ريحانة برس
ما علاقة الاستبداد السياسي بالاستبداد الديني؟ هل الاستبداد الديني مظهر من مظاهر الاستبداد السياسي؟ أم العكس؟
الاستبداد قديم قدم الإنسان، ممارسة ومقاومة. وتناوله بالحديث والدراسة والنقد والتحليل قديم قدم الحضارات العريقة، كأحد القضايا الرئيسية التي شغلت بال البشرية، واستحوذت باهتمام فلاسفة ومفكري وسياسيي كل عصر.. حتى من قبل أفلاطون وسقراط وأرسطو، ومرورا بالعلماء المسلمين من أمثال سعيد بن جبير وحسن البصري والإمام أحمد، ثم الفيلسوف ابن رشد وعالم العمران ابن خلدون.. إلى أن وصل الحديث عن الاستبداد إلى عصر الأنوار وعصر النهضة الأوروبيتين، ثم إلى عصرنا الحالي منذ عبد الرحمان الكواكبي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو، وبعدهم مالك بن نبي وبرهان غليون، إلى عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وأحمد الريسوني.. وغيرهم..
وفي وقتنا الحاضر ما يزال الاستبداد كظاهرة سياسية واجتماعية فارضا وجوده على البشر، مما يعني أنه سيعيش مع الإنسان إلى قيام الساعة، ولكن بأشكال ومظاهر وصور تناسب كل مجتمع وكل عصر..
وللاستبداد مرادفات عديدة تقاربه في المعني وتصاحبه في المضمون وتماثله في الممارسة.. ومن بينها الظلم، الجور، الطغيان…
وليس عبثا أن وصفه ابن خلدون في مقدمته باستعمال كلمة «الظلم» حيث قال: «إن الظلم مخرب للعمران، وهذا الخراب عائد على الدولة بالفساد والانتقاض».
أما عبد الرحمن الكواكبي فقد عبر عن ذلك في كتابه “طبائع الاستبداد” «الاستبداد يقلب الحقائق في الشعور، فيجعل الناس ينفرون من العدل، ويميلون إلى الظلم، كما يجعلهم يحتقرون الحرية، ويحبون الذل. حتى إذا طال أمد الاستبداد، صار الناس لا يرون لأنفسهم مخرجًا إلا بالرضا به والتغني بفضائله.»
أكتفي بهذين المثلين لأبين من خلالهما خطورة الاستبداد على الفرد والمجتمع والدولة.. على أن تكون لي عودة مفصلة لهذا الموضوع من خلال كتاب مستقل أو مجموعة مقالات متتالية..
مناسبة هذه المقدمة، والمناسبة شرط كما يقول الفقهاء، هو تصريح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق حول خطباء الجمعة الذين امتنعوا عن تلاوة الخطبة الموحدة، المسماة: «تسديد التبليغ»، واصفا إياهم بالخوارج.. وعلى إثر ذلك، نضع السؤال التالي؛ هل يمكن اعتبار ما قام به السيد الوزير يندرج ضمن الاستبداد الديني؟
وقبل الجواب عن هذا السؤال، لابد من إعطاء تعريف للاستبداد الديني على لسان بعض العلماء والمفكرين، وعليه يقول الكواكبي: “الاستبداد الديني هو أقبح أنواع الاستبداد، إذ يجعل الناس يعتقدون أن طاعة الحاكم طاعة لله، وأن التمرد عليه كفر وخروج عن الملة.”
أما محمد عابد الجابري فيعطي تعريفا أدق حيث يعرفه: “الاستبداد الديني هو حين تتحول المرجعية الدينية إلى سلطة فوق العقل، ويُمنع نقدها أو إعادة النظر فيها، فتغدو أداة لتعطيل الفكر، لا تحفيزه.”
أما العلامة الدكتور أحمد الريسوني فقد كان تعريفه أكثر تقدما وواقعية حيث قال: “الاستبداد السياسي لا يقوم ولا يدوم إلا إذا استند إلى استبداد ديني يهيئ له الغطاء الشرعي، ويقنع الناس بأن طاعة الحاكم هي طاعة لله، وأن الخروج عليه فتنة وحرام.” المصدر: مقالات منشورة في موقعه الرسمي، 2013.
ويضيف في موقع آخر: “الذين جعلوا الحاكم ظلّ الله في الأرض، أو اعتبروا طاعته من طاعة الله، قد سوّغوا الاستبداد الديني والسياسي معًا، وأطفؤوا نور الشريعة وعدلها.”
وبناء على هذه التعريفات المختصرة، فإن الاستبداد الديني هو نمط من أنماط الاستبداد، يتمثل في توظيف الدين أو المؤسسات الدينية لخدمة السلطة السياسية، أو في استعمال الدين ذاته كأداة للهيمنة على العقول وتبرير القمع والتمييز.
وهو يحدث عندما:
– تستأثر فئة معينة بفهم النصوص الدينية وتفرضه على المجتمع وتلزمه بتطبيقه وفق منظورها وشروطها.
– تُستخدم الفتاوى كغطاء لتكريس الطاعة للحاكم، ومنع المعارضة أو الرأي المخالف.
– فرض نموذج واحد من الخطب أو القراءات القرآنية أو الأشكال التعبدية المحددة.
– يُجرّم التفكير الحر والاجتهاد، ويُصوَّر كل نقد على أنه عداء للدين وإثارة للفتنة.
لذلك عندما فرض السيد الوزير خطبة جمعة واحدة وموحدة على سائر مساجد المغرب، وحذر من مخالفتها أو الخروج أو التخلي عنها، بل واعتبر في سابقة شرعية خطيرة أن من لم يلتزم بها فهو من الخوارج.. فإن ما قام به لا يخرج عن التعاريف المشار إليها أعلاه..
إن أكثر من قاوم الاستبداد الديني عبر التاريخ الإسلامي هم العلماء المسلمون، ولا أدل على ذلك وقفة الأمام أحمد بن حنبل في محنة كبيرة تتعلق بقضية خلق القرآن، حيث ضُيّق عليه من قبل ثلاثة خلفاء عباسيين متتاليين، وهم المأمون، والمعتصم، والواثق، ومعلوم أن سبب المحنة كان رفض الإمام أحمد القول بأن القرآن مخلوق، وإصراره على أنه كلام الله غير مخلوق. هذه القضية أدت إلى اعتقاله وتعذيبه، إلا أن الإمام أحمد ثبت ثباتًا قويا في مواجهة تلك المحنة.
وقبل الإمام أحمد هناك وقفة التابعي الجليل سعيد بن جبير في مواجهة ظلم الحجاج بن يوسف الثقفي ومعارضته لطغيان ومطاردته للعلماء من الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان، وكذا استبداد كل من عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك على رعايتهما بذريعة «محاربة الفتنة» باسم الدين، حيث انتهى الصراع بقتل سعيد بن جبير شهيدا في مواجهة الظلم والاستبداد..
ونذكر بعدهما الشيخ ابن تيمية الذي سجن عدة مرات بسبب خلافات فقهية وشرعية وفكرية تعارض الاستبداد الديني لملوك وسلاطين ولاة تلك الفترة، لينتهي به الأمر شهيدا هو الآخر في سجن القلعة.. واللائحة ستبقى مفتوحة في وجه العلماء والدعاة الربانيين الذين انتدبوا أنفسهم لمواجهة الظلم والاستبداد إلى أن يشاء الله..
هذه أمثلة قليلة تبين بأن العلماء المسلمين كانوا في مقدمة وطليعة من واجهوا الاستبداد الديني والسياسي في زمانهم.. ولم يتخلفوا عن واجبهم الشرعي والإنساني تحت أي ذريعة من الذرائع التي يسوقها بعض العلماء، سواء في زمن هؤلاء أو في عصرنا الحالي..
توحيد خطبة الجمعة وفرضها قسرا على الخطاء، ومنهم العالم والأستاذ الجامعي والباحث الأكاديمي ،الذين يفوقون الوزير نفسه علما وفقها ودراية بالشريعة وأصولها وفروعها، لهي سبة في وجه هؤلاء، وإهانة لهم، حيث إن هذه الإجراء «الشاذ» يعتبر تحجيرا لعقولهم، وتكبيلا لحريتهم، وتنقيصا من علمهم، والأخطر من ذلك كله، يعتبر هذا الإجراء عملية تنميط جماعية لمجتمع المصلين، وتدجينا لهم، وتسطيحا لفكرهم وتعلمهم للدين..
حسب ما ورد في كلام السيد الوزير أن 95% من الخطباء يوافقونه على الأمر، وهذا إنْ صح (وأنا أستبعد أن يكون كلامه صحيحا) فإنه يشكل خطورة أخرى على العقل المغربي عامة، بعد أن وافق جزء عريض من نخبته على تلاوة خطبة موحدة على منابرهم.. فإذا قبلت هذه النخبة (خطباء الجمعة) أن يتم التعامل معها بهذه الطريقة المهينة، فكيف سيكون الشأن بالنسبة لباقي عموم الشعب؟
علماء الدين والفقهاء، والوعاظ والدعاة هم ضمير الأمة، ونورها الذي ينير لها الطريق، وحماتها من الظلم والاستبداد، فهم ورثة الأنبياء، يرثون العلم لينشروه ويعلموه للناس، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، منعا للظلم والاستبداد، ويتحملون في سبيل ذلك من البلاء ما تحمله الأنبياء والرسل والسابقون من العلماء المصلحون.. وقد حذرهم من التخلي عن واجبهم الشرعي الشيخ ابن القيم – رحمه الله تعالى – حيث قال: “وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله، وأكثر الدَّيَّانين لا يعبؤون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله، ودينه وكتابه، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يُريدوا فِعلها، وفضلا عن أن يفعلوها، وأَقَلُّ الناس ديناً، وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات، وإن زهد في الدنيا جميعها، وقَلَّ أن ترى منهم من يَحْمَرُّ وجهه، ويُمَعِّره لله، ويغضب لحرماته، ويبذل عِرْضَه في نصرة دينه. وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء، وقد ذكر أبو عمر وغيره أن الله – تعالى -أمر ملكاً من الملائكة أن يخسف بقرية، فقال: يا رب إن فيهم فلاناً العابد الزاهد، قال: به فابدأ، وأسمعني صوته؛ إنه لم يتمعر وجهه في يوم قط”[عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين].
قال الله سبحانه تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} سورة المائدة (63)..، قال ابن النحاس: ” دلت الآية على أن تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمرتكبه “، وهنا يقصد «تاركه» من العلماء.
فبعد هذا الكلام، أَيَحِقُّ لخطباء الجمعة أن يرضوا لأنفسهم هذه الدَّنِيَّة، ويقبلوا أن يُحَجَّر على عقولهم، وتغل أيديهم عن البحث في النصوص والمواضيع التي تهم المسلمين، وتخرس ألسنتهم عن الكلام والخطابة وفق مراد الله لا مراد الوزارة.. وحسب ما يُصلح المصلين لا ما يريده سعادة الوزير؟
على خطاء الجمعة أن يدافعوا عن حقهم في الاستقلالية، وعن حريتهم في البحث والكلام في إطار الحق والقانون، ومن خرج عن ذلك بالبينة والحجة، فحينئذ يمكن إعمال القانون في حقه دون شطط أو تجاوز أو ظلم..
وعلى الخطباء – على قلتهم – الذين امتلكوا الشجاعة ليجدوا وسيلة للاستقلال بخطبتهم عن الخطبة الموحدة أن يزيدوا من مستوى شجاعتهم للتنديد علانية بهذا القرار المهين، ويصرحوا بأعلى الصوت برفضهم للخطبة الموحدة لما تشكله من انتهاك لحرية الخطيب وتحجيرا على عقله.. وتقزيما لدوره في التوعية ونشر العلم الشرعي للناس..
فمتى يقوم العلماء المسلمون والدعاة والوعاظ بالمغرب بدورهم الحقيقي الذي بينه ابن القيم في كلامه أعلاه؟
بينهما سنة التدافع