واحدا من بين ثلاثة مشاكل تعاني منها الأمة العربية بالإضافة لـ “سوء توزيع الثروة والتحلل الاجتماعي“، ويرى أن هذا الطغيان الذي يعني “استئثار القلة بالقرار السياسي” على حساب الأغلبية زاد في دول الخليج لأن “النظم الحاكمة في الجزيرة العربية بلا استثناء تمارس الحكم والتجارة في نفس الوقت، فهي تحكم وفي نفس الوقت هي كتل في السوق تزاحم الناس على أرزاقها، هي تشتري الأراضي وتبيع الأراضي وتدخل في مقاولات ومناقصات وتدخل في عالم المال والأسهم وإنشاء الشركات وإسقاطها، وفي نفس الوقت تقرر سياسيا، والذي يجمع الحكم والتجارة حتما سيحرف القرار السياسي لمصلحته، ولذلك كان هذ